أعلنت السفارة الأمريكية في روسيا، يوم الجمعة 27 يونيو (حزيران) 2025، أن السفيرة لين تريسي أنهت مهمتها في موسكو التي استمرت منذ بداية عام 2023، وأنها ستغادر البلاد بعد خدمة دبلوماسية امتدت أكثر من عامين ونصف العام. وفي بيان نُشر على قناة السفارة في “تليغرام”، أعربت تريسي عن فخرها بتمثيل بلادها “في هذه الأوقات الصعبة”، مستشهدة بأبيات للشاعر الروسي الكبير ألكسندر بوشكين تدعو إلى حب الوطن، فيما يُعَدّ إشادة ضمنية بالثقافة الروسية، في ظل التوترات السياسية المتصاعدة بين موسكو وواشنطن.
تعد لين تريسي أول امرأة في تاريخ العلاقات الأمريكية- الروسية تتولى منصب سفير الولايات المتحدة في روسيا. قبل تعيينها في موسكو، شغلت تريسي عدة مناصب دبلوماسية مهمة؛ فقد كانت نائبة رئيس البعثة الأمريكية في موسكو من عام 2014 حتى 2017، ثم سفيرة الولايات المتحدة في أرمينيا بين عامي 2019 و2022. كما عملت في بعثات دبلوماسية أخرى في دول آسيا الوسطى، مثل أفغانستان، وقرغيزستان، وتركمانستان، إضافة إلى بعثات في باكستان وكازاخستان. وتخرجت تريسي في جامعة جورجيا بدرجة الليسانس في الدراسات السوفيتية، وحصلت على درجة الدكتوراة في القانون من جامعة أكرون. وقد أكسبتها هذه الخبرة الواسعة قدرة على التواصل باللغة الروسية وفهمًا جيدًا للتقاليد الثقافية في المنطقة، وهو ما استُدعِي لاحقًا في مهامها بوصفها سفيرة.
جاءت مهمة تريسي في موسكو خلال فترة من أسوأ المراحل في تاريخ العلاقات بين البلدين. ففي عام 2022 أطلقت موسكو حربها على أوكرانيا، ما أدى إلى فرض عقوبات غربية غير مسبوقة على روسيا. ونتج عن ذلك تراجع تنسيق الرقابة على الأسلحة، وانهيار عدد من الاتفاقيات الثنائية بين واشنطن وموسكو. إضافة إلى ذلك، تجمدت الاتصالات الدبلوماسية إلى حد كبير، ولم تُحلّ قضايا مثل صراع السفراء الروسيين والأمريكيين والممتلكات الدبلوماسية المتنازع عليها. ووفق تقارير دولية، فإن إدارة الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترمب بدأت منذ يناير (كانون الثاني) 2025 محادثات مع الجانب الروسي لـ”إعادة ضبط” العلاقات المقطوعة بعد سنوات الحرب، لكن محللين يرون أن تحقيق تقدم ملموس ما زال معلقًا على كثير من الملفات الشائكة.
في رسالة وداعها المنشورة على “تليغرام”، قالت تريسي: “أغادر روسيا، وأعلم أن زملائي في السفارة سيواصلون العمل على تحسين علاقاتنا، والحفاظ على الروابط مع الشعب الروسي”، وأضافت أن لقاءاتها مع “روس يحبون بلادهم، ويعملون كل يوم من أجل مستقبل أفضل” كانت مصدر إلهام لها. وختمت تريسي رسالتها ببضعة أبيات من قصيدة “إلى تشادايف” للشاعر ألكسندر بوشكين، تعبر عن التضحية والولاء للوطن.
ومن هذه الأبيات: “ما دمنا نتّقد حريةً،
وما دامت القلوب تنبض بالشرف،
فلنكرّس، يا صديقي،
اندفاعات أرواحنا النبيلة لوطننا”.
وتُعَدُّ هذه القصيدة من أوائل أعمال بوشكين التي تناولت القضايا المدنية والوطنية، حيث تُرَسِّخُ فيها فكرة تكريس الفرد نفسه لخدمة وطنه من منطلق الحرية والشرف.
يعد ألكسندر بوشكين (1799- 1837) “أمير الشعراء الروس”، وتمثل أعماله ركيزة في الأدب والثقافة الروسية. واختيار تريسي لاقتباس أبيات من شعره يحمل دلالة رمزية مهمة؛ فهو يجمع بين رسالة إيجابية مشتركة (حب الوطن) ومؤشر على احترامها للتراث الروسي. فبالإضافة إلى كونه نصًا أدبيًّا يعزز القيم الوطنية، فإن الإشارة إلى بوشكين تعكس محاولة للتواصل الثقافي خارج الإطار السياسي المتشنج. وقد نوّهت السفارة الأمريكية في البيان نفسه بأن من سمات قيادتها الدبلوماسية كان “احترامها العميق للثقافة الروسية”، والتزامها بالحوار حتى في الأوقات الصعبة، وهو ما يتجسد في هذا الاستشهاد الشعري.
حتى الآن لم يُعلن بعد مَن سيخلف لين تريسي في منصب السفيرة الأمريكية لدى موسكو، لكن تقارير إعلامية أشارت إلى ترشيح المبعوث الأمريكي إلى ليبيا ريتشارد نورلاند لهذا المنصب. وعلى الجانب الروسي، عينت موسكو ألكسندر دارتشيف سفيرًا جديدًا لها في واشنطن مؤخرًا. وتُعد هذه التغييرات المتبادلة في السلك الدبلوماسي بادرة على وجود رغبة لتعزيز قنوات التواصل التي تجمَّدت، وقد تظهر في الآتي مبادرات مشتركة، أو جلسات حوار جديدة.
في الختام، تمثل كلمات تريسي واستشهادها بأبيات بوشكين وداعًا لافتًا؛ فهي تبرز محاولة للحفاظ على بعد إنساني وثقافي للعلاقات مع الشعب الروسي، رغم عمق الخلافات على المستوى الحكومي، وتُعَدُّ هذه الخطوة الرمزية من الجسور الدبلوماسية التي تحاول تأكيد استمرار الحب الوطني والقيم المشتركة بوصفها قواسم بين المواطنين، حتى في أشد أوقات الخلاف بين الدول.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير