أدب

الدون الهادئ.. من الأدب إلى السينما


  • 8 أغسطس 2024

شارك الموضوع
i مصدر الصورة: wikipedia

رغم شهرة رواية “الدون الهادئ” لشولوخوف بوصفها ملحمة روسية، وأحد أهم أعمال الأدب الروسي، فإن المدهش أن هوليود لم تُقدم على إنتاجها سينمائيًّا بأي نسخة كما عهدناها في أعمال أدبية روسية أخرى، مثل “الدكتور جيفاغو”، لباسترناك، و”الحرب والسلم” و”آنا كارينينا” لتولستوي، كما لم تنتج الرواية بأي شكل فني سينمائي أو درامي بأي لغة أخرى غير الروسية .

ولعل السياسة كان لها دور كبير هنا؛ فالغرب لم يعترف بأهميتها إلا متأخرًا لأسباب سياسية، ولم يتعامل صناع السينما العالمية بموضوعية مع الرواية، بل اتخذوا موقف التجاهل منها عقابًا لشولوخوف الذي كان مناصرًا للحزب الشيوعي، وناقدًا وخصيمًا للكتاب المنشقين عن الاتحاد السوفيتي وسياسته. مع ذلك أصبحت الرواية الأكثر قراءة على نطاق عريض في الاتحاد السوفيتي، واعتبرت مثالًا قويًّا للواقعية الاشتراكية، بل فازت بجائزة ستالين عام 1941، لكن بعض النقاد يميلون إلى وجهة نظر ظاهرها ثقافي وباطنها سياسي بأن ستالين سمح بنشرها لاعتبارات سياسية تتعلق بحاجته إلى القوزاق في حال اندلاع حرب؛ لأنهم جنود وفرسان متمرسون. وبنظرة جغرافية، ربما يكون قرب القوزاق من المياه الدافئة وأكثر حدود روسيا الملتهبة، جعله في حاجة إلى تأمين تلك الجبهة الجنوبية بضمان ولاء سكانها، فسمح بنشرها، وامتدادًا لذلك سمح بتصويرها كاملة عام 1957- 1958، وإن كان بعد وفاة ستالين عام 1953.

وربما يزيل ذلك الدهشة من موافقة السوفيت على إنتاج “الدون الهادئ” عام 1958 في الوقت الذى رفضوا فيه تصوير- وليس إنتاج- رواية باسترناك “الدكتور جيفاغو” للسبب نفسه، وهو مشكلة الشيوعيين ونقدهم. في كل الحالات، ومع جميع الاحتمالات، ظلمت هذه الرواية، ولم تنل حظها الثقافي، لكن المدهش أنها عوقبت خارج أرضها؛ مما يشير إلى الهيمنة الغربية على صناعة السينما.

اقتبست الرواية واستلهمت في أعمال سينمائية روسية بنسخ كثيرة، أولاها نسخة عام 1930، وهو من الأفلام الصامتة الطويلة؛ لافتقار السينما تقنيات دمج الصوت مع الصورة، وتناول الفيلم الجزء الأول فقط من الرواية، الذي صدر عام 1928. لم تظهر تلك النسخة الصور الفنية والأدبية بالرواية، ففضلًا عن أنها نسخة صامتة، كان أداء الممثلين فيها مفتعلًا وباهتًا، خاصة بطلي الفيلم إيما تسيسارسكايا Emma Tsesarskaya، وأندريه أبريكوسوف Andrei Abrikosov. أضافت الصورة غير الملونة، وكادرات التصوير غير الموفقة، عدم ظهور مواقع التصوير والتفاصيل الدقيقة للمكان والملابس. كذلك لم تسهم هذه النسخة السينمائية في انتشار الرواية كثيرًا، لكن يلاحظ أنها لم تتطرق إلى مشاهد جريئة بين البطلين كما في النسخ اللاحقة.

بين عامي 1957 و1958 أُنتج فيلم روائي طويل يحمل عنوان الرواية نفسه، ويتكون من 3 أجزاء، للمخرج سيرغي غيراسيموف، شاركت في تمثيله نجمة السينما السوفيتية ألينا بيستريتسكايا (1928- 2019)، والممثل بيوتر جليبوف (1915-2000).

في تلك الأثناء مر أكثر من ربع قرن على نسخة الفيلم الأولى الصامتة (1930)، فجاءت ثلاثية سيرغي غيراسيموف من أفضل ما أنتجت السينما السوفيتية، فهو بحق تحفة حقيقية تضاهي ملاحم سينمائية هوليودية تناولت انعكاسات الحرب الأهلية الأمريكية على المزارعين الجنوبيين، مثل “ذهب مع الريح” لكلارك جيبل وفيفيان لى، وفيلم “العملاق” لجيمس دين. ومع أن الفيلم ناطق بالروسية، لكن تصاحبه ترجمة إنجليزية بسيطة وغير عميقة، تمكن المشاهد من متابعة قصته وفهمها إن لم يسبق له قراءة الرواية، وهناك نسخة مترجمة للجزء الثاني. لكن ذلك لا يعني الاستغناء عن ترجمة ثلاثية الدون إلى لغات أخرى، وخاصة العربية، فإن ذلك سيحقق لها رواجًا أكثر، خاصة لدى غير الملمين باللغة الإنجليزية.

ولعل الجزأين الأول والأخير أكثر جاذبية لغالبية المشاهدين؛ لتركيز أحداث الدراما الاجتماعية، وقصة الحب الرومانسية لبطلي الرواية فيهما، خلافًا للجزء الثاني الأكثر دموية، حيث ركزت أحداث الرواية فيه على مشاهد الحروب في الجبهة، والصراع بين الأطراف الروسية.

كانت هناك محاولات لتقديم نسخ أخرى روسية من الرواية، لكن لم يكتب لها الشهرة، ولم تلقَ النجاح الجماهيري المنتظر، ومنها النسخة التي قدمت عام  2006.

وبمناسبة الاحتفال بالذكرى الـ110 لمولد كاتب الرواية شولوخوف، واستغلالًا للرواج وللنجاح اللذين حققتهما الرواية في السينما السوفيتية، دعمت وزارة الثقافة الروسية بإنتاج مسلسل تليفزيوني للمخرج سيرجي أورسولياك، يتناول رواية وعرض عام 2015.

الفروق بين نسخ السينما والدراما

كما تختلف نسخ المعالجة السينمائية للرواية بعضها عن بعض، تختلف أيضًا النسخ السينمائية عن المعالجة التليفزيونية؛ نتيجة لاختلاف الفنيات بين التصوير السينمائي والتليفزيوني.

فالنسخة السينمائية عام 1930 جاءت فقيرة فنيًّا؛ نظرًا إلى الفترة الزمنية التي أنتجت فيها، وعدم تطور صناعة الأفلام في هذا الزمن. كما أن ملامح الأبطال كانت بعيدة نسبيًّا عن الملامح التي رسمها المؤلف في الرواية، فضلًا عن الهيئة العامة بالزي والسمات الشخصية، فلم تنطبق على البطلين كما وصلت إلى قارئ الرواية، فعلى سبيل المثال، ظهرت قصة شعر القوزاق التي تتطلب خصلة على جانب الوجه على نحو كاركاتيري هزلي، خلافًا لنسخة الفيلم للأجزاء الثلاثة عامي 1957- 1958، التي كانت أفضل بكثير، بدءًا من اختيار الممثلين الأقرب شبهًا بوصفهم في الرواية، وزي القوقازيين وملامحهم التي تشبه الشرقيين نسبيًّا. ويضاف إلى ذلك الصورة الملونة للنسخة، فقد أضفت خلفية تصوير رائعة، وأظهرت جماليات وتفاصيل أكثر بكل شيء، وهنا يجب أن نشير ونشيد بالتطورات التى غيّرت شكل وصناعة السينما الروسية بين عامي 1930 و1957، فمع أن السينما الروسية ليست موجودة بالقوة نفسها على ساحة السينما العالمية، فإنها غنية بتراثها، وحاول القائمون عليها الإسهام في تغييرها إلى الأفضل، والانتباه لتغيير أذواق المشاهدين أيضًا.

وهناك خمسة اختلافات بين “الدون الهادئ” في السينما والدراما التليفزيونية، نجملها على النحو التالي:

  • أظهرت الدراما التليفزيونية جمال الوصف والطبيعة، دون الدخول في تفاصيل المكتوب بشكل أكثر جمالًا وأوضح؛ لأن كاميرا الدراما تختلف عن كاميرا السينما، وخاصة لكادرات النهر والسهوب وتلال الجليد، كما أن أغلب المشاهد خارجية- سينما ودراما- ومن ثم أظهرت جماليات الطبيعة.
  • أهملت بعض التفاصيل المهمة على حساب تفصيلات أقل أهمية، ولم تتضح أدوار بعض الشخصيات، خاصة في النصف الأول من الدراما التليفزيونية، فلم يكن لداريا- زوجة الابن الأكبر بيوتر- أي دور فيها، باستثناء الجزء الأخير، مع أن دورها فعال في الرواية، وخاصة في الجزء الأول.
  • لم يحسن اختيار الأدوار في المسلسل لاختلاف السمات والملامح الجسمانية لبعض الأبطال، فمثلا دونياشكا، الأخت الصغرى، لم تتناسب ملامحها مع عائلة ميليخوف، فلم تشر إلى أي دماء تركية أو قوزاقية بشعرها الأشقر الثلجي، وبشرتها الشديدة البياض، الأقرب إلى ملامح شمال أوروبا.
  • استلهمت الدراما التليفزيونية بعض المشاهد الحربية في السينما وأعادت صورتها كما هي بالفعل، دون تغيير أو إضافة تذكر للدراما.
  • برع القائمون على الأعمال السينمائية للرواية، في جميع النسخ، وفي التليفزيونية أيضًا، في اختيار الموسيقى التصويرية، وخاصة موسيقى يورى ليفيتين Yuri Levitin في الأجزاء الثلاثة للفيلم السينمائي في الخمسينيات، التي أضافت جمالًا من نوع آخر، وتناسبت تمامًا مع جميع مشاهد الأحداث، سواء الحربية، أو الرومانسية، أو غير ذلك.

أطياف في الأدب والسينما في مصر

 لا يوجد مجال لمقارنة رواية “الدون الهادئ” بأعمال مناظرة في الريف المصري؛ إذ لم تشهد النماذج المصرية حربًا عالمية، أو حربًا أهلية، أو جماعات عرقية متمايزة مثل القوزاق، ومع ذلك، سنسمح لأنفسنا في السطور التالية بعقد مقارنة مع أجواء الريف في كلتا البيئتين: الروسية والمصرية؛ لعلنا نكتشف بعضًا من أوجه التقارب والتقابل.

رواية “الحـرام” ليوسف إدريس تتناول شرائح منسية أو معدمة في مصر، وهم عمال التراحيل. أظهر إدريس تلك العلاقات الملأى بالتفاصيل الدقيقة للحياة اليومية للعمال والفلاحين، وسلط الضوء على العلاقات بينهم.  ورغم اختلاف مفهوم الفضيلة والعيب والحرام، والمقارنة بين موقف المجتمع من حمل عزيزة بطلة الحرام وحمل أكسينيا بطلة الدون، تتشابه الحياة الاجتماعية والثقافية في الروايتين في عمل المرأة إلى جانب زوجها بالحقول، وأغاني الفولكلور في أثناء العمل وفي سهرات المساء، فضلًا عن النميمة بين السيدات، والشائعات عن الحلال والحرام، والضغوط النفسية والاجتماعية.

ولدينا قصة “البوسطجي”، التي جاءت في المجموعة القصصية ليحيى حقي “دماء وطين”. في هذه القصة القصيرة يلقي يحيى حقي الضوء على حياة قرية مصرية تعيش حياة رتيبة ومملة، ويظهر خشونة أهلها وجفاءهم في التعامل مع الغريب، وأحيانًا التعالي، فيما يذكرنا ببعض مشاهد قصة “الدون الهادئ”.

وفي رواية “الأرض” لعبد الرحمن الشرقاوى، يظهر الفلاح متمسكًا بأرضه- كما في حالة القوزاقي- حتى النفس الأخير. وفي الروايتين رصد لحال مجموعة من الفلاحين الذين تعرضوا للظلم من السلطة، وقهرتهم للاستيلاء على أرضهم بالقوة.

التشابه في عرض صورة لحياة الفلاحين في القوزاق والفلاحين في القرى المصرية ليس فقط في الروايات المصرية؛ بل في أفلام السينما، خاصة التي عرضت الحياة في قرى الأنهار، وتمرد الشباب المزارعين على تلك القيود المعيشية، ومنها فيلم “ابن النيل”، الذي كتب قصته وأخرجه يوسف شاهين عام 1951. اختار شاهين عنوان “ابن النيل” في دلالة على ارتباط الفلاح بالنيل، أو بالنهر عامة. بطل الفيلم “حمدان” شاب نزق، متمرد، ذو عقلية منغلقة على تعاليم البيئة القروية، يهرب تاركًا زوجته وطفلة، ويعود نادمًا إلى منزله وأرضه بعد أن دفع ثمن أخطائه من عمره. سنجد أيضًا أن بطل “الدون” المتمرد جريجوري يعود إلى أرضه نادمًا بعد كل مرة يهرب فيها.

هذه المقارنة تحتاج إلى بحث أكثر عمقًا في المستقبل، ولعل في تلك الإشارة العابرة بداية لأن نفعل ذلك في المقبل من المقالات.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع