وحدة الدراسات الصينية

مستشار سياسي أسترالي سابق

الرؤية التاريخية لشي جين بينغ: “فهم الماضي ضرورة لصياغة مستقبل حكيم”


  • 28 مايو 2025

شارك الموضوع
i مصدر الصورة: bookbot

التعلّم من التاريخ لبناء مستقبل أكثر إشراقًا معًا”، هو عنوان المقال الموقع من الرئيس الصيني “شي جين بينغ”، الذي نُشر في صحيفة “روسيسكايا غازيتا” قبيل زيارته الرسمية إلى روسيا، لحضور احتفالات الذكرى الثمانين للانتصار في الحرب الوطنية العظمى للاتحاد السوفيتي. يسلط المقال الضوء على أهمية “تبني منظور تاريخي صحيح تجاه الحرب العالمية الثانية”، و”الحفاظ على النظام الدولي لما بعد الحرب”، و”الدفاع الحازم عن العدالة والإنصاف الدوليين”.

وخلال لقائه بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في 8 مايو (أيار)، أعاد الرئيس “شي” تأكيد أن الصين -في مواجهة تيارات الأحادية وسياسات القوة والتنمر العالمي- ستتعاون مع روسيا في اتخاذ موقف واضح للدفاع عن الرؤية التاريخية الصحيحة للحرب العالمية الثانية، وصون الانتصار الذي تحقق فيها، وتعزيز عالم متعدد الأقطاب يتسم بالمساواة والنظام، واقتصاد عالمي منفتح وشامل يعود بالنفع على الجميع.

يُعد تقدير التاريخ، ودراسته، واستخلاص العبر منه، من السمات المميزة لفلسفة الرئيس “شي” في الحوكمة. ومن يطالع كتاب “شي جين بينغ” “حول الحكم والإدارة”، يلاحظ إدراكًا مشتركًا بأن الرئيس “شي” يمنح أهمية كبرى للمنظور التاريخي الشامل، ويستخدم التاريخ إطارًا أساسيًّا لتحليل القضايا، ورصد التحولات، ووضع الإستراتيجيات. ويعكس مقال “تذكُّر الماضي وشهدائنا، تقدير السلام، وبناء مستقبل جديد” الموقف الثابت لـ”شي” من التاريخ، وفهمه العميق لأهمية التمسك برؤية تاريخية دقيقة كضرورة حتمية لصون الحقيقة والعدالة.

وفي الجزء الرابع من سلسلة “فك شفرة كتاب شي جين بينغ: حكم الصين”، تواصل صحيفة “غلوبال تايمز” دعوتها لمجموعة من الأكاديميين الصينيين والدوليين، ومترجمي الكتاب، والممارسين لمفاهيمه، وقرّاءه من الخارج، لتقديم آرائهم وتأملاتهم بشأن المنظور التاريخي الكلي لفكرة “التعلّم من التاريخ لبناء مستقبل أفضل”.

وقد كتب مقال هذا العدد البروفيسور “وورويك باول”، الأستاذ المشارك في جامعة كوينزلاند للتكنولوجيا، والمستشار السياسي السابق لرئيس الوزراء الأسترالي “كيفن رود”.

في فلسفة “شي جين بينغ” السياسية، لا يُنظر إلى التاريخ بوصفه مجرد خلفية للتحديات المعاصرة، بل يُعد بوصلة، ومخزونًا أخلاقيًّا وإستراتيجيًّا. إن تأكيده للتاريخ يُمثل نهجًا منهجيًّا للرؤية والتفكير والحكم. وفهم هذا النهج ضروري لاستيعاب مرتكزات أسلوبه في القيادة.

استدعاء “شي” للتاريخ بوصفه “أفضل كتاب مدرسي”، و”أفضل مغذٍّ”، و”أفضل جرعة وعي” يعكس إيمانًا راسخًا بأن المعرفة التاريخية لا توفر الفهم فحسب؛ بل تمنح القدرة على اتخاذ قرارات صائبة، وتنفيذ سياسات رشيدة. هذا المفهوم ينسجم مع الفلسفات الصينية الكلاسيكية في الحكم، حيث اعتُبر التاريخ بمنزلة مرآة أخلاقية، أو تحذير حاسم للحكام. غير أن منظومة الحكم في الصين اليوم تكيّف هذه المبادئ لتلائم العصر الحديث.

في هذا النهج، لا يُعامل التاريخ بوصفه كيانًا جامدًا، أو رمزًا زخرفيًّا؛ بل يُفهم على أنه ديناميكي ومضيء، فالتاريخ يوفر إحداثيات لرسم طريق آمن في عالم دائم التغيّر. ويقوم هذا الفهم على الجدل المادي الماركسي؛ إذ يُنظر إلى التاريخ بوصفه عملية تتشكل من خلال صراعات طبقية وتناقضات، وتطور قوى الإنتاج. ويضيف “شي” إلى ذلك تركيزًا على “الفاعلية الأخلاقية”: “الشعب هو صانع التاريخ والبطل الحقيقي”، ويجسّد هذا المنظور جسرًا بين دور الحزب التاريخي وديناميات الشعب الصيني الأوسع.

الوعي التاريخي لدى الرئيس “شي” ذو طابع عملي بامتياز؛ فهو لا يُمجّد الماضي؛ بل يتعامل معه بوصفه مرجعًا للتعلم، واستخلاص التجارب، من أجل تصرف أكثر حكمة في الحاضر، وهذا يشمل تحديد القوانين التاريخية، لا بوصفها نماذج جامدة، بل بوصفها قوى وأنماطًا وحقائق تتكشف عبر الزمن، وتضيء تحديات العصر.

دراسة التاريخ ليست طقسًا شعائريًّا ولا حنينًا فارغًا؛ بل هي أداة للاستقصاء النقدي: كيف نجحنا؟ أين أخطأنا؟ وما دلالة ذلك على قراراتنا الإستراتيجية اليوم؟ إنها حصن ضد “العدمية التاريخية”، أي التصور بأن الماضي لا قيمة له.

ومع أن الرئيس شي يتحدث كثيرًا عن تقدير التاريخ، فإنه يؤكد أيضًا ضرورة صناعته. يقول: “أفضل إرث للتاريخ هو صنع التاريخ”، ويضيف: “أعظم تكريم للبشرية هو ابتكار نموذج جديد للتقدم الإنساني”، وهذا ليس دعوة للقطيعة مع الماضي؛ بل للنهوض منه، ومعاملة التاريخ بوصفه منصة للانطلاق نحو المستقبل من خلال تفاعل واعٍ مع معطيات الحاضر.

ويُعد التعامل مع الحروب التاريخية مثالًا صارخًا على ذلك، فلدى “شي”، فإن إحياء ذكرى الحرب العالمية الثانية هو تمرين عميق في التفكير التاريخي، وهو يُرسخ الحكم المعاصر في دروس الماضي السياسية والأخلاقية. وكما يوضح في خطبه ومقالاته، فإن استحضار التاريخ ضروري ليس فقط لتكريم تضحيات من قاوموا الفاشية ودافعوا عن السلام؛ بل أيضًا لصون الحقيقة والعدالة والمساواة الدولية.

استذكار الحرب ليس فعل حزن فقط؛ بل وسيلة لتعزيز قيم السلام، والاحترام المتبادل، والتعاون بين الأمم، فالتاريخ يعمل كبوصلة أخلاقية، يوجّه الأفعال الحاضرة والمستقبلية، ويضمن عدم نسيان مآسي الماضي، أو تحريف انتصاراته.

ويعزز هذا الوعي التاريخي وحدة الأمة، ويزرع حسًّا بالمسؤولية لدى الشعب، ويغذّي الرؤية الأوسع للصين لبناء نظام عالمي سلمي وعادل. والأهم أن هذا النهج يتجاوز ثنائية “الحتمية التاريخية” و”الإرادة المطلقة”، فالتاريخ لا يُفهم على أنه سيناريو مكتوب سلفًا، ولا كلوحة بيضاء تُسقط عليها الإرادة البشرية رغباتها؛ بل بوصفه عملية دقيقة تتطلب قراءة الاتجاهات، وفهم التناقضات، والاصطفاف الإستراتيجي مع مسار التاريخ المتطور.

ويتناغم هذا التصور الراقي مع التقاليد الفلسفية العميقة في الثقافة الصينية. إنه يدعو إلى تطوير القدرة على قراءة تدفق التغيير، وفهم منطقه الداخلي، والعمل ببصيرة ومسؤولية ووضوح أخلاقي. إنه نهج فلسفي وإستراتيجي في آن، يرى في الماضي قيودًا وفرصًا، وفي المستقبل أخطارًا وآمالًا.

وفي هذا السياق، يُعد التاريخ عملية ينبغي فهمها وتوجيهها وتربيتها، فالتصرف الفعال في الحاضر يتطلب إدراك بنية التغيير، والقدرة على المواءمة بين الاتجاه والمبادرة، والنمط والفاعلية، والتقاليد والتحول.

في فكر “شي”، لا يقتصر التاريخ على الماضي؛ بل يمتد إلى المستقبل. إنه يقدم دروسًا، وأطرًا، ومعاني، لكنه قبل كل شيء، يوفر اتجاهًا؛ ومن ثم فإن إيلاء التاريخ هذه الأهمية ليس مجرد شكل من أشكال التقديس؛ وإنما تعبير عن المسؤولية.

ومن خلال دمج المفهوم المادي للتاريخ مع وعي حضاري وروح مستقبلية، صاغ “شي” منهجًا تاريخيًّا للحكم يدعو جميع الفاعلين إلى رصد الاتجاهات العامة، والتخطيط الإستراتيجي، والتفكير بعيد المدى؛ وبهذا يصبح التاريخ نمط تفكير، وأداة تحليل، ودليلًا للفعل الواعي.

في زمنٍ يكتنفه عدم اليقين، تقدم الرؤية التاريخية الشاملة لـ”شي جين بينغ” منارة هادية: الماضي قد لا يحدد المستقبل، لكن فهمه ضرورة لصياغته بحكمة. ومن هذا المنظور، لا تُقدّم رؤية “شي” للتاريخ مجرد برنامج سياسي، بل تقدم تصورًا حضاريًّا يتجاوز ثنائيات الحتمية والإرادة. إنها دعوة لانخراط فعّال ومدروس مع ديناميات التغيير. وتُلقي هذه الرؤية مسؤولية مضاعفة على القيادة والمجتمع معًا: أن يتعلموا من الماضي، ويفهموا الحاضر، ويشكّلوا المستقبل.

المصدر: صحيفة غلوبال تايمز (Global Times) الصينية

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع