خلفت الحرب الروسية الأوكرانية مع حلول الذكرى الثالثة لها تأثيرًا عالميًّا في الأسواق المالية، وأسعار السلع، والتحالفات العسكرية. في البداية، كان افتراض الغرب أن روسيا سوف تتجاهل مصالحها الأمنية بعد الحرب الباردة خطأً فادحًا. والآن، تأثر استقرار العالم بأسره، بما في ذلك جنوب آسيا. ولقد اتخذت الهند وباكستان وبنغلاديش موقفًا محايدًا تجاه الحرب، إذ أعربت عن دعمها للحل السلمي من خلال الوسائل الدبلوماسية. وقد أثبتت سياسة عدم الانحياز أنها إستراتيجية مستدامة لغالبية دول المنطقة التي عانت أسوأ التأثيرات المترتبة على الحرب الروسية- الأوكرانية.
دعت الهند، أكبر دول جنوب آسيا، التي تربطها علاقات طويلة الأمد مع روسيا، إلى ضبط النفس والحوار لحل الأزمة. وفي موقف حذر بشأن أزمة الحرب، أعربت باكستان ومسؤولوها عن دعمهم للحوار والدبلوماسية لحل الصراع. كما أكدت إسلام آباد أهمية احترام القانون الدولي وسلامة الأراضي، ودعت إلى إنهاء العنف. وأكدت بنغلاديش أيضًا الحاجة إلى حل سلمي للأزمة من خلال الحوار والتفاوض. تحافظ دَكا على سياسة خارجية محايدة، تؤكد الحفاظ على علاقات ودية مع جميع البلدان، بغض النظر عن مصالحها الجيوسياسية. وتستند هذه السياسة إلى تجربة بنغلاديش في الوقوع بين قوتين كبيرتين (الهند والصين)، والحاجة إلى تحقيق التوازن في علاقاتها مع الدول المجاورة في جنوب آسيا.
مِن جانب آخر، تعتمد اقتصادات جنوب آسيا على الاستهلاك، حيث يشكل الغذاء والنفط نصف الإنفاق الاستهلاكي، في حين أن روسيا وأوكرانيا في الوقت نفسه من كبار المصدرين للسلع الاستهلاكية المهمة، مثل القمح، والخضراوات، والحبوب، والغاز، والبترول (وخاصة روسيا في الحالة الأخيرة). على سبيل المثال، مع أن باكستان تتمتع بالاكتفاء الذاتي في إنتاج الأرز، فإنها تستورد قمحًا بمئات الملايين من الدولارات سنويًّا من روسيا وأوكرانيا. وعلى هذا فإن ارتفاع أسعار النفط، وأخطار انقطاع الإمدادات من جانب روسيا وأوكرانيا فيما يتصل بتصدير القمح إلى باكستان، دفعا أسعار القمح إلى الارتفاع كما يتضح من أسعار المواد الغذائية في مختلف أنحاء أراضي نهر السند. كما فقدت الروبية الباكستانية (24%) من قيمتها مقابل الدولار، في حين انكمشت احتياطيات النقد الأجنبي بأكثر من النصف (ما يزيد قليلًا على 9 مليارات دولار، أي ما يعادل نحو ستة أسابيع من الواردات).
إن أغلب اقتصادات جنوب آسيا -باستثناء الهند، وحتى وقت قريب بنغلاديش، التي تتمتع باحتياطيات أجنبية أكثر قوة- لم تكن في وضع يسمح لها بالنمو حتى قبل بدء الحرب الروسية الأوكرانية، والسبب الرئيس هو جائحة (كوفيد-19)، التي أثرت تأثيرًا كبيرًا في اقتصادات جنوب آسيا. على سبيل المثال، في البداية واجهت سريلانكا وجزر المالديف ونيبال وبوتان، التي اعتمدت على السياحة لكسب الاحتياطيات الأجنبية، صعوبات اقتصادية بدرجات متفاوتة، إذ تخلفت سريلانكا عن سداد “التزاماتها بالديون الخارجية” في أبريل (نيسان) 2022.
عاد النمو الاقتصادي في جزر المالديف الآن ليكتسب زخمًا، بدعم من التعافي القوي في السياحة. وفي حين انخفض عدد السياح من روسيا واوكرانيا منذ بداية الحرب، فإن الوافدين الأقوياء من دول أخرى في أوروبا عوّضوا هذا الانخفاض حتى الآن. والمخاوف بشأن تكرار نيبال مصير سريلانكا قد تكون سابقة لأوانها؛ لأن نيبال -على عكس سريلانكا- تشهد ارتفاعًا في السياحة والتحويلات المالية، كما تشهد نموًّا في الناتج المحلي الإجمالي. وليس لدى بوتان أي روابط تجارية كبرى مع أوكرانيا أو روسيا لتشعر بالتأثير الاقتصادي المباشر للحرب. وعلى النقيض من بنغلاديش، تنتج بوتان كمية كبيرة من الطاقة الكهرومائية لاستخدامها الخاص. ومع ذلك، لا تزال بوتان تستورد الوقود لأغراض النقل من الهند، ولكن الأخيرة لم تتأثر كثيرًا بارتفاع أسعار الوقود.
ومع أن بنغلاديش تمكنت من تحقيق أداء أفضل من بعض الاقتصادات الأخرى في جنوب آسيا خلال الجائحة، فإن تأثير الحرب الروسية الأوكرانية أصبح محسوسًا في جميع أنحاء البلاد، فقد أدت أسعار الغاز والوقود المرتفعة إلى انقطاع التيار الكهربائي عن المنازل والمدارس والمكاتب في جميع أنحاء البلاد، فضلًا عن تقلص الاحتياطيات الأجنبية. وفي رد فعل على ذلك، إلى جانب عوامل سياسية، اندلعت ثورة في البلاد أطاحت بحكم الشيخة حسينة (الحليفة للهند) ليصعد إلى الحكم محمد يونس، المقرب من الولايات المتحدة الأمريكية، والآن تُعاني البلاد اقتصاديًّا، وتحاول اتباع نهج مزدوج للحصول على مساعدات مالية من صندوق النقد الدولي لتوفير احتياجها من الطاقة، إلى جانب حرق مزيد من الفحم لإنتاج الطاقة محليًّا؛ مما قد يكون له عواقب وخيمة على البيئة. ويرجع ذلك إلى أن دَكا، التي تتمتع بصناعة نسيجية واسعة النطاق، لا تستطيع تحمل انقطاع التيار الكهربائي ساعات طويلة.
وعلى النقيض من أغلب بلدان جنوب آسيا، وجدت الهند فرصة في الحرب الروسية الأوكرانية، وخاصة شراء النفط الروسي بأسعار مخفضة، وقد أعلنت الحكومة الهندية أنها تشتري النفط الروسي للسيطرة على التضخم. في الوقت الحاضر، تستورد الهند نحو (13%) من نفطها من روسيا، وهي زيادة كبيرة عن (2%) قبل بدء الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير (شباط) 2022. وبالمقارنة مع باكستان فهي لا تمتلك المرافق اللازمة لمعالجة النفط الخام الروسي، وقد يؤدي شراء النفط الروسي إلى إزعاج الولايات المتحدة أيضًا؛ ومن ثم التأثير في قدرة إسلام آباد على تلقي المساعدات من صندوق النقد الدولي. وفي المقابل، تتمتع نيودلهي بحرية أكبر في التصرف فيما يتصل بالنفط الروسي.
عامةً، كان للحرب الروسية الأوكرانية تأثير سلبي في اقتصادات جنوب آسيا، التي تعتمد على الاستهلاك، وتستورد سلعًا مختلفة، مثل الحبوب والوقود؛ ومن ثم أدت الحرب إلى ارتفاع الأسعار والتضخم وسعر صرف العملات المحلية مقابل الدولار الأمريكي. لكن في مجال السياسة الخارجية في جنوب آسيا، كشفت الحرب الروسية الأوكرانية بعض القرارات المثيرة للاهتمام؛ فقد صوتت أربع دول من أصل ثماني دول أعضاء في رابطة جنوب آسيا للتعاون الإقليمي ضد روسيا في الأمم المتحدة، في حين امتنعت الدول الأربع المتبقية (بنغلاديش والهند وباكستان وسريلانكا) عن التصويت. وعلى هذا، فإن روسيا لم تجد مؤيدين أقوياء لها في جنوب آسيا؛ لذا قد يكون على موسكو النظر في سياستها تجاه البلدان الأصغر، مثل بوتان، ونيبال، وجزر المالديف في مجال السياسة الخارجية بعد نهاية هذه الحرب في ضوء المفاوضات الأمريكية- الروسية في المملكة العربية السعودية.
ومع اقتراب الولايات المتحدة وروسيا من حل محتمل في أعقاب تلك المفاوضات، تعمل القوى الإقليمية في جنوب آسيا على إعادة معايرة إستراتيجياتها؛ فالهند وباكستان وبنغلاديش سارت على حبل مشدود، إذ تتمتع الدول الثلاث جميعها بعلاقات جيدة مع كل من روسيا والولايات المتحدة منذ الحرب الباردة، وكان اختيار جانب في مرحلة الحرب قد يؤدي إلى إشعال فتيل سيناريو الحرب الباردة، إذ ستؤكد القوى العظمى تفوقها، وستضطر القوى الصغيرة أو القوى غير المنحازة إلى اتخاذ جانب. لكن أيضًا في مرحلة السلام، قد تكون سياسة عدم الانحياز مكلفة لجنوب آسيا، مع الأخذ في الحسبان المصالح المترابطة والمتكاملة، خاصة للهند وباكستان، إذ ستعيد واشنطن وموسكو -على السواء- النظر إليهما كحليفين موثوق بهما.
كما أن بلدان جنوب آسيا لا ترى السلام في أوكرانيا يُترجم تلقائيًّا إلى استقرار عالمي؛ فإذا نجحت الولايات المتحدة وروسيا في التوصل إلى تسوية يُنظَر إليها على أنها تصب في مصلحة موسكو، فقد يشجع هذا تحولات في ميزان القوى الإقليمي في مختلف أنحاء آسيا، وسوف تراقب الحكومات -لا سيما الهند- النتائج من كثب؛ خشية أن تؤدي سابقة التفاوض تحت الضغط إلى إضعاف إستراتيجية الردع الأمريكي (الهندي- الهادئ)، وربما ترى الصين، التي تراقب هذه العملية، مسارًا لحل نزاعاتها من خلال الدبلوماسية القسرية بدلًا من المواجهة العسكرية، خاصةً في ظل تحول تركيز الولايات المتحدة تحت قيادة ترمب، نحو الأولويات المحلية التي بدأت بتقليص مشاركتها في أوكرانيا، وهذا وضع مصداقية واشنطن في آسيا عمومًا في محل شك. وفي مثل هذا السيناريو، قد تميل دول جنوب آسيا، التي اعتمدت لفترة طويلة على الضمانات الأمنية الهندية- الأمريكية، بشكل أكبر نحو الصين. وفي الوقت نفسه، سوف تواجه البلدان الأصغر ضغوطًا متجددة لتعزيز نهجها المتصدع في كثير من الأحيان فيما يتصل بالأمن الإقليمي، والتكامل الاقتصادي.
وفي الأمد القريب، من المرجح أن تتفاعل الأسواق المالية في جنوب آسيا إيجابيًّا مع أي حل، مع ارتفاع مؤشرات الأسهم وسط توقعات باستقرار التجارة العالمية، كما أن استئناف الصادرات الصناعية من أوكرانيا، إلى جانب تهدئة المخاوف بشأن إمدادات الطاقة، من شأنه أن يوفر دفعة قوية للنمو الاقتصادي في الأسواق الرئيسة، ولكن إذا جاء السلام على حساب تراجع الولايات المتحدة عن القيادة الدولية، فقد تجد الأسواق الآسيوية -لا سيما الهند- نفسها قريبًا في صراع مع نوع مختلف من عدم اليقين، إذ تُترَك المنافسات الإقليمية لتؤدي دورها في ظل قيود خارجية أقل؛ لذا فإن التوصل إلى اتفاق سلام في أوكرانيا ليس شأنًا أوروبيًّا فحسب؛ بل إنه يشكل اختبارًا حاسمًا لتوازن القوى في آسيا، ومصداقية التحالفات الأمريكية، والحسابات الإستراتيجية للدول التي تتطلع إلى تحقيق طموحاتها الإقليمية، وربما كانت المفاوضات في الرياض بمنزلة الفصل الافتتاحي لحدث تاريخي، ولكن الانعكاسات لجنوب آسيا لم تظهر بعد.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.