ما زال صانع القرار في طهران يعيش صدمة خسارته في الساحة السورية، إذ لم تأتِ حساباته السياسية والعسكرية كما توقع، بعد سنوات من الاستثمار الإستراتيجي في دمشق، سواء من خلال الدعم العسكري، أو التمويل الاقتصادي، ووجد النظام الإيراني نفسه أمام واقع متغير لم يكن في حساباته.
التحولات الميدانية والتوازنات الجديدة في المنطقة دفعت طهران إلى إعادة تقييم موقفها، خاصة مع تراجع نفوذها أمام الفاعلين الدوليين والإقليميين، فمع دخول قوى جديدة إلى المعادلة السورية، وتزايد الضغوط السياسية والعقوبات الاقتصادية، أصبحت قدرة إيران على التأثير محدودة مقارنة بالماضي.
اليوم، تواجه طهران تحديًا يتمثل في كيفية الحفاظ على ما تبقى لها من نفوذ في سوريا، وسط تضاؤل الخيارات أمامها، سواء عبر الحضور العسكري، أو التفاهمات السياسية، لكن الواضح أن ما كان يُنظر إليه في السابق على أنه إنجاز إستراتيجي، أصبح عبئًا معقدًا، يزيد الضغوط الداخلية والخارجية على النظام الإيراني.
ويأتي الإعلان العراقي تشكيل ما يسمى “مجلس العشائر الموحد” بالتزامن مع ذكرى انطلاق الثورة السورية في 18 مارس (آذار) الجاري، في رسالة مزدوجة للرد على زيارة وزير الخارجية السوري، أسعد الشيباني، إلى بغداد، حيث أثارت زيارة وزير الخارجية السوري الشيباني إلى بغداد في 14 مارس (آذار) 2025، ردود فعل متباينة في العراق، خاصة بين الأوساط السياسية والفصائل المسلحة الموالية لإيران. هذه الزيارة، التي جاءت في ظل ضغوط دولية على الحكومة العراقية، عكست تعقيدات المشهد السياسي العراقي، وتباين المواقف تجاه الإدارة السورية الجديدة.
الفصائل المسلحة الموالية لإيران، وبعض القوى السياسية العراقية، أبدت رفضها لزيارة الشيباني. اعتبرت هذه الجهات أن الزيارة جاءت بضغط خارجي، خاصة من الولايات المتحدة وتركيا، ولم تراعِ مشاعر العراقيين، خاصةً عوائل الشهداء الذين فقدوا أبناءهم بسبب التنظيمات الإرهابية التي دعمتها الإدارة السورية الجديدة. النائب المستقل محمد عنوز أشار إلى أن الزيارة “مرفوضة شعبيًّا قبل أن تكون مرفوضة سياسيًّا”، مؤكدًا ضرورة مراعاة معاناة الشعب العراقي وعوائل الشهداء. من جهته، انتقد النائب مختار الموسوي اللقاءات مع الشيباني، معتبرًا أن من التقوا به لا يمثلون الشعب العراقي؛ بل يمثلون الفساد فقط، مشيرًا إلى دور الإدارة السورية في دعم الإرهاب والتفجيرات التي دمرت كثيرًا من المدن العراقية.
في المقابل، عبّر عدد من المسؤولين العراقيين عن تفاؤلهم بنتائج الزيارة، معتبرين أنها أزالت مرحلة “التعامل الحذر”، ومهدت لعلاقات مشتركة. اللقاءات التي عقدها الشيباني مع المسؤولين العراقيين ركزت على تعزيز العلاقات المشتركة بما يخدم المصلحة المشتركة. رئيس الوزراء العراقي، محمد شياع السوداني، أكد خلال لقائه الشيباني موقف العراق الثابت في احترام خيارات الشعب السوري، والحرص على أمن سوريا واستقرارها، معربًا عن استعداد العراق للمساهمة في دعم سوريا وإعادة إعمارها.
وتأتي الرواية الرسمية -وفقًا لما تحدث به المجلس خلال مؤتمر صحفي- أن “هذه الظروف الحساسة التي تمر بها منطقة الشرق الأوسط، وفي ظل مشروع التطبيع والمساومة، وما يجري في فلسطين ولبنان، وما حصل مؤخرًا للعلويين في سوريا، تستوجب موقفًا حقيقيًّا من الحكومة المركزية”.
وتابع بيان المجلس: “قوى الظلام المتمثلة مكنت التكفيريين والتنظيمات الإرهابية في سوريا، وارتكبت جماعة الشرع أبشع الجرائم عبر قتل الآلاف من المواطنين العزل، وبصمت دولي، ودعم إقليمي”.
ودعا المجلس “الجهات الدينية والسياسية والسلطات الثلاث، للاستعداد لكل الاحتمالات، والحذر من التعامل مع حكومة رئيس الجمهورية العربية السورية، وفتح باب التطوع ودعم الحشد الشعبي، وإقرار قانون الخدمة التقاعد، والتدقيق الأمني للسوريين في العراق، وعدم دعوة الحكومة السورية، والمحاسبة القانونية بحق مثيري الفتنة الطائفية، أمثال خميس الخنجر”.
الإعلان في هذا التوقيت قد يكون مرتبطًا بتطورات إقليمية، من بينها التصعيد الأمريكي ضد الحوثيين، والتوتر المستمر بين الفصائل الموالية لإيران والقوات الأمريكية في العراق وسوريا. قد يكون الهدف إعادة هيكلة القوى العشائرية لمواجهة نفوذ الجماعات الأخرى في العراق، أو حتى تحضير بيئة لمواجهة جديدة في سوريا.
وعلى الضفة الأخرى، من غير المستبعد أن يكون هناك تنسيق غير مباشر مع ميليشيا أنصار الله الحوثية، إذ إن الضغط على الحوثيين قد يُفهم على أنه إشارة لإيران بأن نفوذها في المنطقة يتعرض للاستهداف؛ مما يدفع حلفاءها في العراق إلى التحرك استباقيًّا، أو تعزيز نفوذهم تحسبًا لأي تطورات قد تطيح ببقايا أذرعها العاملة في المنطقة العربية.
وإيران تدرك اليوم أن وضعها في سوريا لم يعد كما كان سابقًا، لكنها قد تسعى إلى خلق توازن جديد، أو فرض معادلة تضمن استمرار تأثيرها في مناطق معينة من خلال دعم تشكيلات عسكرية غير رسمية، أو تحريك العشائر المتحالفة معها في العراق ولبنان، وبقايا فلول الأسد من تشكيلات الفرقة الرابعة التي يقودها ماهر الأسد.
في السياق نفسه بشأن مصالح إيران من إعلان التشكيل من خلال أدواتها العراقية في ظل التهديدات الأمريكية باستهداف أذرعها، قد يكون إعلان “مجلس العشائر” محاولة لإعادة ترتيب الأوراق داخليًّا، لكن ذلك قد يجر العراق إلى مواجهات لا مصلحة له فيها، خاصة أن الأولويات الشعبية تميل إلى التهدئة، وليس التصعيد.
وبناء على ظروف التشكيل الاستثنائية فإن معظم العراقيين يدركون أن استنزاف العراق في معارك خارج حدوده ليس في مصلحة البلاد، لا اقتصاديًّا ولا سياسيًّا، خاصة مع التعافي الجزئي للعلاقات العراقية السورية. من هنا، قد تواجه هذه الدعوات رفضًا شعبيًّا، أو فتورًا في التجاوب معها.
ونستنتج من ذلك أن استثمار اسم مجلس العشائر الموحدة يحمل بصمات إيرانية في تفهمها للهزائم المتعاقبة في سوريا ولبنان واليمن، ومن الواضح أن إيران تحاول تجنب استخدام أسماء طائفية صريحة، ربما استجابة للضغوط الداخلية والخارجية، ولإضفاء طابع وطني جامع، لا سيما أن المزاج العراقي العام أصبح أكثر حساسية تجاه الخطابات الطائفية.
وفي ظل ظروف التشكيل المريبة انقسمت النخبة العراقية، فبينما هناك أطراف ترفض التبعية لإيران، وتطالب بالسيادة الكاملة، هناك قوى لا تزال ترى في إيران حليفًا إستراتيجيًّا، وقدرة النخبة على التصدي ستعتمد على قوة الموقف الشعبي، والدعم الإقليمي والدولي لأي توجه استقلالي داخل العراق.
وفي ضوء تلك المتغيرات، فإن أي تشكيل يحمل طابعًا عسكريًّا خارج إطار الدولة سيكون عنصر اضطراب في المشهد الإقليمي، خاصة إذا كان يهدف إلى التصعيد ضد الحكومة السورية، ومع وجود قوى كبرى تراقب الوضع، فإن أي تحرك غير محسوب قد يؤدي إلى رد فعل دولي قوي لا يقتصر على الرد على التموضع الولائي في العراق؛ بل سيمتد إلى استهداف التشكيلات التي تعمل خارج نطاق الجيش العراقي، وسيحرج القائد العام للجيش والقوات المسلحة العراقية، محمد شياع السوداني، وفي حال تورط التشكيل في مواجهات خارج الحدود ربما قد تواجهه قوات وزارة الدفاع السورية، وسيُقضَى عليه أسوة بما حصل على الساحة اللبنانية في اشتباك 17 مارس (آذار) الجاري.
قد تنظر الولايات المتحدة -من جانبها- إلى هذه التحركات بعين القلق، خاصة إذا كانت تهدف إلى تعزيز النفوذ الإيراني، وتقويض الاستقرار في المنطقة. في السابق، سعت الولايات المتحدة إلى تسليح عشائر الموصل لمواجهة تنظيم “داعش”، لكن هذه الجهود قوبلت برفض من بعض الفصائل العراقية.
بشكل عام، تعتمد استجابة الولايات المتحدة لهذه التحركات على تقييمها للأوضاع الميدانية، وتأثيرها في مصالحها بالمنطقة. قد تشمل الردود المحتملة تعزيز الدعم للقوات المحلية المعارضة للنفوذ الإيراني، أو زيادة التنسيق مع الحلفاء الإقليميين للحد من تأثير هذه التشكيلات المدعومة من إيران.
أعتبر الصحفي والإعلامي وليد شهاب، تشكيل عدة تشكيلات ولائية عراقية جديدة، مثل “لواء أبي الفضل العباس”، و”لواء الإمام الحسين”، قد يكون له انعكاسات كبيرة على المشهد في سوريا، خاصة في ظل التطورات الأخيرة، مثل محاولة انقلاب الساحل، والاشتباكات بين حزب الله وقوات وزارة الدفاع السورية في منطقة القصير الحدودية مع لبنان. هذه التطورات تشير إلى احتمال تصاعد توترات ولائية جديدة قد تستهدف الأراضي السورية من الحدود العراقية أو اللبنانية.
وهذه التشكيلات تأتي في سياق تصاعد التوترات الإقليمية، وزيادة النفوذ الإيراني في المنطقة، وتهدف إلى تعزيز الوجود الشيعي العسكري والسياسي في العراق وسوريا. وقد تكون جزءًا من إستراتيجية إيرانية أوسع لتعزيز نفوذها، خاصة في ظل التحديات التي تواجهها المنطقة في سوريا ولبنان.
تشكيلات ولائية جديدة في العراق قد تعزز قدرات الفصائل الموالية لإيران في سوريا، خاصة في المناطق الحدودية بين العراق وسوريا. هذه التشكيلات يمكن أن تقدم دعمًا لوجستيًّا وعسكريًّا للفصائل الشيعية العاملة في سوريا، مثل “فاطميون” و”زينبيون”؛ مما قد يؤدي إلى تصعيد عسكري في المناطق الشرقية والجنوبية من سوريا، وقد يؤدي ذلك إلى تغيير في التوازنات الداخلية بين الفصائل الموالية لإيران والنظام السوري. على سبيل المثال، يمكن أن يزيد نفوذ حزب الله والفصائل الشيعية الأخرى على حساب قوات النظام السوري، خاصة في المناطق الحدودية مع لبنان.
محاولة الانقلاب في منطقة الساحل السوري، التي أُحبطت، تشير إلى وجود توترات داخلية بين الفصائل الموالية لإيران والنظام السوري. هذه التوترات قد تتفاقم مع وصول دعم إضافي من التشكيلات الولائية العراقية الجديدة.
قد يؤدي التصعيد إلى زيادة التوترات بين إيران ودول الخليج، خاصة إذا استُخدمت التشكيلات الولائية لاستهداف مواقع في دول مجاورة، وقد يؤدي التصعيد إلى زيادة الضغوط الدولية على إيران، خاصة إذا رُبطت التشكيلات الولائية بهجمات على مواقع أمريكية أو دولية، وسوف يكون لها انعكاسات كبيرة على المشهد في سوريا، في ظل التطورات الأخيرة، مثل محاولة انقلاب الساحل، والاشتباكات في منطقة القصير. هذه التطورات تشير إلى احتمال تصاعد توترات ولائية جديدة قد تستهدف الأراضي السورية من الحدود العراقية أو اللبنانية. في النهاية، فإن مستقبل المشهد في سوريا سيعتمد على التوازنات الإقليمية والدولية، وعلى قدرة النظام السوري على إدارة هذه التوترات.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.