مقالات المركز

الضبعة تدشن “خريطة طريق جديدة” بين القاهرة وموسكو


  • 31 يناير 2024

شارك الموضوع

دشنت مشاركة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في احتفال صب الخرسانة في المفاعل الرابع لمحطة الضبعة للطاقة النووية في 13 يناير (كانون الثاني) الجاري، “نقلة نوعية “، و”خريطة طريق” جديدة لتعزيز العلاقات المصرية الروسية في جميع المجالات السياسية، والاقتصادية، والثقافية، فروسيا تنظر إلى مصر بوصفها “قوة الاستقرار والسلام” في الشرق الأوسط ، وأن القاهرة هي “محور التفاعلات السياسية” في الإقليم العربي؛ ولهذا لم يكن غريبًا أن يقع اختيار روسيا على مصر لبناء أول محطة للطاقة النووية في إفريقيا لتحقيق حلم المصريين منذ الستينيات في اقتناء الطاقة النووية السلمية التي دائمًا يكون لها ثمار إيجابية، ليس فقط في قطاع الطاقة؛ بل في مجالات أخرى تحتاج إليها مصر، مثل تحلية المياه، وتطوير الصناعة.

وتتناغم الكلمات التي ألقاها كل من الرئيس عبد الفتاح السيسي والرئيس فلاديمير بوتين في الاحتفال، ليس فقط مع العلاقات التاريخية الضاربة في العمق والجذور؛ بل مع اتفاقية الشراكة الإستراتيجية الكاملة التي وقعها البلدان في 18 أكتوبر (تشرين أول) عام 2018، ودخلت حيز النفاذ منذ 10 يناير (كانون الثاني) عام 2021، وكل هذا يضيف ليس فقط إلى أكثر من 80 عامًا من العلاقات الدبلوماسية المصرية؛ بل إلى كل القيم المشتركة بين الشعبين الروسي والمصري منذ استضافة المصريين على مدار سنوات طويلة للحجاج الروس وهم في طريقهم إلى القدس، وكتابات الرحالة الروس ورسومهم عن المدن والشعب المصري، فما “القيم المضافة” التي تقدمها “محطة الضبعة النووية” لمسيرة العلاقات المصرية الروسية في جميع المجالات؟ وكيف تبني القاهرة وموسكو على ما لديهما من رصيد لتحقيق أقصى استفادة مما لديهما من مقدرات وموارد؟ وإلى أي مدى تنعكس هذه الشراكة الجديدة على تدعيم العلاقات الروسية مع الدول والأمة العربية؟

350 عامًا من العلاقات

محطة الضبعة ليست مجرد مشروع اقتصادي يضاف إلى نحو 97 مشروعًا قوميًّا شاركت روسيا والاتحاد السوفيتي السابق في بنائه مع مصر خلال الثمانين عامًا الماضية؛ لكن مشروع الضبعة يضيف نحو 100 عام جديدة إلى رصيد العلاقات المصرية الروسية؛ لأن صلاحية محطة الضبعة تمتد إلى نحو 100 عام، تضاف إلى نحو 250 عامًا من العلاقات القوية بين الشعبين المصري والروسي منذ افتتحت روسيا قنصليتها في مصر عام 1784، ويحتل مشروع الضبعة مكانة خاصة لدى المصريين مع المشروعات العملاقة والتاريخية التي أسهمت روسيا في تأسيسها في مصر مثل السد العالى، ومجمع الحديد والصلب في حلوان، ومجمع الألومنيوم في نجع حمادي، ومد خطوط الكهرباء العملاقة من أسوان إلى الإسكندرية.

ويحقق بناء روسيا لمحطة الضبعة كثيرًا من المزايا والمكاسب لمصر وللعلاقات الروسية المصرية، منها:

1- موسكو لم تضع أي شروط سياسية على مصر لإقامة المحطة النووية، ولروسيا تاريخ طويل فى دعم مصر، فهى من أنشأت مفاعل أنشاص، وبهذا نجحت مصر في الوصول إلى حلمها في بناء محطة نووية دون أي شروط، أو إملاءات سياسية.

2- تحقق محطة الضبعة لمصر كثيرًا من المميزات، منها أن المرحلة الأولى من الضبعة سوف توفر 4800 ميجا وات من الكهرباء، وتستطيع المحطة على المدى البعيد استيعاب 8 محطات نووية على 8 مراحل، المرحلة الأولى تستهدف إنشاء محطة تضم 4 مفاعلات نووية لتوليد الكهرباء بقدرة 1200 ميجا وات بإجمالي قدرات 4800 ميجا وات.

3- تشمل بنود العقد الروسى أن تسدد مصر قيمة المحطة النووية بعد الانتهاء من إنشائها وتشغيلها، وذلك من العائد الناتج من المحطة، مع وجود فترة للسداد، وتوفر روسيا 90% من تمويل المشروع، وتوفر مصر 10%، وسيُسدد القرض الروسي على مدى 22 عامًا، على 43 قسطًا، بمعدل قسطين كل سنة، بفائدة بسيطة غير مركبة 3%، ويحقق مشروع الضبعة للخزانة المصرية ما يفوق 264 مليار دولار صافي ربح؛ لأنه سيسهم فى تخفيض أسعار الطاقة للمصانع، وهو ما يجعل الصادرات المصرية أكثر تنافسية.

4- إنشاء مصانع روسية في مصر لتصنيع مكونات المحطة النووية محليًّا، وهو ما سيعمل على تطوير الصناعة المحلية في مصر، وسوف تكون نسبة المساهمة المصرية في المفاعل الأول من 20 إلى 25%، كما تتزايد نسبة المساهمة المحلية مع الوحدات المتتابعة، حيث تصل إلى 35% في المفاعل الرابع، وهذا الأمر مهم جدًّا؛ لأنها تسهم في تحديث الصناعة المصرية وتطويرها، مما يساعد على إدخال صناعات جديدة سترفع جودة الصناعة المصرية، وهو ما أشار إليه الرئيس بوتين في كلمته خلال الاحتفال.

5- تعقد روسيا دورات تدريبية للكوادر المصرية على استخدام التكنولوجيا النووية، ونقل الخبرات الروسية في هذا المجال للمصريين.

6- تنتمي محطة الضبعة إلى تكنولوجيا الجيل الثالث، وهو أحدث أجيال المحطات النووية في العالم، وتؤكد تفاصيل محطة الضبعة أن نسبة الأمان 100%، ولا يوجد أي تأثير في البيئة، وأنها ستعمل بتكنولوجيا الجيل الثالث المستخدمة في المحطة، لتحقيق أعلى معدلات الأمان النووي، كما يحتوي المفاعل من هذا الجيل على تصميم بسيط وموثوق به ومقاوم لخطأ المشغل “العامل البشري”، كما أن المحطة صُممت ضد الحوادث الضخمة، كسقوط الطائرات.

7- تحرق المفاعلات الروسية كمية كبيرة من الوقود، وتخرج كمية قليلة من النفايات المشعة، وتضمن هذه المفاعلات عدم التسرب الإشعاعي عن طريق الحواجز المتعددة، كما يوجد فيها نظم السلامة السلبية والإيجابية، وتمتلك هيكلًا بسيطًا وسهلًا للإدارة وإزالة أخطاء الموظفين، حيث تحتوى هذه المفاعلات على نظام التحكم الآلي الحديث، كما أن سور المحطة أُنشئ بطريقة متقدمة ضد الصواريخ، وستُستغَل الطاقة الكهربائية المولدة من المفاعلات النووية الأربعة بقدرة 4800 ميجا وات لتحلية المياه، سواء في منطقة الضبعة أو في العلمين، لتوفير المبالغ الضخمة في تحلية مياه البحر وتحويلها إلى مياه صالحة للشرب.

8- سوف توظف محطة الضبعة آلاف المصريين، خاصة الذين يدرسون في روسيا، وهناك ما يزيد على ١٦ ألف طالب مصري يدرسون في الجامعات والمعاهد الروسية، وأغلبهم في مجالات الهندسة، والطب، والزراعة، وكلها مجالات تتعلق بعمل محطة الضبعة مباشرة.

الضبعة تدشن مرحلة جديدة

المدقق في الخطاب السياسي والإعلامي المصري الروسي يتأكد أن البلدين ينطلقان من ثوابت وقيم مشتركة، تعزز من المصالح والأهداف المتبادلة، فالقاهرة وموسكو ترتكزان على أسس واضحة تشكل “منصة قوية” لإطلاق تعاون غبر مسبوق في المرحلة القادمة، وبعد الاحتفال المصري الروسي المشترك بتدشين المرحلة الرابعة من محطة الضبعة، يمكن وضع العلاقات المصرية الروسية في مجموعة من المحددات، وهي:

أولًا: الدعم المتبادل

خلال أكثر من قرنين ونصف القرن مرَّ البلدان بتحديات كبيرة، لكن العنوان الأكبر لكل هذه الفترة الطويلة كان هو “الدعم المتبادل” بين القاهرة وموسكو، خاصة في وقت الأزمات والتحديات، ومنها:

1- توجيه الاتحاد السوفيتي إنذارًا لدول العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، وهو ما أوقف العدوان الإسرائيلي البريطاني الفرنسي الثلاثي على مصر، وهو ما يطلق عليه “الإنذار النووي” الذي أطلقه الاتحاد السوفيتي، كنوع من التهديد المباشر للدول الثلاث المعتدية على مصر في ذلك الوقت.

2- دعم موسكو لإعادة تسليح الجيش المصري بعد حرب 1967، ومشاركة الطيارين الروس في عمليات حرب الاستنزاف إلى جانب المصريين، وهو ما يدلل على أنها “شراكة دم لا تنسى”، كما أن الاتحاد السوفيتي وفر جسرًا جويًّا من المساعدات إلى مصر وسوريا في حرب 1973.

3- دعم روسيا الكامل وغير المشروط لإرادة الشعب المصري في ثورة 30 يونيو 2013، من خلال دعم سياسي واقتصادي وعسكري واضح، بعد أن أوقف الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما تسليم المساعدات العسكرية الأمريكية لمصر في أكتوبر 2013، رغم حاجة مصر إليها في ذلك التوقيت لمواجهة الإرهاب.

5- دعمت روسيا عودة مصر إلى محيطها الدولي والإقليمي عقب ثورة 30 يونيو 2013، وكان هذا واضحًا في دعم مشاركة مصر في جميع المبادرات الإقليمية، ومقاومة أي محاولة لتهميش الدور المصري، وهو ما برز جليًّا في الرعاية المصرية الروسية المشتركة لاتفاقيات خفض التوتر في الغوطة الشرقية، وريف حمص الشمالي في أثناء حرب الجيش السوري ضد المجموعات الإرهابية في سوريا.

7- دعوة روسيا إلى ضم مصر عضوًا رئيسًا في “الرباعية الدولية” التي ترعى عملية السلام منذ عام 2002، والتي تضم روسيا، والولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، والأمم المتحدة.

8- هناك دعم روسي كامل للرؤية المصرية في ملفات ليبيا، ومكافحة الإرهاب، والهجرة غير المنظمة.

9- “الاستثمار في الاستقرار”، إذ ترى روسيا أن الاستثمار في مصر هو “استثمار فى الاستقرار”؛ ولذلك ساندت روسيا الاقتصاد المصري، خاصة منذ عام 2013، من خلال تأكيد الرئيس بوتين فتح الاسواق الروسية أمام السلع والخدمات المصرية، وإنشاء المنطقة الاقتصادية الروسية في محور قناة السويس بـ7 مليارات دولار، وسوف تكون بعد اكتمالها أكبر مركز صناعي فى المنطقة لتصدير المنتجات الروسية إلى الشرق الأوسط وإفريقيا، وكان من نتيجة ذلك أن ارتفعت قيمة التبادل التجاري بين مصر وروسيا لتصل إلى 4.7 مليار دولار خلال عام 2022، مقابل 4.1 مليار دولار خلال عام 2021، بنسبة ارتفاع قدرها 16.2%.

وبلغ عدد الشركات الروسية التي تستثمر في مصر نحو 470 شركة روسية، بإجمالي استثمار 7.4 مليار دولار، يوفر آلاف فرص العمل.

10- تحرص روسيا على أمن مصر الغذائي، فمصر هي أكبر عميل لروسيا في شراء القمح.

11- دعم روسي لدخول مصر للاتحاد الأوراسي قبل نهاية العام، وقد قال الرئيس بوتين في شهر ديسمبر الماضي إن مصر قريبة جدًّا من دخول الاتحاد الأوراسي، كما أن روسيا دعمت مصر بقوة للحصول على عضوية مجموعة البريكس.

12- على الجانب الآخر، هناك دعم مصري لروسيا في المنطقة العربية والشرق الأوسط، فمصر أقامت علاقات دبلوماسية مع الاتحاد السوفيتي في أغسطس (أب) 1943، في أثناء الحرب العالمية الثانية، وهو ما يعني أن مصر كانت تدعم الاتحاد السوفيتي في حربه على النازية، كما أن مصر كانت من أوائل الدول التي أقامت علاقات مع روسيا عام 1991 بعد تفكك الاتحاد السوفيتي السابق.

13- قادت مصر العالم العربي عندما اتجهت شرقًا نحو الاتحاد السوفيتي في خمسينيات القرن الماضي وستينياته، واليوم مع الدفء الشديد للعلاقات الروسية المصرية، فإن الدفء نفسه بدأ ينسحب على العلاقات الروسية مع العالم العربي.

14- تدعم مصر تعزيز العلاقات الروسية الإفريقية المشتركة، خاصة في مجالات الاستثمار والتجارة، فمصر هي أكبر شريك تجاري لروسيا في العالم العربي وفي إفريقيا أيضًا، ويصل حجم التجارة الروسية مع مصر إلى نحو 80% من تجارة روسيا مع إفريقيا جنوب الصحراء، وقاد الرئيس عبد الفتاح السيسي الجانب الإفريقي في القمة الإفريقية الروسية الأولى عام 2019، كما شارك في القمة الثانية عام 2023، وتشارك مصر روسيا الهدف للوصول بالتجارة الروسية الإفريقية إلى نحو 40 مليار دولار عام 2025.

ثانيًا: الشراكة في القيم

تشترك مصر وروسيا في شراكة عميقة أساسها الايمان بالقيم المشتركة، ومنها:

1- رفض موسكو والقاهرة الشروط السياسية والتدخلات في شؤون الدول الأخرى، وضرورة احترام النمط السياسي والتنموي للشعوب والدول الأخرى، وعدم السعي إلى فرض نموذج بعينه على هذه الدولة أو تلك.

2- عدم التسامح مع التنظيمات الإرهابية والظلامية، وهي قيمة جعلت من البلدين نموذجًا في محاربة الإرهاب والتطرف في كل دول العالم.

3- الأولوية الأولى في الوقت الحالي لمصر وروسيا هي وقف الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وأن كل ما يجري في المنطقة هو “عرض لمرض”، والمرض هو حرب إسرائيل على الشعب الفلسطيني.

المؤكد أن مشاركة الرئيس بوتين لصديقه الرئيس عبد الفتاح السيسي في احتفالات مصر بصب الخرسانة في المفاعل الرابع، تؤكد وجود إرادة سياسية مشتركة للارتقاء بالعلاقات المصرية الروسية إلى آفاق تليق بما يملكه البلدان والشعبان من تاريخ مشترك، وإمكانات ضخمة.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع