نستكمل عرض الكتاب المهم الذي وضعه المستشرق الروسي البارز فلاديمير بلياكوف عام 2015 بعنوان “الروس عند مقدسات سيناء”، وهو في 205 صفحات، وصدر عن دار نشر “أنباء روسيا”.
وقد عرضنا في المقال السابق ستة فصول، ونكمل هنا بقية الكتاب.
ينتقل الفصل السابع الذي يحمل عنوان “التنافس مع الفاتيكان”، إلى الحديث عن أكثر الأماكن التي تمثل أهمية كبيرة لدى الأوساط العلمية، وهو مكتبة الدير، حيث تضم المكتبة أكثر من 4500 مخطوط، و15 ألف كتاب. وتجيء هذه المكتبة في المركز الثاني بعد مكتبة الفاتيكان من حيث الحجم، وعمر المخطوطات التي تحويها وأهميتها.
يتناول هذا الفصل تاريخ إنشاء المكتبة عام 1734، ويرجع الفضل في إنشائها إلى أرشمندريت سيناء نيكفور. وتناول الفصل زيارة المؤرخ الألماني أومانتيس، الذي زار المكتبة عام 1843، كما أشار إلى زيارة عالم اللاهوت الألماني قسطنطين فون تيشندورف، الذي زار المكتبة بعد عام من زيارة أومانتيس لها، والذي عثر على ثلاث وأربعين ورقة باللغة اليونانية ليست ضمن محتوى المكتبة، فحملها معه ونقلها إلى مكتبة ليبزيج. كما يتطرق المؤلف في هذا الفصل إلى القصة المثيرة للعثور على 12 صفحة من أوراق مفقودة من أحد المخطوطات التي تحمل اسم “دستور سيناء”، وبعض أجزائه، ووصول المخطوط إلى الدير ومعه بعض المخطوطات الأخرى من الإسكندرية، بعد فتح العرب لمصر عام 641.
وتجدر الإشارة إلى أنه في أحد مواضع هذا الفصل، أُشير إلى إرسال تيشندورف صورة طبق الأصل من هذا الدستور إلى الإمبراطور ألكسندر الثاني. وقد استاء رهبان الدير من هذا التصرف، وطالبوا بإعادة المخطوط الثمين إلى مكانه، دون جدوى. وفي المقابل، تبرع الإمبراطور الروسي في سبتمبر (أيلول) 1869 بتسعة آلاف روبل لصالح الدير. وقد شُيد برج الجرس الملحق بكنيسة التجلي عام 1871، ووصفه الباحث الأمريكي جورج فورسيت بأنه “إهداء من روسيا”، ولكن في عام 1933، باعت الحكومة السوفيتية هذا المخطوط للمتحف البريطاني مقابل 100 ألف جنيه إسترليني؛ مما أسهم في تعكير صفو العلاقات بين رهبان الدير مع روسيا حتى يومنا هذا.
يأخذنا الجزء المتبقي من هذا الفصل في جولة تفصيلية داخل المكتبة لتفقد أبرز المخطوطات الموجودة على أرففها، بدءًا من المخطوطات التي كتبت على ورق الرق، ثم بداية استخدام أوراق البردي تدريجيًّا في الكتابة في مطلع العصر الحالي. وتضم المكتبة عددًا ضخمًا من المخطوطات المكتوبة باللغة العربية، ومعظمها عبارة عن الكتب المقدسة والدينية المترجمة من اليونانية. بالإضافة إلى ثلاثمئة مخطوط باللغة السورية القديمة، واللغة الجورجية القديمة، والمخطوطات السلافية. كما يحفل أرشيف الدير كذلك بكنز روسي عبارة عن كراسة ذات غلاف من الجلد، وبها أوراق مربوطة بالخيط، وعليها ختم السنودس المقدس في العاشر من أكتوبر (تشرين الأول) 1756، حيث أُهدي هذا السجل بأمر من عظمة الإمبراطورة للسنودس المقدس. كما ضمت سجلات الدير توقيعات وتعليقات مختلفة لكثير من الرهبان والرحالة من مختلف الجنسيات، أبرزهم المبعوث الروسي سميرنوف، 1910.
ينتقل الكتاب إلى الفصل الثامن، الذي يحمل عنوان “أيقونات على الجدران”، ويتناول الإجابة عن سؤال: كم عدد الأيقونات الموجودة في الدير؟ والإجابة عن هذا السؤال- الذي يبدو سهلًا- ليست بسيطة، حيث قام الناقد الفني الأمريكي كورت وايتسمان، الذي درس بدقة كنوز سيناء الفنية في الفترة من 1950 إلى 1960، بإحصاء تلك الأيقونات الموجودة في الكنيسة، والمصليات الصغيرة، ليصل عددها إلى نحو 2044 أيقونة. غير أن هذا العدد شهد تغييرًا؛ نظرًا إلى تعرض عدد من الأيقونات للتلف نتيجة لاندلاع حريق ضخم في إحدى البنايات التابعة للدير عام 1971. ويؤكد المؤلف في هذا الفصل أن الآباء في سيناء كانوا يولون اهتمامًا كبيرًا بالمخطوطات أكبر مما تحظى به الأيقونات. كما يستعرض السمات الفنية التي تتفرد بها أيقونات دير سيناء، حيث تركز تلك الأيقونات على موضوعات خاصة بسيناء، مثل تصوير شجرة العليقة المقدسة، والنبي موسى، وسانت كاترين. ويشير الكتاب إلى احتفاظ الدير بعدد من الأيقونات التي أرسلت من فلسطين إلى سيناء في أثناء فترة محاربة رسم الأيقونات في بيزنطة، والتي ترجع إلى القرن الثامن الميلادي.
يشير المؤلف إلى أنه في أثناء دراسته لتاريخ العلاقات بين روسيا وسيناء، عثر على بعض الأيقونات الروسية في الوثائق والكتب القديمة التي كانت موضع الدراسة، حيث عثر على الشهادة التي أرسلها القياصرة يوحنا أليكسيفيتش وبطرس أليكسيفيتش إلى الأرشمندريت كوريل في سيناء عام 1695. وتشير هذه الوثيقة إلى أنها قد أرسلت مع عشرين أيقونة، غير أن مصدر تلك الأيقونات غير معروف. كما لاحظ الأرشمندريت بورفيري (أوسبنسكي) في زيارته الثانية للدير في سيناء عام 1850، وجود بعض الأيقونات الصغيرة التي رُسمت في موسكو، وأُرسلت مع أرشمندريت سيناء آفي ميليخ عام 1750. وفي نهاية الفصل يُشيد المؤلف بالقيمة الفنية التي أضافتها الأيقونات الروسية التي يحويها دير سيناء، مع أنها تشكل جزءًا صغيرًا من مجموعة الأيقونات هناك، ويؤكد العلاقة الخاصة التي ربطت بين روسيا وسيناء، حيث ظلت روسيا- أكثر من قرنين- هي المسؤولة عن الدير، وتجىء الأيقونات لتكون الدليل الدامغ الشاهد على ذلك أكثر من المخطوطات.
يحمل الفصل التاسع عنوان “عندما تصبح الفضة أغلى من الذهب”، ويشير المؤلف في مقدمة هذا الفصل إلى ندرة الفضة؛ لأنهم كانوا يجلبونها من أماكن بعيدة في عهد الفراعنة، ووفرة الذهب الذي استخرجوه من الصحراء الشرقية بشكل كبير؛ لذلك كان تقدير المصريين القدماء للفضة أكثر من تقديرهم للذهب. ويتناول قيمة المشغولات الفضية التي يحتويها الدير، وتتمثل في الهيكل الفضي الذي يضم رفات القديسة كاترين الذي أرسله القياصرة الروس عام 1689، والذي استخدم في صنعه أكثر من مئة كيلو جرام من الفضة الخالصة لصناعته، هذا إلى جانب الصلبان، والأكواب، والنجف، والشمعدان، وباقي أواني الكنيسة المصنوعة من الفضة، وهذا يفسر عنوان هذا الفصل، فنجد أن الفضة هنا أعلى قيمة من الذهب في نظر آباء سيناء؛ بسبب قيمتها الدينية. يضم الدير بالإضافة إلى الفضة، صليبًا مصنوعًا من البرونز، ضمن أواني الكنيسة.
تزخر كنيسة دير كاترين بالكنوز الرائعة التي تعد هدايا من القياصرة الروس. وتذكر بعض المطبوعات أن الهيكل المطلي بالذهب الذي يحوي رفات القديسة كاترين، يعد أحد كنوز الإمبراطورة كاترين العظيمة. بيد أن هذا الهيكل يعتقد أن إحدى الأميرات الروسيات، التي تنتمي إلى أسرة مسيحية، قد أهدته إلى الدير عام 1860، ولكن لم يعرف اسمها حتى الآن، وفقًا للتوقيع المكتوب عليه. ويضم الدير كذلك تاج المطران المصنوع من الفضة المذهبة، الذي أرسله القيصر ميخائيل فيودروفيتش إلى الدير عام 1642، واللوح الثلاثي الفضي المطلي بالذهب المصنوع في موسكو. كما أرسلت الإمبراطورة الروسية إليزافيت بيتروفنا خمس ثريات مُدلّاة من السقف وسط الكنيسة مصنوعة من الفضة والكريستال المتلألئ، ومختومة بالختم الروسي، كما ذكر الباحث أومانتيس في كتابه، ووعاء القربان المقدس المصنوع من الفضة وعليه توقيع يفيد أنه صُنع في كييف عام 1753.
كتب كثير من الرحالة عن محتويات الكنيسة من الأعمال الروسية، من بينهم الرحالة ألكسندرا جافريلوفا، التي زارت الدير عام 1950، وأوضحت أنها رأت كثيرًا من الشمعدانات الروسية في كنيسة التجلي، والمثقف الروسي أفرام سيرجيفيتش نوروف، وزير التعليم الذي أدى مناسك الحج إلى سيناء عام 1862، وأوضح في كتابه أنه رأى كؤوسًا وأكوابًا مصنوعة من الفضة، وأطباقًا مطلية، ومعظم الهدايا الثرية القيمة كانت تعود إلى الحكام الروس عبر العصور.
كما أرسلت روسيا الرداء الكهنوتي في منتصف القرن الثامن عشر. ويوصي المؤلف في نهاية الفصل الباحثين بالقيام بمزيد من الدراسة لمقتنيات الدير القديمة، ليتوصلوا إلى عمل متحف كبير كما فعل الرهبان الأقباط في دير القديس أنطونيو في صحراء مصر الشرقية.
يقترب الكتاب من النهاية، ولكن قبل النهاية يطل علينا الفصل العاشر بعنوان “كانوا الأوائل”. يقصد من عنوان هذا الفصل أن الروس كانوا الطلائع والرواد في عملية بحث ودراسة القيمة الثقافية- التاريخية لكنوز الدير. وكان أومانيتس، الذي كان يترأس لجنة أوديسا للحجر الصحي، وجاء إلى مصر بوصفه طبيبًا متخصصا في الأمراض الوبائية، ولكن حبه للمعرفة هو ما جذبه إلى سيناء، هو أول من وضع دراسة تفصيلية للدير بعد زيارته عام 1843؛ ولهذا نجد أن كتاب أومانيتس عمل نزيه ومخلص، ولكنه غير محترف. ويليه الأرشمندريت بورفيري (أوسبينسكي) (1804- 1885) الذي زار دير سانت كاترين مرتين، عامي 1845 و1850، ووضع الكتاب البحثي الذي أصبح معروفًا حتى الآن باسم “كتاب أوسبينسكي المقدس”. ويعتبر الروس الذين زاروا الدير من الأوائل الذين التفتوا إلى الكنوز الموجودة في دير سانت كاترين وأهميتها، ثم توالت الأبحاث والدراسات التي قام بها الروس الذين زاروا الدير وأقاموا فيه. كما أشار المؤلف في هذا الفصل إلى أنه في أثناء الفترة التي لم يشارك فيها العلماء الروس في دراسة القيمة الثقافية والمعمارية لكنوز الدير على مدار قرن كامل، كان علماء دول الغرب يجيئون على استحياء لعمل دراسات في هذا المجال. كما تطرق الخبراء والمتخصصون في الغرب إلى جانب مهم جدًّا لنا، وهو دراسة الأدلة المادية الملموسة التي تدل على العلاقة التي تربط دير سيناء بروسياـ والتي استمرت قرونًا طويلة، وكتبوا بأنفسهم عن تلك الدلائل المادية الشاهدة على تلك العلاقة. ويتقدم مؤلف الكتاب في نهاية هذا الفصل بمبادرة لمركز علوم المصريات، باسم الأستاذ فلاديمير سيميونوفيتش جالينيشيف لدى جامعة العلوم الإنسانية الروسية الحكومية، لتنظيم أول بعثة علمية روسية إلى سيناء، بالاشتراك مع مركز تيخانوفسك الأرثوذكسي المقدس لعلوم الدين.
يختتم الكتاب بالفصل الحادي عشر بعنوان “الحج إلى سيناء في القرن الحادي والعشرين”. يقدم المؤلف في هذا الفصل النصائح الإرشادية لطريق الحج من روسيا إلى سيناء، الذي يمر عبر طريقين لا ثالث لهما، إذ يكون الوصول من روسيا على متن رحلة طيران شارتر إلى مطارين من المطارات الدولية: مطار شرم الشيخ، أو مطار طابا. ويشير إلى أن طريق الحج البري الذي يبدأ بالقاهرة وصولًا إلى دير سانت كاترين هو الأطول والأكثر تكلفة، بيد أن هذا الطريق يوفر للحاج زيارة الأماكن المقدسة التي مرت بها العائلة المقدسة في رحلتها، وهي شجرة السيدة مريم بالمطرية، ومغارة أسفل مذبح كنيسة أبو سرجة القبطية بالقاهرة القديمة، وكنيسة السيدة مريم القبطية بحي المعادي، بالإضافة إلى مشاهدة المعالم التاريخية والأثرية، وأهرام الجيزة، والقلعة، والمتحف المصري بالقاهرة.
يقدم المؤلف للقارئ أيضًا وصفًا تفصيليًّا للطريق إلى دير سانت كاترين. كما يأخذ القارئ في جولة داخل أروقة الدير، ويستكمل نصائحه الإرشادية للحجاج وزائري دير سانت كاترين.
خاتمة الكتاب عبارة عن وصف للطبيعة في جنوب سيناء من جبال، ومناخ، وبيئة خاصة بالمنطقة، ويتحدث المؤلف فيها عن إنشاء صندوق دير سانت كاترين لمساعدة كنيسة سيناء على الحفاظ على مقدساتها من الآثار والكنوز الموجودة في الدير، وكان ولي العهد البريطاني الأمير ولسكي تشارلز يرأس هذا الصندوق. وكان مجلس أمناء الصندوق يضم مندوبًا عن روسيا، وهو الأستاذ ميخائيل بيوتروفسكي مدير متحف الإرميتاج الروسي. وتتمثل مهام الصندوق في جمع التبرعات، وتنظيم المعارض، وتنفيذ أعمال الإصلاح والترميم اللازمة لمقتنيات الدير من عوائد تلك المعارض. ويوضح المؤلف أن الحكومة المصرية قررت إنشاء محمية حول الدير عام 1996. وتجدر الإشارة إلى أن إدراج دير سانت كاترين ضمن قائمة منظمة اليونسكو للتراث العالمي قد أسهم كثيرًا في تحويل الاهتمام به إلى مهمة تقوم بها البشرية بكاملها، كما يزيد فرص الحصول على الموارد المالية، واستدعاء الخبراء الأجانب للقيام بأعمال الإصلاح والترميم للمباني المعمارية للدير، والمجموعات الفنية التي لا تقدر بثمن من الكنوز التي يحويها الدير، حيث يمثل دير سانت كاترين قطعة فنية نادرة للديانة المسيحية الأرثوذكسية في الصحراء القاحلة، ولا بد من حمايته من الهجوم والغزو المدمر للحضارة الحديثة.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.