فيما يلي قراءة ومراجعة للرواية الروسية الشهيرة “الدون الهادئ”، للأديب الكبير ميخائيل شولوخوف.
تركز القصة الرئيسة للرواية على حياة القوزاق في حوض نهر الدون، جنوب روسيا، نهاية فترة حكم القياصرة الروس. يجمع الكاتب بين الصور الحياتية النمطية والتغيرات التي تنتابها نتيجة لأحداث كبرى، إلى جانب رسم لوحة واقعية وفنية عن البيئة وطبيعتها.
تسير الرواية في خط اجتماعي وعسكري، ولم تكن الشخصيات فقط أبطالًا للرواية؛ بل شكل المكان والزمان الضلعين الآخرين للمثلث المرتكزة عليه الحبكة الدرامية للرواية، حيث يعود بنا المؤلف سريعًا إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى بسنوات، متتبعًا عائلة ميليخوف القوزاقية بقرية تاتارسك Tatarsk الواقعة على امتداد نهر الدون، فقد عاد بروكوفي ميليخوف من الحرب الروسية العثمانية (حرب القرم) بأسيرة تركية اتخذها زوجة له، وكان هذا الزواج كفيلًا بإلحاق العار ببركوفي، فاعتبر أهالي القرية تلك الزوجة من الأعداء، بل اتهمت بممارسة السحر، خاصة أن أهل ميليخوف وجيرانه مؤمنون بالخرافات؛ مما أثار رعب الكثيرين، خاصة في تلك الفترة الزمنية، وحاول أهالي القرية قتلها، فقاومهم زوجها، لكنهم نجحوا في إحدى المرات في إصابتها، ففارقت الحياة تاركة لزوجها ابنهما بانتيلىفيتش “بانتلاي”، الذي أنجب ثلاثة أبناء؛ هم: بيوتر، وجريجوري، ودونياشكا؛ ولذلك يُطلق على أبناء بركوفي ميليخوف وزوجته الأسيرة وأحفادهما لقب “الأتراك”، وهم أبطال رواية شولوخوف، ومع ذلك فهم محل احترام وتقدير من أهالي قرية تاتارسك والقرى المجاورة، خاصة أن والدهم وجدهم من ملاك الأراضي من فرسان القوزاق الذين حققوا عددًا من البطولات في أثناء خدمتهم العسكرية، وكُرِّمَا بعدة نياشين.
محور الرواية هو الابن الثاني” جريجوري”، أو جريشكا كما يحب الروس أن ينطقوا الاسم، الذي يعيش مع والديه وشقيقه بيوتر وزوجته داريا وأخته دونياشكا.. جريشكا شاب يافع، متمرد أحيانًا على حياته الاجتماعية، يحب أكسينيا زوجة جارهم القاسي عليها “ستيبان”، ومع إصرار والده ورغبته في إبعاده عنها يتخذ إحدى الفتيات زوجة له، وهي “ناتاليا”. ورغم زواجه يستمر في حب أكسينيا، فيهربان معًا، ثم يلتحق بالخدمة العسكرية، وينتقل على الجبهة النمساوية المجرية في أثناء الحرب العالمية الأولى.
تموت ناتاليا زوجة جريجوري بعد عملية إجهاض فاشلة، تاركة لزوجها طفلين صغيرين، فيعهد بهما إلى حبيبته أكسينيا، التي فقدت طفلها منه قبل ذلك. يتنقل جريجوري بين أكثر من جبهة بين الجيشين الأبيض والأحمر لمرور روسيا بالثورة والحرب الأهلية، في تلك الأثناء أيصبح جريجوري بطلًا في نظر بعضهم، ومتهمًا في نظر آخرين، ويطالبون بالقبض عليه، فيضطر إلى الهروب مرة أخرى مع أكسينيا، لكنها تُقتَل برصاصة طائشة في أثناء تبادل إطلاق نار مع قوات الجيش الأحمر، فيدفنها جريجوري حزينًا.
يشبه جريجوري نهر الدون الذي يترنح منحرفًا بجميع الاتجاهات (شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا) حتى يصل إلى مصبه دافعًا حمولته في بحر آزوف ليزيح من مجراه تلك الحمولة التي أعاقت مسيرته أحيانًا، ودفعته إلى المسير أحيانًا أخرى. هكذا وصل جريجوري إلى نهاية رحلته بعودته إلى دياره وأرضه بعدما فقد بوصلته أكثر من مرة في دلالة على أنهما الملاذ الآمن بعد أن تهدلت الأكتاف من الهروب والحرب، وسقطت الشعارات، فلم تأت الشيوعية بمبادئها؛ بل بمساوئها.
كشف شولوخوف الصراع النفسي لبطل روايته، الحائر بين الواجب وما يحب؛ ففي أثناء رحلته الطويلة يتمزق جريجوري في حياته الاجتماعية بين امرأتين، هما أكسينيا وناتاليا، وفي الحياة العسكرية ينقسم بين جانبي الصراع، حيث شارك في الحرب الأهلية، فتحول من شاب وعاشق متمرد إلى جندي ورجل ناضج يجيد الحياة العسكرية، ولحسن الحظ- أو لسوئه- تحول إلى قائد ومسؤول، لكنه متخبط، فغيَّر ولاءه أربع مرات بين ما يريده القوزاق وما يريده الشيوعيون، فقد دعم الجيش الأحمر، ثم ناهض أفكاره وسياساته، ودعم الجيش الأبيض، ثم تبع الأحمر، فالأبيض.. ثم تحول إلى متمرد قومي قوزاقي، وفي النهاية زهد كل ذلك وتركه غير مبال.. فقد كثيرًا من أصدقائه وأقاربه في أثناء القتال، أو أُعدموا على يد كل من الحمر والبيض، فأصبح بطلًا وضحية في الوقت نفسه للثورة وللتغييرات التي تزامنت معها.. أصبح رجلًا بلا طريق، محكومًا عليه بالتاريخ.
يمكن القول إن جريشكا يمثل نمطًا من شباب القوزاق الذين سحق نظام الجندية الموحش الرتيب نفسيتهم، فكانوا يعملون دائمًا في المعسكرات حتى أفول الشمس بالتدريبات، وسياسة الخيل وإطعامها، أما ليلًا فيصطفون للصلاة. غيّرت الحرب ملامحهم، كان كل شاب فيهم يرعى بداخله بذور الأسى التي زرعتها الحرب، بل أصبح أكثرهم قساة متغيرين اجتماعيًّا، وظهر بطشهم بأهالي قراهم بعد الثورة حينما انقسموا بين جانبي الصراع، وواجه بعضهم بعضًا.
ولقد مر الشعب القوزاقي بشكل عام بمراحل تخبط لم يشهد لها مثيلًا عند قيام الثورة واندلاع الحرب الأهلية الروسية، والمؤلم أن تلك الاضطرابات السياسية عصفت بالحياة الاقتصادية والاجتماعية، وغيّرت كثيرًا من مفاهيم ذلك الشعب وقيمه، فقد تبدلت وتغيرت الأفكار قبل وبعد الثورة، فضلًا عن فقدهم كثيرًا من خيرة شبابهم وأبنائهم، ومُورست بحقهم سياسة القمع والاضطهاد لمقاومتهم الإجراءات التي اتخذتها السلطة السوفيتية الجديدة. وأصدرت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الروسي في بداية عام 1919 قرارًا يقضي بممارسة الإرهاب الجماعي بحق القوزاق، ولا سيما بحق زعمائهم الذين ترأسوا الحركة المناهضة للسلطة البلشفية؛ ومن ثم أُعدِمَ كثير منهم، وهاجر آخرون، تركوا ديارهم مرغمين.
وكعادة الروائيين الروس، برع شولوخوف في رسم صور وملامح لنحو 600 شخصية في الرواية، لأغلبهم أدوار مهمة ورئيسة؛ لذلك نجح في جذب القارئ ليرسم بدوره صورة ذهنية عن هذه الشخصيات، فتيسر عليه المقارنة بين ما كتب بوصفهم في الرواية وهيئتهم في الأعمال الفنية، فقد أتقن شولوخوف وصف الملامح للتفرقة بين الأصول الروسية والأوكرانية والقوزاقية، بل ميّز الأصول التركية بالأنف المعقوف. هذا العدد الضخم من الشخصيات شمل نوعيات مختلفة في المجتمع، ويدلُ على سعة خيال المؤلف، وقدرته الفائقة في السرد والوصف، وكذلك أشعل خيال القارئ في وصف الحياة اليومية لقرى الدون، وملابس الفلاحات المطرزة، وغير ذلك.
ورغم المعاناة والحروب، وصراعات القوزاق والروس بصفة عامة، التي امتلأت بها الرواية، فإنه نقل إلى القارئ صورة بديعة عن سهوب روسيا، وصفحة الدون الهادئة، وجمال الطبيعية وألوانها في بيئة القوزاق، حتى وصفه للأرض الموحلة والثلوج التي يأكلها الذوبان جاء بلغة بديعة، وأسلوب أدبي متفرد.
وفي صفحات الملحمة الطويلة تجد شولوخوف يجمع بين النقيضين؛ فحينما ينقل القارئ إلى دراما الحياة الاجتماعية وساحة المعركة، يمزجها بوصف رائع لطبيعة المكان وتفاصيله، ومع ذلك فإنه أحيانًا يسهب في تفصيلات غير مهمة تكاد تصيب القارئ بالملل، ولعل ذلك ساعد الأعمال الفنية على رسم مسرح طبيعي لأحداث الرواية وشخصياتها بدقة واضحة.
ولقد قدم شولوخوف صورة مصغرة في “الدون الهادئ” لما حدث في الأراضي الروسية كلها عقب قيام الثورة الروسية، وانتشار الحرب الأهلية، والفوضى السياسية، فالتغيرات الاجتماعية والثقافية العنيفة التي حدثت بين القوزاق أنفسهم، وبينهم وبين القوميات الأخرى، تعكس الصورة الكبرى للصراع العنيف بين القوى العسكرية المتحاربة في قوات الجيشين الأحمر والأبيض.
ومثلما لم يهمل شولوخوف التراث الثقافي للقوزاق بالزي العسكري وقصة الشعر، أشار إلى الفولكلور أيضًا في كثير من أحداث الرواية، واستدرج القارئ للتعاطف مع القوزاق، والفخر بهم أيضًا؛ فهم خيالة مهرة، رغم عرضه للنضال البطولي والمأساوي لهم عرضًا موضوعيًّا، فأغلب الأغاني الشعبية في جميع المناسبات (نزول المطر- الحصاد- الصيد- الغزل) تشير إلى معاناة القوزاق من ويلات الحروب، وحسرة الأم الثكلى، والأب المكلوم، والعروس المترملة.
ولذلك ربما يدهش القارئ لكلمات الأغنية التالية التي جاءت على لسان داريا، زوجة بيوتر، شقيق جريجوري، وهي تهدهد طفلها كي ينام:
كنت أراقب الخيل
رأيت حصانًا ذا سرج
مقصبًا كله بالذهب
خارج البوابة
جرفها الفيضان بعيدًا
راح إلى القصب
قطعته الصبايا
الصبايا تزوجن
ذهبوا إلى الحرب
في مشهد آخر يردد الجنود على الجبهة أغاني الحرب من الفولكلور الشعبي القوزاقي فيقولون:
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.