في السنوات القليلة الماضية، حظيت الشركات الأمنية الخاصة باهتمام عالمي، وفي الوقت الذي يبرز فيه الحديث عن نشاط الشركات الأمنية في منطقة الشرق الأوسط والقارة الإفريقية، وكيف توظف القوى الإقليمية والدولية، وعلى رأسها الولايات المتحدة وروسيا والإمارات وتركيا، تلك الشركات من أجل بسط نفوذها وترسيخ أقدامها، يتم تجاهل تنامي نشاط الشركات الأمنية، خاصةً الصينية في الإقليم المنسي “آسيا الوسطى”؛ ما يثير تساؤلات عدة، منها: هل ستمثل الجمهوريات الخمس مسرحًا جديدًا لنشاط الشركات الأمنية الصينية؟ وهل ستقايض الصين روسيا على التوغل الأمني في وسط آسيا في مقابل الوجود الروسي عبر فاغنر والفيلق الإفريقي في القارة الإفريقية؟ وكيف يمكن التنبؤ بمستقبل نشاط الشركات الأمنية في بلدان آسيا الوسطى في ظل ندرة المعلومات عن طبيعة عملياتها السرية وأهدافها؟
تغيرت السياسة الخارجية الصينية وتحولت أولوياتها من المصالح الاقتصادية البحتة إلى المصالح الأمنية بعد عام 2015، حين أكد الرئيس الصيني شي جين بينغ الدبلوماسية العسكرية أداةً للسياسة الخارجية؛ ما دفع بكين إلى زيادة نفوذها العسكري في آسيا الوسطى من خلال أدوات مختلفة، منها إجراء التدريبات العسكرية، وتوفير التدريب للأفراد العسكريين، وزيادة المساعدات والصادرات من الأسلحة، وتعزيز تطوير البنية التحتية العسكرية، فضلًا عن تكثيف المناورات العسكرية في آسيا الوسطى، بما في ذلك التدريبات الثنائية والمتعددة الأطراف داخل منظمة شنغهاي للتعاون.
ومن هذا المنطلق، استثمرت الصين في بناء القدرات الطويلة الأجل للقوات العسكرية في آسيا الوسطى من خلال برامج التعليم العسكري، حيث تقدم الجامعات الصينية تدريبًا متخصصًا للضباط العسكريين الإقليميين. ومع أن التأثير الفوري لهذه المبادرات التعليمية قد لا يكون واضحًا، فإنها تمثل استثمارًا إستراتيجيًّا في نفوذ الصين في المنطقة على المدى الطويل.
ولعل الأداة الأبرز في الإستراتيجية الصينية تجاه الجمهوريات الخمس تمثلت في تدشين شركات أمنية متخصصة، حيث تجاوز النفوذ المتزايد للصين في آسيا الوسطى تطوير البنية الأساسية العسكرية ليشمل مجموعة من الخدمات في المجال العسكري والأمني، لا سيما التقنيات المتطورة والمساعدات الأمنية والتدريبات العسكرية الثنائية، وبرامج تدريب الشرطة.
محفزات الصين لإنشاء شركات أمنية في آسيا الوسطى
في السنوات الأخيرة، تحول النهج الإستراتيجي للصين تجاه الأمن في آسيا الوسطى إلى معالجة التهديدات الأمنية غير التقليدية في المنطقة، التي تتطلب استجابات متخصصة تتجاوز قدرات القوات العسكرية التقليدية؛ لذا اعتمدت على شركات الأمن الخاصة الصينية من بين وكالات صينية أخرى، التي تعد جزءًا من هذه الآلية التي تُنشَأ حديثًا تحت اسم “نظام استخبارات الأمن الوطني للحزام والطريق“.
وجاء توظيف الصين لشركات أمنية في آسيا الوسطى مدفوعًا بعدة حوافز تتمثل في: انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان؛ ومن ثم أُدرجت قضية أفغانستان على جدول أعمال منظمة شنغهاي للتعاون؛ ما جعل بكين لا تعمل فقط بوصفها صانع سلام، بل تحاول أيضًا أداء دور الضامن للأمن لدول آسيا الوسطى، كما اعتُبرت المصالح الأمنية المتعلقة بشينجيانغ (تركستان الشرقية سابقًا) عاملًا محوريًّا للمنظور الأمني الصيني تجاه الجمهوريات الخمس.
وفي هذا السياق استغلت الصين الشركات الأمنية الخاصة من أجل الدفاع عن المواقع الاقتصادية والبنية التحتية الصينية في آسيا الوسطى، حيث تعمل هذه الشركات في الواقع كحراس مسلحين، بجانب سعيها إلى توفير التدريب العسكري للجيوش تلك الدول، وكانت شركة Xinjiang Shamo Tewei أول الشركات الأمنية الصينية التي انخرطت في آسيا الوسطى، وتحديدًا في كازاخستان منذ عام 2013.
تعمل الشركات الأمنية الصينية على توسيع عملياتها على نحو متزايد في آسيا الوسطى، وتقدم مجموعة متنوعة من الخدمات التي تشمل حماية المواقع المسلحة وغير المسلحة، والاستشارات الأمنية، والتدريب على السلامة، وتوفير التأمين، والدعم اللوجستي، ومن هذا يمكن تفنيد مجال عمل تلك الشركات في الجمهوريات الخمس فيما يلي:
وفي هذا السياق افتتحت مجموعة Zhongjun Junhong، ومجموعة الأمن والحماية الصينية، اللتان أسسهما ويديرهما ضباط سابقون في الجيش الصيني، فروعًا في قرغيزستان، وتشير التقارير إلى أنه في عام 2016، تعاونت مجموعة Zhongjun Junhong مع شركة أمنية خاصة قرغيزية لتأسيس خدمة هواووي للأمن، التي حصلت على ترخيص سلاح من الدولة القرغيزية؛ ما مكنها من تقديم خدمات الحماية المسلحة، وبالمثل، في عام 2017، استحوذت مجموعة الأمن والحماية الصينية على شركة أمنية خاصة قرغيزية محلية، وأنشأت شركة Security Associated التي تقدم مجموعة واسعة من الخدمات الأمنية، بما في ذلك الحماية المسلحة، وتدريب حراس الأمن، والأمن الرقمي.
كما حاولت شركات أمن خاصة صينية أخرى دخول السوق الكازاخستانية، ففي عام 2018، أبرمت مجموعة China Shield Security اتفاقية إطارية للتعاون الإستراتيجي مع شركة PSC Kuzet الكازاخستانية لتنفيذ عمليات أمنية مشتركة بشأن مشروعات مبادرة الحزام والطريق والقدرة الإنتاجية في كازاخستان، فيما أدت الاضطرابات السياسية منذ يناير 2022 التي أسفرت عن سقوط أكثر من 200 ضحية رغم عدم إلحاقها الأذى بأي مواطنين صينيين أو أصول صينية إلى خلق طلب متزايد على خدمات الشركات الأمنية الصينية. واستنادًا إلى هذا وقعت شركة HXZA الصينية مذكرة تعاون مع شركة PSC KMG-Security الكازاخستانية، وهي شركة تابعة لشركة النفط والغاز المملوكة للدولة الكازاخستانية، والمسؤولة عن تأمين خط أنابيب النفط بين كازاخستان والصين، وتتضمن الاتفاقية جهودًا تعاونية في تأمين خطوط الأنابيب الأساسية والبنية الأساسية الحيوية في كازاخستان ضد الأخطار الأمنية والعمليات الإرهابية.
ينطلق الموقف الرسمي للحكومة الصينية من الأهمية الجلية لحماية مصالح بكين الخارجية، وهو ما كشفت عنه وثائق الأمن الصينية الأخيرة، بما في ذلك قانون الأمن القومي لعام 2015، والورقة البيضاء لإستراتيجية الدفاع لعام 2019، ومبادرة الأمن العالمي لعام 2022؛ ومن ثم فإن التنبؤ بمصير شركات الأمن الخاصة الصينية في المنطقة أمر يشوبه الغموض؛ بسبب الارتباك المحتمل بين هذه الكيانات والشركات الصينية الأخرى، فغالبًا ما تكون أنشطة شركات الأمن الخاصة في آسيا الوسطى مماثلة لأنشطة الشركات في الصناعات الأخرى التي تقدم بعض الخدمات المتعلقة بالأمن، فضلًا عن تخوف بكين من تعارض نشاط تلك الشركات في آسيا الوسطى مع سياستها المعلنة بعدم التدخل والتزامها بـالنهضة السلمية.
يطرح ما سبق، عدة سيناريوهات تشكل مستقبل انخراط الشركات الأمنية الصينية في الجمهوريات الخمس يتمثل أولها في: لجوء بكين إلى استخدام شركات أمنية غير مسلحة لضمان أمن مرافق البنية التحتية لمبادرة الحزام والطريق، وهو السيناريو الأكثر ترجيحًا في ظل المعطيات الراهنة، وربما تُنسَّق أنشطتها من خلال آليات منظمة شنغهاي للتعاون، وقد تسمح الاتفاقيات من خلال منظمة معاهدة الأمن الجماعي أو وكالات الأمن المحلية باستخدام قدرات قوات الدفاع والأمن الوطنية في بلدان المنطقة كوكلاء عن الصين.
ثانيها: اختبار الصين قدرات شركات الأمن الخاصة بها في آسيا الوسطى من خلال توفير الأمن للسفارات والقنصليات في المنطقة، وهو سيناريو محتمل ارتباطًا بكونه سيسمح بتطوير الخبرة الأجنبية اللازمة وخيارات الاختبار للوجود الجماعي لشركات الأمن الخاصة خارج الصين، وتفادي الانتقادات الموجهة من حكومات آسيا الوسطى للنشاط العسكري والأمني لتلك الشركات، أما ثالث تلك السيناريوهات فقد تستخدم بكين شركات أمنية مسلحة في آسيا الوسطى، لكن هذا السيناريو صعب الحدوث؛ لأن هذه الإجراءات من شأنها أن تثير رد فعل عنيفًا من القوى الإقليمية والدولية، وخاصة روسيا وتركيا، بسبب تآكل مكانتهما بوصفهما ضامنين للأمن في المنطقة، ومن شأنها أيضًا أن تسبب استياء بين السكان المحليين، الذين لا يزالون حذرين من بكين.
يعكس وجود شركات الأمن الصينية الخاصة في آسيا الوسطى النهج الإستراتيجي المتعدد الأوجه الذي تتبعه بكين لمواجهة التهديدات الأمنية غير التقليدية، وهو يتماشى مع دبلوماسية الأمن الحديثة في الصين، والتعاون بين الشرطة والقوات شبه العسكرية، ومبادرة الأمن العالمي التي تبنتها الصين مؤخرًا، ومن هذا المنظور تمثل هذه الكيانات أداة جذابة لتعزيز أجندة بكين الجيوسياسية، ومع استمرار نمو نفوذ الصين في المنطقة، سيظل دور هؤلاء الحراس الصامتين بالغ الأهمية.
ومن هذا يمكن القول إن التوسع الصيني في المشهد العسكري والأمني في آسيا الوسطى يؤكد الأهمية الإستراتيجية للمنطقة لطموحات الصين الجيوسياسية. ومع أن هذا قد يوفر فوائد أمنية قصيرة الأجل ترتبط بتعزيز القدرات الدفاعية الإقليمية والخدمات الأمنية والعسكرية للجمهوريات الخمس، فإن آثاره الطويلة الأجل تهدد الاستقرار السياسي والحوكمة والسيادة في آسيا الوسطى، وتثير المخاوف من احتمال ترسيخ الأنظمة الاستبدادية في المنطقة، حيث قد تستغل بعض الحكومات الدعم الصيني لتعزيز أجهزتها القسرية، وقمع الأصوات المعارضة بحجة الحفاظ على أمنها القومي.
ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.