مقالات المركز

السياسة الهندية وفلسفة «نيايا»


  • 13 سبتمبر 2023

شارك الموضوع

شهدت الهند، في الثالث والعشرين من أغسطس (آب)، يومًا تاريخيًّا بامتياز، بعد الهبوط الناجح لمركبة الفضاء (شاندرايان-3) على سطح القمر، لتصبح رابع دولة في العالم تحقق هذا الإنجاز الكبير بعد الولايات المتحدة، والاتحاد السوفيتي، والصين. يضاف إلى هذا الإنجاز أنها ثاني دولة بعد الصين تهبط بسلام على القطب الجنوبي للقمر، بعد أيام قليلة من فشل محاولة مماثلة لمركبة الفضاء الروسية (لونا-25). تبع ذلك تنظيمها قمة العشرين (G20)، أحد أهم الأحداث العالمية، وإعلان عدة مشروعات ومبادرات جديدة تبدو منافسة لمشروع الحزام والطريق الصيني.

الهند وفلسفة “نيايا”

الحضارة الهندية أحد أعظم وأعرق وأقدم الحضارات العالمية القديمة المؤسسة للحضارة الإنسانية الحالية، وفلسفتها ما زالت مؤثرة حتى الآن، وتشهد توسعًا ليس في الهند فحسب؛ بل في العالم أجمع.

تنقسم الفلسفة الهندية إلى قسمين رئيسين: مدرسة أصولية، وأخرى تجديدية، وداخل المدرسة الأصولية هناك ستة طرق أو مذاهب، “نيايا” أحدها، حيث تركز- من بين عدة أمور أخرى- على “الواقعية”، إلى جانب القدرة على التكيف السريع مع المتغيرات.

منذ عام 1947، الذي شهد استقلال الهند عن بريطانيا، يمكن بوضوح ملاحظة تأثير فلسفة “نيايا” في السياسة الهندية.

اتخذ رئيس الوزراء الأول نهرو من “التوجه نحو الداخل” سياسة إستراتيجية للهند، ومضى على خطاه من جاءوا من بعده، وعبر هذه السياسة تمكنت من تثبيت وحدتها الداخلية، وأدّت الدولة دورًا في بناء المؤسسات وتنظيم المجتمع عبر نهج اقتصادي أقرب ما يكون إلى الاشتراكية، مع تبني النظام الديمقراطي سياسيًّا؛ لتجنيب البلاد أي توترات على أسس طائفية، أو مناطقية.

انعكست هذه السياسات الداخلية الاشتراكية على السياسة الخارجية للهند، فتمكنت من خلالها من نسج علاقات مميزة مع الاتحاد السوفيتي الأقرب جغرافيًّا إليها، وتحييده في صراعها مع الصين، وكونها دولة ديمقراطية منحها قدرة الانفتاح على الغرب، وادعاء وجود قيم مشتركة بين الطرفين. وبالتوازي، كانت أحد المؤسسين لمنظمة دول عدم الانحياز.

في الفترة من عام 1991 إلى عام 1996، تكيف- سريعًا- رئيس الوزراء الهندي التاسع بي في ناراسيمها راو، مع المتغيرات العالمية التي أعقبت تفكك المعسكر الاشتراكي، وتبنى السياسة الاقتصادية الجديدة، متخليًا عن السياسات الاشتراكية بعدما أدت مهامها، وانفتح على العالم من خلال سياسة “التوجه نحو الخارج”، وصولًا إلى عام 1998، الذي صرح فيه رئيس الوزراء العاشر أتال بيهاري فاجبايي بـ”تحول الهند إلى دولة نووية مكتملة الأركان” لتعلن عن نفسها كقوة عالمية جديدة.

الصراع الهندوسي- الهندوسي

مع أن النظام السياسي الهندي نشأ منذ الاستقلال على الأسس الديمقراطية التمثيلية، ولم تشهد ثورات أو انقلابات عسكرية، عكس دول الجوار، فإن ديمقراطيتها يمكن أن توصف بـ “ديمقراطية الهيمنة”، حيث على مدار نصف قرن، تولى حزب المؤتمر الهندي قيادة البلاد، باستثناء فترات قليلة لا تزيد على عامين، تولى فيها أحد الأحزاب الحليفة السلطة.

مثّل حزب المؤتمر النخبة المرتبطة بالثقافة الغربية، والأقل ارتباطًا بالثقافة الشعبية الهندية. ومع ذلك، كان لسياسات الحزب دورها في الارتقاء بالمستوى التعليمي والطبقي لملايين الهنود، وهو ما أدى- مع الوقت- إلى نشوء طبقة جديدة تمكنت من خلال التعليم، بفضل السياسات الاشتراكية، وامتلاك الثروة بعد تطبيق السياسات الاقتصادية الرأسمالية، من الارتقاء، وتطلعت نحو أداء دور سياسي يُنهي هيمنة حزب المؤتمر والنخبة المرتبطة به منذ الاستقلال.

تمكن حزب بهاراتيا جاناتا القومي، ذو الطابع الهندوسي، من اجتذاب أبناء هذه الطبقة الجديدة، وتضخيم شعورهم بالاستحقاق؛ عبر خطاب قومي ديني، يلعب على وتر المظلومية التاريخية للهندوس الذين مثلوا الأغلبية، وعاشوا عدة قرون تحت حكم الأقلية المسلمة، ثم الاستعمار البريطاني، وبعد الاستقلال هيمنت الأقلية الهندوسية “اسمًا” على الأغلبية بفضل الأدوات التي مكنها المستعمر من الحصول عليها للهيمنة على البلاد، في ظل “احتقارها” للبقية من السكان، وفق ادعاءات هذا الخطاب.

يشبه وضع التركيبة السياسية الهندية، وما حدث فيها من متغيرات، نظيرتها الإسرائيلية- إلى حد كبير- حيث هيمن حزب العمل على الحكم والسياسة منذ تأسيس إسرائيل، وقادت النخبة الأشكنازية ذات الثقافة الغربية البلاد، في حين شعر اليهود الشرقيون بالغبن نتيجة استثنائهم من السلطة والثروة رغم أغلبيتهم العددية.

هل حقًا غير حزب بهاراتيا جاناتا وجه الهند؟

يشعر الكثيرون حول العالم بالحنين إلى هند حزب المؤتمر، التي بدت في ظل حكمه أكثر “ليبرالية” و”تسامحًا” تجاه الأقليات، وبالتحديد المسلمة، معتبرين أن حزب بهاراتيا جاناتا قد غير وجه الهند، ويتجه بالبلاد نحو التطرف والعنصرية.

قد تبدو هذه النظرية صحيحة ظاهريًّا، لكنها تتجاهل أمورًا عدة في مرحلة تطور الدولة ما بعد الاستقلال:

أولًا: بعيدًا عن الدعاية الانتخابية المفهوم دوافعها، لم يكن حزب المؤتمر يمثل الهند أو ثقافتها بقدر ما كان يمثل ثقافة غربية ذات خصائص هندية.

ثانيًا: الديمقراطية في الهند لم تكن خيارًا بقدر ما كانت ضرورة فرضتها الظروف؛ بلد فُكِّكَ وقُسِّمَ على أسس طائفية، ونخبة مهيمنة ورثت مؤسسات المستعمر، وقادرة بالوسائل السلمية الديمقراطية على الهيمنة وحكم البلاد، وجيش حديث النشأة، لم يكن له دور في عملية الاستقلال، ومناطق شاسعة لا يمكن حكمها بالقوة في ظل غياب قوة عسكرية وأمنية مجهزة، إلى جانب تحدي الصراع مع الجيران (الصين، وباكستان) منذ اليوم الأول للاستقلال.

ثالثًا: استدعى الصراع مع الصين علاقات جيدة مع الاتحاد السوفيتي؛ لتجنب تحالف الكتلتين الشيوعيتين ضد الهند وحصارها. كذلك، استدعى الصراع مع باكستان، والخلاف على إقليم كشمير ذي الأغلبية المسلمة، علاقات متميزة مع العالمين العربي والإسلامي؛ حتى لا تجد الهند نفسها معزولة عن محيطها.

رابعًا: حداثة عمر الدولة في ظل حدود جديدة لم تكن تسمح بنشوء فكرة قومية متماسكة، وكان من الطبيعي أن تبدو الهند- آنذاك- بلا طابع قومي واضح.

أخيرًا: هامش المناورة في النظام العالمي ما بعد الحرب العالمية الثانية كان محدودًا جدًّا، ومحصورًا في صراع حاد بين قطبين شرقي وغربي، وهو ما لم يكن يسمح للهند باتخاذ سياسات مستقلة تمامًا.

تبدو الهند الآن أكثر هندية ومصداقية وتعبيرًا عن نفسها من هند غاندي ونهرو، وما يحدث فيها يعد تطورًا طبيعيًّا بعد استقرار الدولة، واكتمال بناء المؤسسات، وتعاظم قوتها، وامتلاك القدرات العسكرية والأمنية، وصولًا إلى القوة النووية، والصعود إلى الفضاء.

الارتقاء الطبقي أظهر على السطح الوجه الحقيقي للهند، وأصبح للأغلبية صوت، وتمثيل، ودور قيادي في سياسات الدولة، وهو ما كان سيحدث، سواء أكان حزب بهاراتيا جاناتا ومودي، ومن قبله فاجبايي، موجودين أم لا.

صديقُك مَن صدَقَك

يبدو- إلى حد كبير- أن الصراع الحالي المتصاعد بين الأغلبية الهندوسية وباقي الأقليات، وعلى رأسها المسلمون، جزء من الصراع الداخلي الهندوسي- الهندوسي، أكثر منه صراعًا على أساس ديني.

لقد حقق حزب بهاراتيا جاناتا عدة إنجازات منذ توليه السلطة لأول مرة عام 1998، على مستوى الاقتصاد، وتوسيع الطبقة الوسطى الهندية الجديدة، وتراكم القوة العسكرية والنووية، ووضع الهند على خريطة التحالفات الدولية الكبرى.

يحسب لرئيس الوزراء ناريندرا مودي أنه تمكن من الحفاظ على العلاقات الاقتصادية، والسياسية، والعسكرية المتنامية مع روسيا، ولم يخضع للضغوط الغربية للابتعاد عن موسكو، وفي الوقت نفسه، ارتقت العلاقات الهندية الأمريكية في عهده إلى أعلى مستوياتها، وصولًا إلى شراكة إستراتيجية بين الطرفين، والحوار الأمني الرباعي- كواد (Quad) مع الولايات المتحدة، واليابان، وأستراليا.

تشهد العلاقات الهندية العربية صعودًا غير مسبوق، وعلى وجه التحديد مع السعودية، والإمارات، ومصر، في حين تراهن أوروبا- وبالتحديد فرنسا وألمانيا- على الدور الهندي في حفظ التوازن في منطقة جنوب آسيا.

كل هذه الإنجازات التي تكللت بالهبوط الناجح على سطح القمر، قد تواجه بنكسات نتيجة الهشاشة المتزايدة للجبهة الداخلية على وقع التنافس بين النخبتين الهندوسية القديمة والجديدة، التي يمثلها حزب بهاراتيا جاناتا، الحريص على شحن قواعده الانتخابية باستمرار، والسعي نحو توسيعها من خلال انتهاج سياسة أكثر قومية في الداخل على حساب الأقليات، وهو ما قد يؤدي إلى انفجار طائفي لا تُحمد عقباه.

الهند، دولة كبرى، ولها دور مهم جدًّا في حفظ الأمن في منطقة جنوب آسيا، وتأثير في توازنات القوى العالمية، وفي منطقة الخليج على وجه الخصوص، ولا يمكنها أن تصبح دولة إقليمية عظمى، أو ما فوق إقليمية، وهي في حالة خصام مع ماضيها الإسلامي، وصراع مع الأقلية المسلمة التي تمثل 14 في المئة من السكان، ويقدر عددها بأكثر من 200 مليون مسلم.

من أجل الحفاظ على الهند ودورها، وتنامي العلاقات الاقتصادية والسياسية مع العالمين العربي والإسلامي وتطورها، وهو الجوار القريب للهند، والأقرب إليها حضاريًّا وثقافيًّا، ووفقًا للمقولة العربية الشهيرة “صديقك من صَدَقَك”، قد يكون من المفيد أن تبادر السعودية والإمارات إلى فتح نقاش هادئ مع القيادة الهندية، وربما أداء دور الوساطة لحل الخلافات مع الزعامات الإسلامية في البلاد، وصولًا إلى أداء دور أكبر في حل المشكلة الأزلية بين الهند وباكستان.

حتى وقت قريب، كانت دول الخليج أقرب إلى الموقف الباكستاني في الصراع مع الهند، وهو ما لم يمكنها من أداء دور وساطة حقيقي. الآن، وفي ظل العلاقات الجيدة بين الطرفين، ووجود مصالح مشتركة مع الهند وباكستان، يمكن لهذا الدور أن يكون ذا أثر بالغ في إعادة إحياء المفاوضات بين الجانبين.

لقد قدمت دولة الإمارات العربية المتحدة نموذجًا في التسامح باسم العالمين العربي والإسلامي؛ من خلال افتتاح معبد هندوسي يتيح للعمالة الهندية حرية التعبد، وطوَّر ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان العلاقة مع الهند بشكل لم يسبق له مثيل، ويملك كلا البلدين- إلى جانب بقية دول الخليج العربية- أدوات تأثير اقتصادية ومالية، إلى جانب علاقات الصداقة والتعاون التي تؤهلهما للقيام بهذا الدور المفيد للجميع.

تفجر صراع على أساس طائفي في الهند بين المسلمين والهندوس- إذا حدث- سيشكل عقبة كبيرة أمام التعاون بين الهند والعالم العربي، وربما يؤدي إلى تفجر الصراع المكتوم مع باكستان، وصعود التيارات الإسلاموية المتطرفة، في ظل تنامي قدرات ما يسمى “تنظيم الدولة الإسلامية- ولاية خراسان”، و “قاعدة الجهاد في شبه القارة الهندية” الإرهابيين، وربما استخدامهما في ظل التنافس مع الصين لضرب الهند ووحدتها الداخلية، وهو ما ستمتد آثاره إلى المنطقة بشكل سلبي، في ظل وجود أطراف تسعى بالفعل إلى استغلال ما يحدث في الهند من توترات لإثارة الرأي العام العربي، والدفع نحو عداء الهند، وإقامة العلاقات معها على أساس طائفي يستغل المشاعر الدينية ويثيرها.

 

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير


شارك الموضوع