تقدير موقف

الضربة الأمريكية لمنشآت إيران النووية.. وتداعياتها الإقليمية والدولية


  • 25 يونيو 2025

شارك الموضوع
i مصدر الصورة: cbsnews

وضع الهجوم الأمريكي على المنشآت النووية الإيرانية يوم 22 يونيو/ حزيران 2025 مجموعة القوى الفاعلة -على رأسها روسيا- أمام تحديات جديدة تتعلق بمستقبل التوازن الإقليمي، وكذلك حدود الدور والتدخل الممكن.

فقد مثلت هذه الضربة الأمريكية نقطة تحول جديدة وخطيرة في مسار التفاعلات الإقليمية والدولية في الشرق الأوسط. كما أنها تمثل -بلا مبالغة- تهديدًا واقعيًّا وتحديًا جادًّا لأسس النظام الدولي الذي يفترض أنه قائم على مبادئ السيادة، وعدم استخدام القوة خارج الأطر الشرعية.

من موسكو -حسبما أتابع، وقد كنت حريصًا على عدم الاستعجال في تقديم تحليل أو قراءة للهجوم- يُنظر إلى هذا الحدث على مستويين:

– رسميًّا: بوصفه عدوانًا غير مشروع على دولة ذات سيادة.

– ضمنيًّا واستراتيجيًّا: بوصفه مؤشرًا على فشل واشنطن في ضبط المعادلات الإقليمية من خلال الردع التقليدي، وبداية تحول نحو صراع مفتوح قد تستفيد منه موسكو سياسيًّا ودبلوماسيًّا في المدى المتوسط.

وإذا توقفت عند القراءة الروسية الرسمية للهجوم الأمريكي، الذي لا أستطيع الحكم الآن بموضوعية عن نتائجه وما حققه، ومدى تدميره للمنشآت، وتأثيره المجمل في البرنامج النووي الإيراني،  فقد جاءت ردود الفعل الروسية على مستويين، أولهما انعكس في  خطاب الإدانة العلني، فقد وصفت الخارجية الروسية الضربة الأمريكية بأنها “انتهاك جسيم للقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة”. كما أكدت أن الضربة تمثل “تصعيدًا غير مبرر”.

كما شددت موسكو الرسمية على أن العمل العسكري ضد منشآت تخضع لرقابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية يعد سابقة خطيرة تقوض أسس نظام عدم الانتشار.

ومع ذلك أعادت تأكيد ضرورة العودة إلى الحوار، وتفعيل قنوات الأمم المتحدة، واستغلت الفرصة للإشارة إلى ضرورة التنسيق مع إيران وشركاء آخرين في مجلس الأمن.

الخطاب الضمني أو خطاب المصلحة الإستراتيجي: ويمكن قراءته بالطبع من واقع ما تقوله تحليلات دوائر القرار الروسية، التي تشير-في مجمل ما اطلعت عليه حتى وقت كتابة هذه السطور- إلى إخفاق واشنطن في تحقيق اختراق إستراتيجي حقيقي، وتفسر ذلك بأن المعلومات الأولية تؤكد أن المنشآت النووية الإيرانية المستهدفة في الهجوم الأمريكي لم تدمر بالكامل.

كما يرى هذا الخطاب الضمني أن الهجوم الأمريكي قد ينتج أثرًا عكسيًّا، يتمثل في توحيد أكبر في الجبهة الداخلية الإيرانية، وتبرير تسريع البرنامج النووي بوصفه حقًّا سياديًّا مستحقًا لإيران بعد هذا العدوان السافر غير المبرر.

والأهم -من وجهة نظري وحسب فهمي للخطاب الإستراتيجي الروسي- أن موسكو تستطيع الآن استغلال التصعيد الأمريكي بتأكيد أنه يضعف شرعية النظام الدولي، الذي تدعي واشنطن حمايته؛ وبذلك يفتح الفعل الأمريكي، المنتهك لكل قواعد القانون الدولي، المجال أمام أدوار بديلة لقوى غير غربية.

وإذا تحدثت عن التقديرات الروسية للنتائج الأولية للهجوم الأمريكي، فتشير هذه التقديرات إلى أن التأثير العسكري محدود؛ لأن المنشآت الإيرانية محصنة بشدة، وأغلبها عاود العمل خلال ساعات، وأنا هنا أنقل ما تقوله هذه التقديرات، ولا أعبر عن تقديري الشخصي.

كما أن التأثير النووي في البرانامج الإيراني سيكون فقط تأخيرًا تكتيكيًّا لا يتجاوز الأشهر، وليس سنوات كما بدأت بعض التقييمات التي لا تستند إلى معلومات موضوعية أو بيانات تفترض.

والمؤكد أن هذا الهجوم لم ينجح في وقف مسار ايران النووي، حتى الآن على الأقل.

أما التأثير السياسي، فعلى المستوى الداخلي الإيراني سوف تؤدي هذه الضربة إلى تعزيز النظام الإيراني، وتراجع التيار الإصلاحي. وعلى المستوى الخارجي، والشرعية الدولية، ستقوض هذه الضربة وهذا الهجوم هيبة مجلس الأمن أكثر فأكثر، فواشنطن تصرفت على أنها سيدة العالم، وكأن لا وجود لمجلس أمن، أو أمم متحدة، فضلًا عن تهميش الوكالة الدولية للطاقة الذرية بعد موقفها المخزي من كل ما يجري.

وعلى مستوى التوازن الإقليمي، لا جدال  أن ما حدث سيدفع إيران نحو تحالفات أكثر انغلاقًا مع روسيا والصين وكوريا الشمالية، بالإضافة إلى تعزيز التعاون مع بعض دول أمريكا اللاتينية.

إذن ما السيناريوهات المتحتملة الآن؟ من زاوية النظر من هنا، من موسكو، تبدو هذه السيناريوهات كالتالي:

1- تصعيد محدود قابل للاحتواء، فما استطعت قراءته والاطلاع عليه حتى الآن يشير إلى أن روسيا ترى أن السيناريو المرجح هو التصعيد عن طريق أدوات غير مباشرة، مثل: هجمات بالوكالة، أو إغلاق جزئي لمضيق هرمز، أو هجمات سيبرانية، دون انزلاق نحو حرب شاملة، وهو ما يسمح لموسكو بالعودة إلى طرح خدماتها للتوسط، وطرح نفسها بوصفها قوة توازن.

2- انهيار منظومة عدم الانتشار، وذلك قد يحدث إذا اتخذت إيران خطوات نووية أكثر حدة، وهو ما قد يحاول بوتين أن يقنع به وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي -خلال لقائهما في الكرملين اليوم- وذلك لأن موسكو تدرك أن ذلك إن حدث سوف يضعها أمام مأزق دبلوماسي.

لكنها ترى في هذا السيناريو أيضًا -إن تحقق- فرصة لبناء مبادرة جديدة لرقابة متعددة الأطراف، تدار بعيدًا عن الهيمنة الغربية.

3- تعاظم الدور الروسي في منطقة الخليج، فحسبما أقرأ بين سطور الموقف الروسي، أرى أن لدى موسكو تقديرات بأن تصاعد التوتر الإقليمي سيدفع بعض دول الخليج نحو تنويع شراكاتها الأمنية، وهو ما قد يُفسح المجال لمزيد من الانخراط والمشاركة الروسية في ترتيبات أمنية بديلة عن الاحتكار، والأحادية الأمريكية.

وأختم بالقول: من منظور روسي، يبدو لي -حتى الآن- أنه مع أن الضربة الأمريكية لإيران تمثل تطورًا بالغ الخطورة، فإنه ليس مفاجئًا لموسكو، وقد تم التعامل معه -أي هذا التطور- بمزيج من الإدانة  القانونية العلنية، والاستثمار الإستراتيجي غير المباشر.

موسكو، وهي تدرك محدودية القدرة الأمريكية حاليًا على إدارة نزاع طويل المدى، من واقع معلومات موضوعية عن حالة المجمع الصناعي العسكري الأمريكي، تسعى إلى تعزيز موقعها بوصفها قوة ضامنة للاستقرار، لا عن طريق التورط العسكري المباشر؛ بل عن طريق خلال الهندسة الدبلوماسية للأزمات البعيدة نسبيًّا عن مجالها الحيوي المباشر للأمن القومي، فضلًا عن توظيف الإصطراب القائم لتثبيت قواعد نظام دولي جديد غير خاضع للهيمنة الغربية المطلقة والأحادية.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع