أدب

الروس عند مقدسات سيناء (1- 2)


  • 27 مارس 2024

شارك الموضوع

الروس عند مقدسات سيناء

وضع المستشرق الروسي البارز فلاديمير بلياكوف، في عام 2015، كتابًا صغير الحجم كبير القيمة، عنوانه “الروس عند مقدسات سيناء”. يأتي الكتاب في مقدمة وتمهيد، وأحد عشر فصلًا، وخاتمة، ويقع في 205 صفحات، وصدر عن دار نشر “أنباء روسيا”.

يعمل المستشرق الروسي فلاديمير بلياكوف أستاذًا للتاريخ العربي في معهد الاستشراق التابع لأكاديمية العلوم. وجاءت ترجمة الكتاب رشيقة سلسلة، من إعداد منى الدسوقي.

يستهل الكتاب بتمهيد قصير، يشير فيه المؤلف إلى أهمية شبه جزيرة سيناء، سواء عند غالبية الروس المعاصرين، أو الروس الذين زاروها منذ قرن مضى، حيث كانت تعني لهم قديمًا، شجرة العليقة المقدسة، وجبل موسى، ودير سانت كاترين، فهي شبه الجزيرة المقدسة التي عبرها رسل وأنبياء الأديان السماوية الثلاثة: اليهودية، والمسيحية، والإسلام، كما ظلت على مر العصور مزارًا للحجاج الروس.

تمثل سيناء للروس المعاصرين تلك الجبال الصخرية الرائعة، ومياه البحر الأحمر الصافية الدافئة التي لا تشوبها شائبة. كما يشير المؤلف إلى السبب الذي جعل منظمة اليونسكو تدرج كنيسة دير سانت كاترين ضمن قائمة التراث العالمي عام 2005.

يحكي المؤلف عن زيارته لسيناء عدة مرات، ومكوثه هناك عدة أيام للعمل الدؤوب في دراسة النقوش الموجودة على جدران كنيسة الدير، وذلك بمساعدة المطران دميان، مطران سيناء، الذي قدم له المساعدة في معرفة الأدلة القوية التي تؤكد وجود علاقات وثيقة الصلة بين هذه الكنيسة وروسيا.

يعد هذا الكتاب نتاج كثير من الأبحاث والملاحظات الخاصة بعد الاطلاع على سجلات زوار الكنيسة، التي رصد فيها المؤلف توقيعات باللغة الروسية. وكان أبرزها التوقيع الخاص بالأستاذ جريجوري إيفانوفيتش لوكيانوف، أستاذ علوم المصريات (1885- 1945)، المهاجر الروسي الذي عاش في مصر. وقد زار الدير عام 1932. وأعرب في أبيات شعرية عن إعجابه الشديد بالأماكن المقدسة.

يحمل الفصل الأول عنوان “سيناء- الأرض المقدسة”. يبدأ فيه المؤلف بالتعريف بأن مصر هي دولة التوحيد، حيث ظهرت فكرة التوحيد لأول مرة في القرن الرابع عشر قبل الميلاد، ونادى بها الفرعون أمنحوتب الرابع (أخناتون). وعلى الرغم من عدم تخطي هذه الفكرة عهد الملك أخناتون، فإن فكرة وجود إله واحد بدلًا من تعدد الآلهة القديمة قد بدت فكرة حيوية. وسرعان ما ولدت على أرض مصر أول ديانة، وهي الديانة اليهودية، ثم ظهرت على أساسها الديانة المسيحية في فلسطين، ثم ظهرت لاحقًا الديانة الإسلامية في شبه الجزيرة العربية.

يذهب المؤرخ بلياكوف إلى أن اليهود الذين عاشوا في مصر قرابة 430 سنة، كانوا شهود عيان على الإصلاحات التي قام بها الفرعون أخناتون. ومن الجدير بالاهتمام أنه في نهاية الثمانينيات من القرن العشرين، وضع المؤرخ الإنجليزي المصري الأصل أحمد عثمان كتابًا بعنوان “موسى وأخناتون”، أعرب فيه عن تصوره بأن يكون الاثنان شخصًا واحدًا، غير أن غالبية المؤرخين من زملاء عثمان تعاملوا بتردد مع هذا الافتراض.

يعود المؤلف مرة أخرى إلى الحديث عن شبه جزيرة سيناء، بعد أن قدم تعريفًا باليهود، وظهور الدين اليهودي. ويقول إن شبه جزيرة سيناء هي عبارة عن صفحة من الرمال والحجارة تصل مساحتها إلى 60 ألف كم، وتزداد اتساعًا كلما تقدمنا نحو الشمال، في حين تزداد ضيقًا وعلوًا كلما اتجهنا جنوبًا، فالأرض هنا قابلة للاستصلاح، لكن المياه العذبة في سيناء تقدر بالذهب. وتقع سيناء في قارة آسيا عكس باقي الأراضي المصرية، وكان هذا هو سبب انخفاض الكثافة السكانية في سيناء. والبدو هم سكانها الأصليون، ولديهم اكتفاء ذاتي، حيث يزرعون النخيل ليتغذوا على التمر، ويزرعون الخضراوات والفواكه في الواحات الجميلة.

يشير المؤلف في هذا الفصل إلى حرص حكام مصر من الفراعنة على إنشاء طريق “الإله حور” في شمال سيناء بمحاذاة البحر المتوسط، وهو طريق يطل على الشرق، وكانوا يرسلون جيوشهم عبر هذا الطريق في معاركهم الحربية. كما كانت القوافل التجارية المتوجهة إلى فلسطين وبلاد الرافدين تسير فيه. ومن الجدير بالذكر أن مختلف الهجمات التي تعرضت لها مصر، كانت عبر البوابة الشرقية على أيدي الغزاة من الهكسوس، والآشوريين، والفرس، واليونانيين، والأرمن، والعرب، والأتراك. كما شهدت سيناء، في مطلع العهد الجديد، هروب العائلة المقدسة التي تضم السيدة مريم العذراء مع رضيعها عيسى، ويوسف النجار؛ فرارًا من اضطهاد الملك هيرودوس.

يستمر المؤلف في الحديث عن سيناء، ويذكر أن الجزء الجنوبي من شبه جزيرة سيناء يعد بمعزل عن الطريق الممهد، حيث يقع خليج السويس الذي يفصل سيناء عن مصر، وخليج العقبة الذي يفصلها عن شبه الجزيرة العربية. كما ترتفع قمم الجبال الصخرية ليتجاوز أحدهما 2000 متر. وكان يستخرج منها في العصر الفرعوني النحاس والفيروز، والدليل على ذلك وجود مناجم النحاس التي ما زالت موجودة هناك حتى الآن.

يتطرق المؤلف إلى سبب التسمية، حيث يرى بعض العلماء أن الاسم جاء من كلمة “سين” العبرية، التي تعني ضرس؛ وفقًا لشكل الجبال هناك، في حين يرى بعضهم الآخر أن الاسم مشتق من “سين”- إله القمر، الذي انتشرت عبادته في تلك الفترة.

حمل الفصل الثاني عنوان “حراس جبل سيناء”، ويشير إلى وصول أول الأنباء عن مصر، وأهميتها الدينية، إلى الروس منذ فجر إنشاء الهيكل الإداري للدولة. وكان مصدر هذه الأنباء من خلال تراجم المدونات التاريخية البيزنطية إلى اللغة السلافية- أي اللغة الروسية القديمة. وكان من أشهرها أعمال يوحنا مالالي (القرن السادس الميلادي)، وأعمال جورجي سينكل (لقرن الثامن الميلادي)، وأعمال بطريرك الإسكندرية جورجي أمارتول (القرن التاسع الميلادي).

يشير هذا الفصل إلى أنه في عام 1001، وبعد مرور 13 عامًا على تعميد الروس، أرسل الأمير فلاديمير عدة سفراء إلى دول مختلفة، مثل روما، والقدس، ومصر، وبابل؛ لاستكشاف أراضي تلك الدول، ومعرفة عادات شعوبها وتقاليدهم، وفقًا لمخطوطة نيكونوفسك، ولكن التوزيع الجغرافي للسفراء يوضح أن الهدف الحقيقي يتمثل في القيام بأداء مهام كنسية بالمقام الأول، ولم يكن الهدف من إنشاء تلك السفارات تحقيق أي أغراض تجارية أو سياسية.

وصلت أهمية مصر والقدس وروما من خلال روايات رجال الدين البيزنطيين، حيث كانت مصر هي الدولة الوحيدة التي عاشت فيها العائلة المقدسة هروبًا من ظلم الإمبراطور هيرودس وعدوانه. وكانت الكنيسة البيزنطية والروس ينظرون إلى الأقباط وكأنهم من المنشقين المرتدين؛ لأنهم لم يقبلوا قرارات المجلس المسكوني للكنيسة المسيحية عام 451 م، وشكّل الأقباط كنيسة خاصة بهم. غير أن مصر منحت العالم المسيحي كثيرًا من الشخصيات المقدسة، مثل أنطوني العظيم، وماكاري المصري، وبولس فيفيسكي، وماريا المصرية، والقديسة كاترين، إلى جانب البطريرك اليوناني للإسكندرية وسائر إفريقيا.

يؤكد الفصل الثاني أن الأهمية الدينية لمصر تنبع من وجود كثير من المقدسات المسيحية في شبه جزيرة سيناء. كما يؤكد أن العلماء لم يتفقوا حتى الآن على الطريق الذي سلكه بنو إسرائيل في رحلتهم من مصر إلى أرض المعاد. يسرد لنا هذا الفصل تاريخ بناء الكنيسة الصغيرة التي تحولت إلى دير، وقد بُنيت حول شجرة العليقة عام 313 عندما اعتنق الإمبراطور البيزنطي قسطنطين المسيحية، ويقدم وصفًا تفصيليًّا للكنيسة، وكيفية إدارتها وتبعيتها، وكيفية اختيار مطران كنيسة سيناء، والارتباط الوثيق بين كنيسة سيناء وبطريركية القدس.

يأخذنا مؤلف الكتاب إلى الفصل الثالث، الذي يحمل عموان “بركة شجرة العليقة”. ويستهل المؤلف الفصل بنبذة عن الهدف من زيارة الأماكن المقدسة. ويشير إلى بداية إدراك روسيا للأهمية الدينية لمصر في عهد الأمير فلاديمير، وبداية وصول الحجاج الروس إلى هناك منذ القرن الحادي عشر.

يتناول الفصل الثالث علاقة الحجاج الروس بسيناء، وكيف كانت أعداد الحجاج الوافدين إليها قليلة، مقارنة بزيارتهم للأماكن المقدسة في فلسطين، منذ بداية هذه الرحلات في القرون الوسطى. ويشير هذا الفصل إلى قلة التدوينات وملاحظات الحجاج عن تلك الرحلات، مع أن هؤلاء الحجاج كانوا على قدر جيد من التعليم. كما يستعرض عددًا من أبرز الشخصيات الروسية التي زارت الدير وتركت بعض الملاحظات، سواء أكانوا رهبانًا أم تجارًا. ويشير المؤلف في موقع آخر من هذا الفصل إلى أن التبرعات التي كانت تأتي إلى الدير لم يكن مصدرها الحجاج فحسب؛ وإنما كانت هناك تبرعات تأتي من الراغبين في أداء الحج إلى سيناء ولا يستطيعون إليه سبيلًا. بالإضافة إلى سفر أهالي الدير إلى روسيا بين الحين والآخر لجمع الصدقات. وفي نهاية الفصل يشير المؤلف إلى أن هناك حالة من إحياء عادة الحج مرة أخرى إلى سيناء من جانب الروس منذ حقبة السبعينيات، حيث توقفت عادة الحجاج الروس التي استمرت قرونًا طويلة في الحج إلى سيناء في أثناء الحرب العالمية الأولى، وثورة أكتوبر.

يأخذنا الفصل الرابع من كتاب “الروس عند مقدسات سيناء”، الذي يحمل عنوان “رحلة صحراوية فوق ظهر جمل”، ليصور لنا حجم المعاناة التي كان يعانيها الحجاج في أثناء رحلتهم إلى دير سانت كاترين، من خلال الرحلة التي قام بها الطبيب والمتخصص في دراسة العلوم الإنسانية ألكسندر فاسيليفيتش إليسييف (1895- 1858) الرحالة المعروف، الذي بدأ رحلته في صيف عام 1881، وكتب عنها بعد عامين في كتاب له بعنوان “رحلة إلى سيناء”. كما يشير المؤلف إلى أن معظم أسماء الأماكن الجغرافية التي أوردها الرحالة الروسي في كتابه، تكتب الآن على نحو مختلف عما كانت تكتب عليه منذ قرن مضى. يصل إليسييف في نهاية الرحلة الشاقة، بعد مروره بمعظم المناطق المقدسة في سيناء، إلى الدير، حاملًا خطابات التوصية التي كانت معه من الكنيسة الأرثوذكسية الروسية بالإسكندرية، والقنصل العام الروسي، لينقلها إلى رهبان الدير.

يحمل الفصل الخامس عنوان (“روما الثالثة” تستقبل الشعلة)، ويذكر المؤلف في بداية هذا الفصل انقسام الإمبراطورية الرومانية إلى قسمين: الشرقية والغربية. وكانت موسكو في هذا الوقت قد انتهت من تجميع شتات الأراضي الروسية في بوتقة الدولة الروسية الموحدة، وتخلصت عام 1480 من الاستعمار التتري، وظهرت في ذلك الوقت المقولة المعروفة التي تقول إن “موسكو هي روما الثالثة، ولن يكون هناك روما رابعة”. كما يستعرض المؤلف تاريخ العلاقة بين روسيا وكنيسة سيناء الأرثوذكسية الأزلية، التي تعود إلى بداية معرفة الحجاج الروس طريقهم إلى دير سانت كاترين، أي منذ القرن الحادي عشر، لتصبح هذه العلاقة أكثر متانة وثباتًا قبل نهاية القرن الرابع عشر.

يذكر هذا الفصل أن المساعدات المالية التي كانت تقدمها روسيا لدير سيناء كانت ثانوية، ثم سرعان ما أصبح أصحاب الدير هم المبادرين بطلب تلك المساعدات، حيث زار العجوز كليمنت موسكو عام 1518، حاملًا رسالة من مطران الدير دانيال، وتحديدًا في 16 نوفمبر (تشرين الثاني) 1517، للشكوى من الأتراك الذين استولوا على مصر في يناير (كانون الثاني) 1517، وفرضوا إتاوة على الدير بمقدار ألفي أوقية من الذهب، وأرسل القيصر الروسي فاسيلي إيفانوفيتش 600 أوقية من الذهب مع كليمنت. كما أرسل معه عددًا من فراء حيوانات السمور والسنجاب والثعالب، وطلب من مطران سيناء الدعاء له بدوام الصحة والعافية. ثم جاءت الزيارة الثانية لموسكو بعد أربعين سنة، أي عام 1558. وردًا على رسالة الدير، أرسل القيصر إيفان الرهيب المساعدات المطلوبة إلى مصر، التي كانت عبارة عن أواني الكنيسة المقدسة التي تعادل 1000 عملة ذهبية. كما أرسل أواني الكنيسة المقدسة بقيمة 1000 عملة ذهبية لأجل باقي إنشاءات الدير، وطلب الدعاء له ولزوجته أنستاسيا، ولابنيه القيصرين الصغيرين إيفان وفيدور، ولكل المسيحيين الأرثوذكس. ويشير المؤلف في هذا الفصل إلى أن الحكام الروس قد برهنوا للمسيحيين الموجودين تحت سيطرة الأتراك أنهم الحماة الأصليون الحقيقيون لمسيحي الأرثوذكس، من خلال الصدقات والتبرعات التي ظلوا يرسلونها إلى الدير.

يعاود المؤلف- مرة أخرى- الإشارة إلى الزيارات التي قام بها مسؤولو الدير إلى موسكو. ويذكر أنه تحديدًا عام 1682، ذهب المطران أنانيا مطران سيناء إلى كاتدرائية موسكو ليطلب من القياصرة الشباب بطرس، ويوحنا، وصوفيا “أن يصبح دير سيناء تحت وصاية الدولة الروسية”.

ظل الدير في سيناء يحصل على نفقاته من روسيا منذ مطلع القرن التاسع عشر حتى ثورة 1917، وكانت روسيا ترسل “قافة مواد غذائية”، وتتحرك القافلة من القاهرة إلى سيناء سنويًّا، ولكن توقف إرسال تلك القافلة بداية من عام 1917.

يستأنف الكتاب في الفصل السادس الذي يحمل عنوان “الملاذ الهادئ” التجوال عبر سيناء، ولكنه هذه المرة تجوال داخل الدير، وذلك بعد أن تجول بنا المؤلف مع إليسييف فوق ظهر الجمل من السويس إلى دير سانت كاترين في الفصل السابق. والتجوال هذه المرة مع شخص جديد، ليكون المرشد داخل الدير، وهو الأرشمندريت بورفيري (أوسبنسكي) الذي وضع كتابًا عنوانه “أول رحلة إلى دير سيناء”، صدر في سانت بطرسبورغ عام 1856، وقدم فيه وصفًا دقيقًا تفصيليًّا للدير، كما ضم وصفًا شارحًا للمباني القديمة، والأبراج، والجدران، والبوابات، والبناء الهندسي للدير. كما تناول الزخارف والأيقونات الموجودة في كنيسة التجلي. ثم أفرد الأرشمندريت بورفيري فصلًا كاملًا في كتابه للحديث عن عظام القديسين وهياكلهم. وكان رفات القديسة كاترين من أكثر المشاهد التي أثارت اهتمام الباحث الروسي. وبعد انتهائه من وصف الدير، انتقل للحديث عن الأماكن المقدسة في سيناء، ورحلة صعوده إلى قمة جبل سيناء. وبخلاف باقي فصول الكتاب، ضمت صفحات هذا الفصل مجموعة من الصور الملونة جيدًا لدير سانت كاترين ومقتنياته من الأيقونات، وجبل موسى، وشجرة العليقة.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع