مقالات المركز

السلام المشروط.. دور الوقائع على الأرض في تحديد مستقبل الأزمة الأوكرانية


  • 26 ديسمبر 2024

شارك الموضوع

الأزمات السياسية الكبرى التي شهدها العالم عبر التاريخ غالبًا ما كانت تمثل نقاط تحول في النظام الدولي؛ إذ إنها لا تعكس طبيعة الصراعات بين الدول فحسب؛ بل تكشف عن التحولات العميقة في موازين القوى الإقليمية والعالمية. الأزمة الأوكرانية، التي اندلعت في أعقاب الأحداث التي بدأت عام 2014 بضم روسيا شبه جزيرة القرم، ليست استثناءً؛ بل إنها مثال واضح على التداخل بين الجغرافيا السياسية والتاريخ والديناميات الإستراتيجية الحديثة، لتشكل واحدًا من أكثر النزاعات تعقيدًا في القرن الحادي والعشرين.

لطالما كانت أوكرانيا محط اهتمام القوى العظمى، ليس فقط بسبب موقعها الجغرافي المميز كجسر بين أوروبا وروسيا؛ بل أيضًا بسبب مواردها الاقتصادية الغنية، وأهميتها الإستراتيجية بوصفها بوابة للنفوذ السياسي والعسكري في المنطقة. منذ انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، أصبحت أوكرانيا ساحة صراع بين مشروعات مختلفة: مشروع غربي يسعى إلى دمجها في المنظومة الأوروبية والأطلسية، ومشروع روسي يرى فيها جزءًا لا يتجزأ من نفوذه التاريخي والجيوسياسي.

في هذا السياق، مثلت اتفاقات مينسك وإسطنبول، التي وُقِّعَت في السنوات الأولى للصراع، محاولات لتثبيت عملية تفاوضية تسعى إلى إنهاء النزاع، لكنها لم تحقق نجاحًا يُذكر. هذه الاتفاقات عكست تناقضات المصالح بين الأطراف الدولية، فضلًا عن رفض الأطراف المحلية تقديم تنازلات حقيقية. مع مرور الوقت، تحولت الأزمة إلى صراع طويل الأمد، ترافق مع تدخلات عسكرية وسياسية متزايدة من روسيا، التي أعادت تشكيل “وقائع على الأرض” من خلال السيطرة الفعلية على أراضٍ واسعة شرق أوكرانيا، مثل دونيتسك ولوغانسك وزاباروجيا وخيرسون.

في ديسمبر (كانون الأول) 2024، وفي ظل استمرار النزاع وتفاقم العواقب الاقتصادية والإنسانية، جاءت تصريحات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن الاستعداد للتفاوض مع أوكرانيا “من دون شروط مسبقة”، ولكن بناءً على “الوقائع على الأرض”. هذه العبارة ليست مجرد موقف سياسي؛ بل تحمل أبعادًا إستراتيجية عميقة، تعكس محاولة موسكو لتثبيت مكاسبها الميدانية، وفرض شروطها على طاولة المفاوضات. هذه الإستراتيجية، التي سبق أن استخدمتها روسيا في نزاعات سابقة، تمثل تحديًا كبيرًا للنظام الدولي، حيث تؤكد قدرة القوى العظمى على تغيير قواعد اللعبة من خلال الواقع العسكري.

في ظل هذه الخلفية، تبرز أسئلة عميقة عن مفهوم السلام في النزاعات المعاصرة: هل يمكن تحقيق سلام عادل ومستدام في ظل غياب توازن القوى؟ وكيف يمكن للمجتمع الدولي التعامل مع حالات استخدام القوة لفرض وقائع جديدة على الأرض؟ الأزمة الأوكرانية، بما تحمله من تداعيات سياسية وأمنية واسعة، تضع النظام الدولي أمام اختبار جديد، يكشف عن مدى قدرته على التكيف مع تحديات عصر جديد من الصراعات الجيوسياسية.

السياق التاريخي والسياسي للأزمة

منذ تفكك الاتحاد السوفيتي عام 1991، شكلت أوكرانيا ساحة صراع بين القوى العظمى. كانت كانت أوكرانيا فرصة للغرب لتعزيز منظومة الديمقراطية الليبرالية، وتوسيع نفوذ الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو شرقًا، لكنها مثلت لروسيا عمقًا إستراتيجيًّا، وجزءًا لا يتجزأ من الفضاء السوفيتي السابق الذي تسعى موسكو إلى إعادة تشكيله بما يخدم مصالحها الجيوسياسية.

عندما اندلعت الاحتجاجات في كييف أواخر عام 2013، وتحولت إلى ثورة أطاحت بالرئيس الموالي لروسيا فيكتور يانوكوفيتش، دخلت العلاقات بين روسيا وأوكرانيا مرحلة جديدة من التوتر. جاء رد موسكو سريعًا وحاسمًا من خلال ضم شبه جزيرة القرم في مارس (آذار) 2014، ودعم الحركات الانفصالية في شرق أوكرانيا. ومنذ ذلك الحين، أصبح شرق أوكرانيا، خاصة مقاطعتي دونيتسك ولوغانسك، بؤرة للصراع الذي يعكس مزيجًا من الأبعاد العسكرية والسياسية والثقافية.

تصريحات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن السلام في أوكرانيا ليست بمعزل عن هذا السياق التاريخي. تأكيده “الوقائع على الأرض” يعيد إلى الأذهان إستراتيجية روسيا في صراعات مشابهة، مثل نزاع جورجيا في عام 2008، حيث استخدمت موسكو القوة العسكرية لتغيير حدود الأمر الواقع قبل الدخول في أي مفاوضات. الوقائع التي يشير إليها بوتين اليوم تشمل السيطرة الفعلية على أجزاء واسعة من شرق أوكرانيا، وتحويل هذه المناطق إلى مناطق نفوذ روسية عبر الوجود العسكري، والبنية الإدارية المرتبطة بموسكو.

السلام بوصفه عملية تفاوضية مشروطة

من خلال تصريحات بوتين، يتضح أن روسيا تسعى إلى تسوية تعترف بمكاسبها الإقليمية كشرط أساسي للسلام. يشكل هذا الطرح معضلة كبيرة، حيث إن قبوله يعني ضمنًا الإقرار بشرعية التغيير بالقوة، وهو ما يتناقض مع المبادئ الأساسية للقانون الدولي. في المقابل، ترفض أوكرانيا، المدعومة من الغرب، تقديم تنازلات تضر بسيادتها ووحدة أراضيها.

من جانب آخر، تشكيك موسكو في شرعية الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بسبب عدم إجراء انتخابات جديدة، يُظهر أن روسيا لا تستهدف مكاسب ميدانية فقط؛ بل تسعى أيضًا إلى إعادة تشكيل المشهد السياسي الأوكراني بما يتوافق مع مصالحها. هذه الإستراتيجية تُبقي الحوار السياسي مرهونًا بشروط روسية؛ مما يجعل تحقيق تقدم في المفاوضات أمرًا بالغ الصعوبة.

الاستنتاجات

الأزمة الأوكرانية تمثل نموذجًا معقدًا يعكس التحول من نظام عالمي تقليدي يعتمد على القانون الدولي إلى نظام يعيد تشكيل موازين القوى وفقًا للوقائع المفروضة بالقوة. التصريحات الروسية تشير إلى أن مفهوم السلام لم يعد مرتبطًا بالمفاوضات التقليدية؛ بل بات أداة لإعادة تأكيد السيطرة السياسية والعسكرية، وهذا يعكس تحولًا في مفهوم الشرعية الدولية، حيث تُفرض الشروط من خلال الأمر الواقع بدلًا من التوافق الجماعي.

على الجانب الآخر، فإن الرد الغربي على هذه الأزمة يظهر تناقضًا بين الخطاب الداعم للسيادة الأوكرانية والقدرة الفعلية على تقديم حلول تحول دون استمرار الصراع، وهذا يبرز فشلًا في خلق آليات دولية قادرة على إدارة نزاعات بهذا التعقيد.

في النهاية، لا يتوقف مستقبل الأزمة الأوكرانية على التفاوض بين الأطراف المباشرة فقط؛ بل على قدرة النظام الدولي على إيجاد توازن جديد يضمن عدم تكرار هذا النوع من الأزمات، مع الأخذ في الحسبان أن التسوية -مهما كانت طبيعتها- لن تكون حلًا دائمًا إذا استمرت الديناميكيات الحالية في إعادة إنتاج التوترات.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع