ابتعدت الصين عن تبني أي موقف واضح حيال العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، الذي جاء بعد هجمات قامت بها حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، خلّفت مئات القتلى الإسرائيليين، وأدت إلى أسر أكثر من مئتين آخرين. لكن في منتصف نوفمبر (تشرين الثاني)، استقبلت بكين وزراء خارجية الدول العربية والإسلامية لإيجاد نهاية للصراع، وأصدرت بكين خريطة طريق من خمس نقاط، حثت فيها مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة على وضع جدول زمني، وآلية “ملموسة” لحل الدولتين، واستمرت متابعة وزير الخارجية الصيني وانغ يي مع نظيره الإيراني حسين أمير عبد اللهيان للحد من احتمالات فتح جبهة ثانية على طول الحدود اللبنانية.
وكانت وجهة النظر الأولية للصين بشأن الحرب الحالية بين إسرائيل وحماس تتلخص في أنها دورة عنف جديدة بين الإسرائيليين والفلسطينيين، ومن الأفضل عدم التورط- تورطًا كاملًا- مع أحد الطرفين، والحفاظ على سياستها المحايدة بوصفها “محبة للسلام”، وتتبنى “الحوار” لحل القضايا والنزاعات، على عكس الولايات المتحدة الأمريكية. كما أن بكين تحاول- في المرحلة الحالية- الموازنة بين علاقاتها مع إيران، وتنامي علاقاتها مع الدول العربية، ولا سيما بلدان الخليج، ولا تريد لأي تورط سياسي أن يُفشل وساطتها بين طهران والرياض، التي عززت مكانة بكين الدبلوماسية كثيرًا في الشرق الأوسط.
لذا، منذ اندلاع الحرب على غزة، لم يُدن المسؤولون الصينيون حماس، ولم يشيروا إلى الحركة على أنها منظمة إرهابية. كما بررت لإسرائيل تصرفاتها باعتبارها دفاعًا عن النفس، لكنها شددت أن تنامي الهجوم الإسرائيلي يعد تجاوزًا لهذا الحق. ودعا الرئيس الصيني شي جين بينغ، في أول خطاب علني له بشأن الحرب، في نوفمبر (تشرين الثاني)، إسرائيل إلى التوقف عن فرض “العقاب الجماعي” على شعب غزة، وجدَّد الدعوة إلى وقف إطلاق النار، وحل الدولتين.
وأُرسِلَ المبعوث الصيني الخاص تشاي جون في جولة من الزيارات إلى الشرق الأوسط؛ من أجل إثبات الحضور الصيني، وكانت محطته الأولى هي قمة القاهرة في مصر، التي حضرها في الأساس ممثلون عن كثير من الدول الإسلامية، والعربية، والأوروبية، والآسيوية. وفي هذه القمة، كرر تشاي جون موقف الصين المتمثل في ضرورة عدم تهميش القضية الفلسطينية، وأنه من المهم التوصل إلى حل “شامل وعادل، وطويل الأمد”، يقوم على فكرة الدولتين – إسرائيل والدولة الفلسطينية. وأضاف أن “الصين ستواصل العمل مع جميع الأطراف المعنية في المجتمع الدولي لبذل جهود متواصلة لإنهاء الحرب في غزة”. ومن القاهرة، سافر المبعوث الخاص إلى قطر، واستمرت مهمته في المملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، كما أكد كبار المسؤولين العرب الذين التقوا وتحدثوا إلى تشاي جون أن دولهم تولي أهمية كبيرة لدور الصين ونفوذها، وأنهم على استعداد لتعزيز اتصالاتهم مع بكين، وبذل الجهود لحل القضية الفلسطينية. إجمالًا، موقف الصين الدبلوماسي متسق مع موقف الدول العربية. وفي الأمم المتحدة أيضًا، انضمت الصين إلى إعلان الأردن الداعي إلى وقف فوري لإطلاق النار لأسباب إنسانية، وتكررت عدة تصريحات للمتحدثين باسم الخارجية الصينية مفادها أن رؤية “بناء مجتمع مصير مشترك للبشرية”، التي يدعو إليها الرئيس شي جين بينغ، تساعد على تحديد الاتجاه لحل القضية الفلسطينية الإسرائيلية.
كانت الصين واضحة بشأن الحاجة إلى وقف إطلاق النار في الأشهر الأخيرة، لكن جهودها العملية لمعالجة الصراع كانت قاصرة مقارنة بجهود الولايات المتحدة. وحتى الآن، لم يَزُر أي وزير صيني إسرائيل، أو الأراضي الفلسطينية. وهكذا وجدت الصين نفسها في موقف غير مريح، حيث خربت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة المفهوم الذي روجت له بكين بقوة في السنوات الأخيرة، وهو أن الولايات المتحدة انسحبت من الشرق الأوسط لصالح الحضور الصيني، وأن هناك تقاربًا صينيًّا- خليجيًّا فاعلًا، وتناميًا للاتفاقات الاقتصادية والعسكرية، لكن الحضور الأمريكي يتوسع الآن في مياه الخليج، وتشعر البلدان العربية بضرورة وجود دعم أمريكي لمواجهة تهديدات خطوط الملاحة البحرية من إيران وحلفائها، لا سيما جماعة الحوثي في اليمن.
كما أن النفوذ الصيني المؤثر في إيران أصبح مشكوكًا في مدى جدواه، حيث لم يكن هناك دور صيني بالتواصل مع طهران من أجل عدم انخراط ميليشياتها العسكرية في الصراع، أو للضغط على حماس للتوصل إلى حل أزمة الأسرى الإسرائيليين، ولم يكن هناك أي دور صيني لحماية خطوط الملاحة الدولية من الهجمات اليمنية التي تشنها جماعة الحوثي على السفن التجارية، علمًا بأنها تؤثر- تأثيرًا مباشرًا- في وارداتها وصادراتها. وتبدو هذه “السلبية” سياسة نابعة مِن عدم اهتمام بكين بحل الصراع بقدر استخدامه لتحدي الولايات المتحدة، وتقديم نفسها بديلًا يسعى إلى السلام. وبالفعل، يشكل الصراع في غزة فرصة للصين لتصوير الولايات المتحدة على أنها داعم مُطلق للجيش الإسرائيلي في حربه على غزة. وتظهر استطلاعات الرأي بالفعل أن الجماهير تفضل الصين على الولايات المتحدة في كثير من الدول العربية. وفي مختلف أنحاء العالم النامي، تفاقمت حالة عدم الثقة بالولايات المتحدة بسبب الحرب.
وأخيرًا، فيما يتعلق بسيناريو كيف ستتعامل الصين مع غزة في اليوم التالي لنهاية الحرب؟ إذا افتُرِضَ وجود دور لبكين في غزة، فغالبًا سيكون في إعادة الإعمار، والمساعدات الاقتصادية، أو من خلال بعثات حفظ السلام، بوصفها أكبر مقدم لقوات حفظ السلام بين الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، حيث تنشر الصين (8000) جندي من قوات حفظ السلام ضمن القوة الاحتياطية التابعة للأمم المتحدة، ولكن لا ينتشر حاليًا سوى بضعة آلاف من قوات حفظ السلام الصينية. وبين عامي 1992 و2018، نشرت الصين أكثر من (35) ألف عسكري للمشاركة في (24) عملية حفظ سلام تابعة للأمم المتحدة في العالم. ولكن تبقى قدرة بكين على التأثير السياسي، أو فرض عملية سلام، محدودة مقارنة بقدرة الولايات المتحدة؛ إذ لا تملك الصين أي تأثير يُذكر في قرار إسرائيل الموافقة على وقف إطلاق النار، أو الحكم المستقبلي لقطاع غزة بعد الحرب.
لذا، بعد وقف إطلاق النار الدائم، فإن الدور المحدد الذي يمكن أن تضطلع به بكين، سيعتمد- إلى حد كبير- على التفاهم الذي توصلت إليه الأطراف المعنية، مثل الولايات المتحدة، وإسرائيل، والفلسطينيين، وبعض الدول الإقليمية، مثل مصر، والسعودية، وقطر. وأيًّا ما سيكون دور الصين في غزة، سواء أكان ذلك كقوات حفظ سلام محتملة أم بعثات اقتصادية للإعمار، فإنه سوف يتوقف على الموافقة الأمريكية- الإسرائيلية؛ لأن من الصعب توقع أن تتورط الصين وترسل استثمارات وأيدي عاملة إلى هذه المنطقة ما دام الأمن السياسي والمادي غير مضمون.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.