تقدير موقف

الضربة الروسية الأكبر على أوكرانيا في 7 سبتمبر (أيلول) 2025


  • 11 سبتمبر 2025

شارك الموضوع

شهدت أوكرانيا يوم الأحد، 7 سبتمبر (أيلول) 2025، أكبر ضربة جوية منذ اندلاع الحرب مع روسيا، وذلك وفق التصريحات الأوكرانية والغربية. الجانب الروسي، ممثلًا في وزارة الدفاع والجهات الرسمية المعنية، أكد أن الهجوم استهدف منشآت عسكرية وصناعية ولوجستية مرتبطة بقدرات الجيش الأوكراني، في حين سقط حطام مسيرات في الحي الحكومي بالعاصمة كييف متسببًا في حريق داخل مبني مجلس الوزراء الأوكراني للمرة الأولى منذ بداية العملية العسكرية الروسية.

هذا الحدث يمثل تصعيدًا نوعيًّا له أبعاد أمنية وعسكرية مباشرة، ويطرح في الوقت نفسه انعكاسات أوسع على المستوى الجيوستراتيجي، خصوصًا مع ارتباطه بملف أمن الطاقة الأوروبي، والتحركات الدبلوماسية الروسية- الآسيوية الأخيرة، والموقف الأمريكي المتذبذب بين التهديد بالعقوبات وطرح قنوات اتصال مع موسكو.

1- البعد الأمني- العسكري للضربة  

1.1- طبيعة الأهداف الروسية

وزارة الدفاع الروسية أعلنت تنفيذ ضربات بأسلحة عالية الدقة وطائرات مسيرة على منشآت الصناعات الدفاعية الأوكرانية، ومستودعات الذخيرة، والمطارات العسكرية، والجسور، والرادارات، والهدف المباشر -حسبما قالت الدفاع الروسية- هو تقويض القدرة الأوكرانية على إنتاج وتشغيل المسيرات البعيدة المدى، التي يستخدمها الجيش الأوكراني في ضرب العمق الروسي، فضلًا عن إضعاف شبكات الإمداد الداعمة لجبهات القتال.

1.2- أسلوب الإغراق والتشتيت

اللافت في العملية الروسية، الجديدة نوعيًّا، هو حجم الهجوم، وتنوع وسائطه المستخدمة، حيث تشير التقديرات الأوكرانية إلى إطلاق أكثر من 800 مسيرة خلال عدة ساعات محدودة، حتى مع تحفظ الجانب الروسي -حتى كتابة هذه السطور- على إعلان الأرقام، فإن كثافة النيران تدل على استخدام الجيش الروسي تكتيكًا عسكريًّا يعرف بتكتيك “الإغراق”، عن طريق موجات متتابعة من مسيرات رخيصة وبطيئة، هدفها إنهاك الدفاعات الجوية للخصم، وفتح ثغرات أمام الذخائر الأعلى قيمة، مثل الصواريخ الباليستية، أو المجنحة (كروز).

1.3- رمزية استهداف الحي الحكومي في كييف

وقوع حريق في مبنى مجلس الوزراء الأوكراني، سواء أكان ذلك نتيجة إصابة مباشرة أم نتيجة سقوط حطام بعد الاعتراض، يحمل دلالة رمزية مهمة جدًّا، فهذه هي المرة الأولى التي يقدم فيها القادة الروس على السماح للجيش باستهداف مراكز صنع القرار الأوكراني.

على مدى السنوات الثلاث الماضية، وبعد كل استهداف أوكراني “مهين” لأهداف داخل روسيا، كانت أصوات الصقور، وكذلك المواطنون العاديون، تتعالى بضرورة ضرب مراكز صنع القرار لدى العدو. وهذا الاستهداف يعكس قدرة موسكو على إحداث اختراق في قلب العاصمة كييف، ويبرز محدودية منظومات الدفاع الجوي رغم تعزيزها الغربي، ويرد على كل الانتقادات. كما توجه بواسطته القيادة السياسية والعسكرية الروسية رسالة مزدوجة: إظهار هشاشة العمق السياسي والإداري الأوكراني، وفي الوقت نفسه اختبار قدرة كييف على إدارة آثار نفسية داخلية بسببه.

1.4- استهداف جسر كريوكوفسكي

 الضربة الروسية على جسر كريوكوفسكي في كريمنشوك تعد أهم عناصر العملية من زاوية عسكرية خالصة؛ فهذا الجسر يمثل عقدة لوجستية تمر عبرها خطوط سكك حديدية تربط بولتافا وكريمنشوك ودنيبرو وصولًا إلى محور زابوروجيا، وتعطيله يعقد عملية نقل المعدات الثقيلة والذخائر، ويفرض تحويلات زمنية ومكانية تزيد الضغط على القيادة الأوكرانية، وهذا أيضًا تحول نوعي في التكتيك العسكري الروسي الهجومي، فطول السنوات الماضية من الحرب، كانت تتعالى تساؤلات المراقبين، ودعوات قادة عسكريين سابقين إلى ضرورة ضرب الجسور الحيوية، والتساؤل الدائم كان: لماذا لا يحدث ذلك؟

والسؤال الآن يصبح: لماذا الآن إذن؟ ما المتغير؟ وما الدلالة؟

1.5- منظومة الطاقة بوصفها هدفًا تراكميًّا

 مع اقتراب حلول فصل الشتاء، يتضح أن موسكو تواصل إستراتيجية استهداف محطات الطاقة الحرارية ومحولات نقل الكهرباء وتوزيعها، خصوصًا بعد استهداف أكبر محطة طاقة حرارية في العاصمة كييف خلال الضربة التي نحن بصدد تحليل أسبابها وأبعادها، والهدف الواضح بالطبع ليس إحداث انقاطعات وقتية فقط؛ وإنما تفكيك تدريجي لشبكة الطاقة، وجعل إصلاحها عملية مستنزفة على المدى الطويل.

2- البعد الجيوستراتيجي للضربة الروسية  

2.1- خط أنابيب “دروجبا” النفطي وأمن الطاقة الأوروبي

الهجمات الأوكرانية المتكررة على خط أنابيب “دروجبا”، الذي لا يزال ينقل النفط الروسي إلى المجر وسلوفاكيا، أضافت بعدًا إقليميًّا حساسًا في سياق الصراع والتصعيد العسكري المتبادل، فالمجر وسلوفاكيا تعتمدان -جزئيًّا- على هذا الخط لتأمين إمداداتهما. ورغم تأكيد بودابست أن التدفق لم يتوقف، فإن الأخطار أصبحت واضحة.

موسكو استثمرت هذه النقطة سياسيًّا من خلال إبراز “تهور” كييف في التعامل مع أمن الطاقة الأوروبي، في حين التزمت بروكسل الصمت النسبي؛ لحساسيتها تجاه حكومتي بودابست وبراتيسلافا.

2.2- ارتباط الضربة بالدبلوماسية الآسيوية

أتي الهجوم متزامنًا تقريبًا مع قمم كبرى في آسيا، وأقصد قمة منظمة شنغهاي للتعاون، التي عقدت في تيانجين، وكذلك العرض العسكري الضخم في بكين، الذي حضره الرئيس الروسي، بصفته ضيف الشرف الرئيس، إلى جانب الرئيس الصيني شي جين بينغ، والزعيم الكوري الشمالي كيم جونج أون، وهذه الأحداث أرسلت إشارة واضحة بأن موسكو ليست معزولة بالكامل، وأنها قادرة على إظهار عمق دبلوماسي شرقي، يوفر مظلة سياسية في مواجهة الضغوط الغربية.

2.3- إدارة ترمب.. وازدواجية العقوبات والحوار

الموقف الأمريكي يظل ملتبسًا؛ فتصريحات ترمب عن إمكانية فرض “مرحلة ثانية” من العقوبات، أو “عقوبات ثانوية”، تتناقض مع تأكيده نيته التحدث إلى بوتين “قريبًا جدًّا”. هذا التباين يعكس صعوبة بلورة سياسة أمريكية متماسكة، لكنه يمنح موسكو -من وجهة نظر واقعية- هامشًا لإدارة الوقت من خلال تكثيف الضغط الميداني، دون توقع تسوية عاجلة.

2.4- السياق الأوروبي

على الرغم من تزايد المخاوف في أوروبا، خصوصًا على المستوى الشعبي والمجتمعي، بشأن إمدادات الطاقة واللاجئين، فإن الاتحاد الأوروبي لا يزال ملتزمًا بخط دعم أوكرانيا سياسيًّا وعسكريا، لكن التوترات مع المجر وسلوفاكيا تكشف عن شروخ محتملة داخل الموقف الأوروبي إذا استمرت كييف في استهداف خط “دروجبا”.

تقدير الموقف

1- عسكريًّا:

هناك تحول نوعي في اختيار الأهداف ورمزيتها وأهميتها، وبذلك أثبتت موسكو قدرتها على تنفيذ هجمات واسعة النطاق تربك الدفاعات الأوكرانية، وتستهدف عقدًا لوجستية حيوية، لكن هذه الضربات، رغم أثرها، تبقي مكملة لعمليات الجبهة المباشرة، ولن تكون حاسمة وحدها في نتيجة الحرب.

2- اقتصاديًّا- طاقويًّا:

الاستنزاف المتكرر لشبكة الطاقة الأوكرانية سيزيد الضغوط، خصوصًا مع حلول الشتاء، في حين يضع أوروبا أمام معضلة بلوزة معادلة موازنة بين التضامن مع كييف وضمان أمنها الطاقوي الداخلي.

3- سياسيًّا- دبلوماسيًّا:

لا توجد مؤشرات على استعداد أوكراني أو روسي للدخول في مفاوضات جدية، وقد أكدت تصريحات بوتين في الجلسة العامة لمنتدى الشرق الاقتصادي من فلاديفوستوك يوم 5 سبتمبر (أيلول) 2025 استحالة التوصل إلى اتفاقات موضوعية في المرحلة الراهنة.

4- دوليًّا:

تراهن موسكو على “العمق الشرقي” من خلال منظمة شنغهاي للتعاون، والتقارب مع الصين والهند وكوريا الشمالية، فضلًا عن تكثيف العمل عبر بريكس؛ وذلك كعامل موازن للعزلة الغربية.

السيناريوهات المحتملة

بعدما قدمنا هذه القراءة، يمكننا افتراض السيناريوهات التالية لتطورات الحرب بعد هذه الضربة النوعية:

1- استمرار نمط الضربات الروسية الجديدة المركبة،  باستخدام موجات كثيفة من المسيرات لإغراق الدفاعات الأوكرانية، مع استهداف منشآت نقل وطاقة جديدة. ولا نستبعد العودة مجددًا إلى استهداف مراكز صنع القرار الرئيسة في أوكرانيا.

2- تصعيد أوكراني مضاد، من خلال زيادة الهجمات بالمسيرات على مصافي النفط الروسية، وخطوط إمداد الطاقة، بما يرفع التكلفة الداخلية لموسكو.

3- تشديد العقوبات الغربية على روسيا: قد تتجه واشنطن مع الاتحاد الأوروبي إلى استهداف مشتري النفط الروسي، مستهدفين إضافة ضغوط طويلة الأمد على الاقتصاد الروسي، خصوصًا في ظل الأحاديث الأوروبية عن الإعداد لتبني الحزمة التاسعة عشرة من العقوبات.

4- تصدعات أوروبية: تزايد اعتراضات المجر وسلوفاكيا على سياسات كييف قد يفتح نقاشًا أوسع داخل الاتحاد الأوروبي بشأن حدود الدعم وشكله.

5- جمود تفاوضي ممتد: غياب أفق لتسوية سياسية قريبة، مع استمرار إدارة الحرب من كل الأطراف (الحرب ليست بين طرفين بحال) على أساس حرب استنزاف طويلة.

وفي الختام نقول:

تعكس ضربة السابع من سبتمبر (أيلول) 2025 الروسية على أوكرانيا نمطًا جديدًا متصاعدًا من التصعيد الروسي الممنهج، الذي يهدف إلى إنهاك القدرات الأوكرانية عسكريًّا واقتصاديًّا، فضلًا عن إرسال رسائل رمزية عن هشاشة العمق الأوكراني.

على الصعيد الجيوستراتيجي، ستوظف هذه الضربة الروسية، بشكلها وتكتيكها الجديد، في لعبة أوسع تتعلق بأمن الطاقة الأوروبي، وبالمواجهة الاقتصادية مع الغرب، فضلًا عن إظهار الشراكة مع القوى الآسيوية بطريقة استعراضية.

حتى اللحظة، لا يظهر أي من الطرفين استعدادًا فعليا للدخول في مفاوضات جدية؛ وعليه، تبقى الحرب مرشحة للاستمرار على قاعدة الاستنزاف طويل الأمد، مع احتمالات تصعيد متبادل على صعيد منشآت الطاقة والبنى التحتية الحيوية، وتزايد خطر الانزلاق إلى أزمة أوروبية داخلية بشأن الموقف من كييف.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع