توطئة
بالتزامن مع الذكرى الأولى لإحباط المخابرات الإيرانية عملية تخريب إسرائيلية واسعة كانت تستهدف صناعاتها الصاروخية، أعادت تفجيرات “البيجر“ وأجهزة الاتصالات اللاسلكية في لبنان الحديث عن الاستهداف المباشر لإيران وأذرعها في المنطقة، وخاصة حزب الله اللبناني، الذي لم تكتفِ تل أبيب بتداعيات انفجاراتها الأخيرة على المدنيين في لبنان، وإصابة سفير إيران في بيروت مجتبى أماني؛ بل شنت غارة جديدة اغتيل على إثرها قائد وحدة العمليات الخاصة بالحزب إبراهيم عقيل أمس، لتتجاوز كل الخطوط الحمراء مع الحزب، وإيران بالتبعية.
وفي هذا الصدد، يزداد ترقب العالم وتوجسه كل يوم إزاء الرد الإيراني المنتظر، وما قد يجره من تبعات وتوترات قد تصل إلى حرب إقليمية، لا سيما في ظل التصعيد المقصود من الجانب الإسرائيلي لجر المنطقة نحو مواجهة غير محسوبة النتائج؛ ومن ثم يطرح هذا الواقع كثيرًا من التساؤلات عن طبيعة الرد الإيراني، وحجمه، وأبعاده، وكذلك السيناريوهات المطروحة أمام طهران، وردود الفعل المحتملة دوليًّا وإقليميًّا على معادلات الرد والرد المضاد.
عندما شنت إسرائيل هجومها على القنصلية الإيرانية في دمشق، في أبريل (نيسان) الماضي، كان البعض يشكك في قدرة إيران على الرد ردًّا مباشرًا، وأنها ستكتفي بما سيقوم بها حلفاؤها من محور المقاومة؛ لذا نقل الرد الإيراني المباشر على إسرائيل -من خلال سلسلة من الطائرات المسيرة- طهران من جبهة إسناد إلى جبهة مواجهة، وهو تطور كبير في تاريخ الصراع الإيراني الإسرائيلي. على عكس هذا، جاء رد إيران على اغتيال إسماعيل هنية وفؤاد شكر مركبًا؛ بمعنى أن إيران لم تتعامل بردود الفعل، بل بدأت بالرد اللفظي، وانتقلت إلى الرد السياسي، من خلال اللجوء إلى مجلس الأمن، من أجل إثبات حقها السياسي، دون توجيه أي ضربة مضادة؛ وهذا ما جعل الشرق الأوسط، بل العالم كله، يترقب رد الفعل الإيراني إثر قيام إسرائيل بسلسلة من الاغتيالات النوعية ضد عدد من قادة حماس وحزب الله في طهران، وغزة، وبيروت، فلم يلبث أن مثل اغتيال إسماعيل هنية وفؤاد شكر ضربة قاصمة للنظام الإيراني في نهاية يوليو (تموز) المنصرم، حتى جاء الهجوم الأكبر على السفير الإيراني في لبنان وعناصر حزب الله اللبناني من خلال تفجير أجهزة الاستدعاء والأجهزة اللاسلكية البيجر ليلة السابع عشر من سبتمبر (أيلول) الجاري؛ ما أثار المخاوف من الدخول في حرب شاملة تلقي بظلالها إقليميًّا ودوليًّا.
وفي المقابل، كان حزب الله حريصًا، منذ اليوم الأول للمواجهة، على الحفاظ على جبهته الداخلية؛ لذا لم يستهدف مواقع مدنية في الداخل الإسرائيلي لكيلا يعطي ذريعة لتل أبيب باستهداف مواقع مدنية في لبنان، غير أن الهجوم الأخير الذي استهدف النساء والرجال والأطفال في لبنان غيّرَ قواعد الاشتباك بين إسرائيل وحزب الله، واكتفى قائد الحرس الثوري الإيراني حسين سلامي بإرسال رسالة إلى الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، أكد فيها أن إسرائيل ستواجه قريبًا ردًا حاسمًا وساحقًا من محور المقاومة، ولم يشر إلى رد إيراني مباشر على الهجوم حتى الآن.
ولفهم طبيعة الرد الإيراني يجب تفكيك الركائز الأساسية للنظام الإيراني، التي تشكل الإطار المرجعي لأي فعل إيراني؛ أولًا؛ الحفاظ على بقاء النموذج الإيراني، وذلك من خلال تجنب الأخطار التي تهدد استمرار وجود هذا النظام على أرض الواقع، فلن تسمح طهران بأي تهديد ينال من الجمهورية الإسلامية. ثانيًا: الوصول إلى الهدف؛ فمن ثوابت السياسة الإيرانية قدسية الهدف ومحوريته، فتحقيق الهدف هو ما يحدد صحة رد الفعل من عدمها، حسب إستراتيجيات محددة، ومرسومة بدقة.
ومن هذا، فإن ثمة عدة اعتبارات داخلية وخارجية تحكم طبيعة الرد الإيراني وتوقيته على الهجوم الإسرائيلي على حزب الله اللبناني؛ فعلى المستوى الداخلي تعاني طهران غضبًا شعبيًّا عارمًا، ومطالبات صارمة بالرد على اعتداءات إسرائيل المتكررة على إيران، في حين ترتكز الاعتبارات الخارجية للرد الإيراني على حرص إيران أولًا، قبل كل شيء، على عدم الانجرار إلى مواجهة مفتوحة مع إسرائيل، ومن ثم مع الولايات المتحدة الأمريكية. فضلًا عن هذا، فإن إيران لديها هدف إستراتيجي تسعى إلى المحافظة عليه، يتمثل في برنامجها النووي الذي سخرت له كل إمكاناتها، طوال العقود الماضية؛ ومن ثم فإنها غير مستعدة للدخول في أي مواجهة قد تؤدي إلى تدمير جهودها، لا سيما مع اقترابها من امتلاك السلاح النووي على نحو كامل.
تشهد المنطقة حالة من التوتر منذ بداية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة منذ ما يقرب من عام، وتصاعدت حدة هذا التوتر مع الاعتداءات الإسرائيلية الأخيرة التي وسعت العمليات العسكرية لتشمل الجبهة الشمالية ضد حزب الله وسوريا؛ ما يدفع إلى التساؤل عن مستقبل الصراع بين طهران وتل أبيب في الأيام القليلة المقبلة، تتضح التكهنات بشأنه فيما يلي:
السيناريو الأول: الرد عبر الوكلاء: إيران قد ترد على إسرائيل من خلال أذرعها في المنطقة، مع تجنب أي تصعيد يؤدي إلى مواجهة مباشرة مع إسرائيل من جهتها، ويرجح حدوث هذا السيناريو النشاط المتصاعد للعمليات التي تشنها أذرع إيران في سوريا والعراق، والحوثيون في اليمن بعد هجومهم الأخير على وسط تل أبيب، فضلًا عن حزب الله، الذي قد يقوم بهجوم بري على غرار 7 أكتوبر، خاصة بعد الاستهداف المتعمد لقادته، ومنهم فؤاد شكر، وإبراهيم عقيل.
ومن ثم، يعد هذا السيناريو الأكثر ترجيحًا؛ ارتكازًا على إستراتيجية “المقاومة الفعالة” لدى الجمهورية الإسلامية، التي تعني الرد بما لا يؤدي إلى حرب شاملة، وفي الوقت نفسه يضمن لإيران الردع، ويمنع تكرار الاعتداءات عليها، وهذا الخيار يتضمن زيادة الدعم لفصائل المقاومة الفلسطينية، بالإضافة إلى حزب الله والحوثيين في اليمن، فضلًا عن الفصائل السورية والعراقية، وتسليحها تسليحًا أكبر وأكثر فاعلية، ودفعها إلى استهداف مواقع إسرائيلية حيوية، ما يصب في الميزان الإستراتيجي الإيراني، ويحقق أهداف سياسة الردع الإيرانية إلى حين التخطيط للخطوة المقبلة.
السيناريو الثاني: إرجاء الرد والمساومة على المكاسب: قد تستغل طهران التصعيد لإعادة توجيه الضغط على إسرائيل والولايات المتحدة لتحقيق مكاسب لها على مستوى مكانتها الإقليمية والدولية كلاعب محوري في المنطقة وخاصة فيما يتعلق بالملف النووي، والعقوبات الغربية المفروضة عليها؛ ومن ثم تنسجم مسوغات هذا السيناريو المحتمل مع عقيدة إيران في تجنب الدفع نحو مواجهة مباشرة مع إسرائيل، إذ ترى طهران أن أي صدام مباشر ومعلن مع إسرائيل سيشكل لنتنياهو الآن مكسبًا على الصعيدين الداخلي والخارجي، وسينقل الإدانة الإقليمية والدولية ضد سياسات نتنياهو إلى إجماع على تقويض مقدرات النظام الإيراني، وهو ما لا ترغب طهران في حدوثه، خاصةً بعد تحسن صورتها على المستوى الإقليمي والدولي بصفتها المدافع الأول ضد العدوان الإسرائيلي.
السيناريو الثالث: المواجهة المباشرة بين إيران وإسرائيل: يمكن تنفيذ ضربة إيرانية بالصواريخ الباليستية، تستهدف أهدافًا حيوية لإسرائيل، على غرار الهجوم الإيراني بالطائرات المسيرة في أبريل (نيسان) الماضي، لكن التفكير في الرد الإسرائيلي والمتغيرات الإقليمية يجعل هذا الخيار مجازفة قد تتعارض مع الرؤية الإستراتيجية لطهران، وتصورها عن إدارة الصراع مع إسرائيل في الفترة الحالية. فضلًا عن هذا، فإن هذا السيناريو يعد الأقل ترجيحًا؛ ارتباطًا بتداعياته الكارثية على المنطقة، خاصة في ظل ترسانة حزب الله الصاروخية والبنية التحتية العسكرية في سوريا والقدرة الصاروخية للحوثيين؛ ما يسفر عن حرب شاملة ستكون مكلفة لجميع الأطراف.
الخاتمة
على مدى الأسابيع الماضية، واجه الرئيس الإيراني الجديد مسعود بزشكيان -الذي لم يمضِ على تنصيبه أكثر من شهرين- توترات متصاعدة مع إسرائيل، بدأت منذ أول يوم لتوليه السلطة حينما اغتيل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية في إيران، بالتوازي مع سلسلة الغارات التي شنتها إسرائيل على حزب الله، التي أسفرت عن اغتيال أكبر قادة الحزب فؤاد شكر في نهاية يوليو (تموز) الماضي، مرورًا بتفجيرات البيجر التي أصيب على إثرها السفير الإيراني في بيروت، وانتهاءً باغتيال قائد وحدة العمليات الخاصة بالحزب إبراهيم عقيل أمس، ليصبح واضحًا أن الحرب المقبلة ليست حرب غزة، أو لبنان، أو إيران؛ بل إنها حرب على تشكيل مستقبل الشرق الأوسط، وإعادة رسم خريطة نفوذ القوى الإقليمية والدولية فيه.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.