فى عام 1957، نُشرت في إيطاليا رواية للأديب الروسي بوريس باسترناك، تحمل اسم “الدكتور جيفاغو” Doctor Zhivago، تدور أحداثها في إطار ملحمي درامي رومانسي خلال الأعوام السابقة على الحرب العالمية الأولى، والحرب الأهلية الروسية (1917- 1922).
لم تنشر الرواية في روسيا حينها بسبب الانتقاد الشديد الذي حملته الرواية للنظام الشيوعي، ومع ذلك فهى تحمل بين طياتها واحدة من أجمل قصص الحب وأروعها، حيث يسافر القراء إلى عالم الأبطال والشخصيات، تتعلق آمالهم بعودة الحبيب إلى محبوبته، يتمنون انتصار الحب والخير، ولعل ذلك ما يجعل هناك خلطًا عند القارئ الذى يتخيل أن الرواية ذات بعد سياسي فقط ليُفاجأ أنها تنحى المنحى الإنساني العميق.
تحولت الرواية إلى عدد من الأفلام السينمائية والدراما التليفزيونية لاحقًا، وكان أشهرها الفيلم الذي أنتج عام 1965 للمخرج ديفيد لين، وبطولة عمر الشريف، وجولي كريستي.
ترتكز الرواية على مثلث يضم عشرات الأشخاص والأحداث والأماكن، وغالبًا- شأن جميع الروايات المكتوبة- تتصدر الشخصيات دور البطولة وصراعها عبر الزمن، ثم الأحداث، تليها الأماكن، ليكتمل تشكيل نسيج الزمكان.
استخدم باسترناك كثيرًا من الشخصيات المتفاعلة والمتشابكة مع بث القضايا الفلسفية والاجتماعية بين السطور.
يمثل الدكتور يوري جيفاغو الشخصية المحورية في الرواية، ذلك الرجل الذي يعمل في الأصل طبيبًا، وهو إلى جانب ذلك ينظم الشعر، ويكتب النثر، وربما بالعودة إلى الوراء نعرف لماذا الطب والشعر، فقد عاش جيفاغو طفولة قاسية، افتقد فيها الأمان والاستقرار، ولعله كان يميل إلى الفنون أو التاريخ، ولكنه اختار لنفسه مهنة رأى أنها مضمونة، فالفن لم يعد طريقًا في الحياة، فهو ابن الظروف القاسية التي عاشها.
تبدأ الرواية بجنازة، معلنة انتهاء رحلة حياة قاسية للسيدة ماريا نيكولايفنا، تاركة وراءها طفلها الوحيد يوري جيفاغو، ويتعهد خاله نيكولاي نيكولايفيتش بالرعاية؛ لأن والده هجر البيت مبددًا ثروة العائلة على نزواته في سيبيريا وبعض الدول الأجنبية، وكان خاله رجل دين، وكاتبًا، اصطحب الصبي يوري معه في كثير من تنقلاته.
بعد فترة انتحر والد يوري، وانتقل خاله إلى مكان آخر، فتركه في موسكو مع عائلة جروميكو المكونة من السيد ألكسندر ألكسندروفيتش، وزوجته السيدة آنا إيفانوفنا، وابنتهما تونيا، ليستقر يوري ويكبر في كنف العائلة.
لم ينجح رب العائلة في توجيه يوري إلى الفنون، أو العزف على القيثارة مثل والدته، لكنه وجّهه ونمّى فيه موهبة الشعر، وحب العلوم أيضًا، فقد كان جروميكو كيميائيًّا، ويعمل بالزراعة، فاختار يوري دراسة الطب مهنةً، ونظم الشعر هوايةً، وكبر يوري وتونيا في المنزل نفسه، وبمرور السنوات تدهورت صحة السيدة آنا، فاتفقت مع يوري على تزويجه ابنتها.
على خط موازٍ تظهر على ساحة الأحداث الشابة الصغيرة لارا، التي تعيش مع والدتها أماليا وشقيقها روديا، فقد أحضرهم محامي والدها المتوفى وصديق والدتها لاحقًا المحامي والسياسي فيكتور كومارفوسكي للإقامة في موسكو.
حاول كوماروفسكي استمالة لارا، واستجابت له، مع أنها تعيش قصة حب مع شاب ثوري منشغل بالسياسة اسمه باشا أنتيبوفا. عند علمت والدتها بعلاقة ابنتها مع صديقها حاولت الانتحار، فقررت لارا قتل كوماروفسكي باستخدام مسدس شقيقها روديا، فتذهب لارا إلى حفلة يحضرها كوماروفسكي، وأيضًا يوري وتونيا، لدى عائلة سفنتتسكي؛ بغرض قتله، فتصيب النائب العام كورنكوف بجرح بسيط بدلًا منه.
حاكم النائب سابقًا مجموعة من عمال السكك الحديدية، كان من بينهم كيبريان تيفرزين والد باشا بالتبني، ومع ذلك يستخدم كوماروفسكي نفوذه ليخلصها من تهمة محاولة قتل النائب العام خوفًا من فضح علاقته بها، وخوفًا عليها أيضًا، فتتحول لارا من ضحية، وتصبح تحت حمايته.
رغم معرفة باشا بتلك الظروف، فإنه يتزوج لارا، فلم يعد بالإمكان وجودها في بيت والدتها بعد ذلك. تغادر لارا وباشا موسكو، ويقيمان في بلدة يورياتين، لكن بعد فترة يفتر زوجها من حياته المملة، ويتقدم للتجنيد ويتركها وطفلتها كاتنكا، ويبقى على جبهة القتال في سيبيريا، وتنقطع أخباره بعد فترة.
تبدأ لارا بالخدمة في المستشفى العسكري في يورياتين ممرضة، ثم تذهب إلى موسكو للبحث عن زوجها، وتترك ابنتها عند معارف لها، وتتطوع للعمل فى أماكن العمليات الحربية الجديدة في ميزولابورك على الحدود الهنغارية، وهي آخر مكان وصلت منه رسالة من زوجها.
استُدعي جيفاغو للعمل طبيبًا بالخدمة العسكرية تاركًا زوجته وابنه المولود حديثًا، ملبيًا نداء الواجب، إذ لديه إيمان بوجوب أداء الواجب الاجتماعي كمساعدة الآخرين. بعد فترة يصاب جيفاغو على جبهة القتال، وينقل إلى مكان آخر لتلقي العلاج.
يجمع القدر بين جيفاغو ولارا مرة أخرى، حيث يعالج من إصابته، وتعمل هي بالتمريض في جبهة القتال ببلدة ميليوزئيف ذات الأرض الخصبة السوداء، والمنازل الحجرية، فقد لحقت بمواقع المصابين لتبحث عن زوجها الذي تركها والتحق بالحرب، وتعرف من أحد الجنود المصابين هناك أن زوجها أسير.
تعود لارا إلى موسكو لرؤية ابنتها، ويلحقها جيفاغو عائدًا إلى أسرته أيضًا في وقت احتدم فيه القتال بالمدينة بين ضباط الاحتياط الذين يدعمون الحكومة المؤقتة وجنود الحامية الداعمين للبلاشفة.
في تلك الظروف وجد جيفاغو منزله الفخم قد تحول إلى مأوى لكثير من الأسر، تاركين له ولأسرته مساحة صغيرة، فيعود إلى العمل في مستشفاه القديم “الصليب المقدس”، لكنه لم ينضم إلى أي جماعة حزبية أو سياسية؛ لذا كان المعارف والأصدقاء حذرين منه.
حينما حل الشتاء كان أشد قسوة من أي شتاء مر عليهم سابقًا.. ظلام وجوع وبرد.. عانت فيه الأسرة الحاجة إلى المواد الغذائية والتدفئة، فقد قضت الحرب الأهلية على كل شيء.
وكان لجيفاغو أخ غير شقيق التقى به لأول مرة في تلك الظروف، فأخبره أن قصائده التى كتبها يراها البعض معادية للشيوعية؛ وأن عليه مغادرة موسكو، فلم يكن هناك مفر من انتقال أسرة جيفاغو تجنبًا للظروف المعيشية، وربما الملاحقة القضائية.
بنهاية الشتاء تأهبت الأسرة للمغادرة إلى فاريكينو، وهي قرية على نهر رينفا في جبال الأورال قرب يورياتين، ومن ميراث السيدة آنا من والدها الثري.
تحرك القطار بالعائلة من محطة ياروسلافل في موسكو نحو الشرق للأورال في رحلة طويلة وقاسية لعدة أيام، يمر بآلاف الكيلومترات في سهول وروابٍ عريضة تكسوها الثلوج، وأشجار أغصانها مجلدة. توقف القطار أكثر من مرة لتراكم الثلوج على السكك الحديدة، واشتركت الأسرة مع الركاب فى إزاحة الثلوج المتراكمة، وخاصة فى بلدة أوستنيمدا.
كانت الثلوج تخفي تفاصيل المكان، ولا يعرف منه إلا أشجار الصنوبر والبلوط المجلدة أغصانها، وحينما بدأ الربيع، ومع ذوبان الثلوج، تدفق الماء بأسفله كأنه سيول تتدفق وسط الغابات، فيشكل أحيانًا شلالات مياه.
وبعد الوصول إلى فاريكينو عاد يوري إلى الكتابة في جو هادئ تكسوه زهور النرجس حول المنزل، وكانت الحقول والمروج الخضراء دافعًا قويًّا لمواصلة جيفاغو العمل بالزراعة والكتابة، وحملت تونيا في طفل آخر في ذلك الوقت.
ذهب جيفاغو إلى مكتبة مدينة يورياتين للبحث عن بعض الكتب والمعلومات التي يحتاج إليها في كتاباته، فالتقى لارا، وبدأت علاقتهما تتجدد مرة أخرى، وظل يتردد إليها رغم شعوره بالذنب تجاه تونيا؛ فهو يحبها، ولا يستطيع الاستغناء عنها.
وذات مساء، حينما كان عائدًا من عند لارا، وانتوى قطع علاقته بها، استوقفه فرسان قوات القوزاك واختطفوه للعمل في معسكرهم بغابات سيبيريا بالأورال، حيث توفى طبيبهم وهم فى حاجة إلى المساعدة الطبية… مكث هناك نحو عامين يعمل داخل طبيعة قاسية إلى أقصى حد، وخاصة في الشتاء؛ الذي كان أسوأ ما مر به أوقات المعارك بين المتقاتلين، خاصة على الحدود الغربية للغابة، وقد اشترك أكثر من مرة في القتال.
انتهت الحرب الأهلية، وهرب جيفاغو من أسره في الأدغال، وعاد سيرًا على الأقدام، وكانت خريطة هروبه من المعسكر تتبعه لخطوط السكك الحديدية.
وصل جيفاغو إلى يورياتين، فاتجه إلى منزل لارا وهو في أشد ضعفه ومرضه من الرحلة الشاقة، فأخبرته لارا أنها ذهبت إلى عائلته في فاريكينو، وحضرت ولادة طفلته ماشا، وذلك قبل أن تنتقل عائلته عائدة إلى موسكو، لكنه لم يستطع العودة إلى موسكو خوفًا من اعتقاله نتيجة لهروبه، فبقي في يورياتين، وهناك عاد إلى ممارسة عمله طبيبًا في مستشفى يورياتين.
ثم انتقلوا معًا- جيفاغو ولارا وابنتها كاتنكا- إلى فاريكينو، فزارهم كوماروفسكي الذي أصبح ذا نفوذ، وأقنع لارا بإعدام زوجها باشا، وأنها مطلوبة للعدالة، وعليها الهرب إلى منغوليا البيضاء، على أن يلحق بها يوري بعد ذلك.
عاد جيفاغو إلى موسكو، لكن عائلته كانت قد غادرت روسيا إلى فرنسا، فأصبح أكثر ضعفًا، لكنه عكف على الكتابة، وتعرف إلى مارينا التى تسكن مع أسرتها في البناية نفسها.. وحينما فقد الأمل فى عودة أسرته إلى روسيا، كوّن أسرة جديدة مع مارينا التي ظلت تساعده بترتيب أعماله الكتابية، وأنجب منها بنتين؛ كابكا وكلاشكا، وتواصل معه أخوه غير الشقيق، وبنفوذه وفر له عملًا في أحد المستشفيات بموسكو.
وفى أول يوم عمل له ركب قطار الترام، وأصيب بنوبة قلبية توفي على أثرها. كانت لارا موجودة في الجنازة، وكذلك شقيقه الذي علم منها بوجود طفلة لها من جيفاغو تركتها منذ سنوات في أحد الملاجئ بمنغوليا، ولا تستطيع الوصول إليها، وطلبت مساعدته في البحث عنها، كما طلب منها مساعدته في جمع أعمال شقيقه ونشرها، لكن بعد ذلك اختفت لارا في أحد معسكرات العمل.
في أثناء الحرب العالمية الثانية عمل اثنان من أصدقاء جيفاغو في المعسكرات، وكانت تقوم بمهمة غسل ملابسهما فتاة شابة تشبه جيفاغو، وتدعى تانيا كوماروفا، وعرفا منها أنها لا تعرف والداها؛ فقد تُركت في أحد الملاجئ بمنغوليا البيضاء منذ سنوات.. أخبر الصديقان الجنرال شقيق جيفاغو الذي بحث عنها حتى يتأكد أنها بالفعل ابنة جيفاغو ولورا.
رغم قسوة الفترة التاريخية التي تدور فيها أحداث الرواية، فإن باسترناك أظهر قسوة الطبيعية وجمالها أيضًا! ولعل التفاصيل تظهر الجمال الذي تاه وسط زحام الأحداث والحركة والانتقال والأشخاص، فأحيانًا لا يتفاعل الكثيرون مع المكان وسط الكم الكبير من زحام الأحداث والشخصيات، لكن وصف بسترناك الرائع لجغرافية الأماكن، وخاصة سيبيريا، يرغمك على متابعة الوصف، وتخيل الأماكن.
لا يصف باسترناك الطبيعة والأماكن فقط؛ بل يوظفهما لملاحظة التأثير في طبيعة الشخصيات، ويرسم ملامحها، ففي مشهد وداع والدة الطفل يوري يزامن وقت الجنازة مع يوم خريفي شديد الرياح.. رياح الخريف الباردة تعري الطبيعة، وتتركها جرداء وكأن الموت اتفق مع الرياح، فقد عرت رياح الخريف الشديدة الطبيعة وجردتها من كل شيء، كما عرّى الموت يوري ذا النظرة البائسة، وجرده من اطمئنانه وآماله، وجرفهما ليستقرا مع تابوت أمه.
كما وصف رحلته وهو طفل لمنطقة دوبليانكا بقازان مع خاله في موسم الصيف، حيث جاءت رحلة الصيف ليوري وكأنها تعوضه عن ذلك الخريف القاسي الذي أخذ منه والدته وتركه عاريًا، فكان الصيف بأزهاره يحيى الأمل فيه من جديد، مع أن باسترناك جمع بين جمال الطبيعة وقسوتها حينما وصف حقول القمح الذهبية، فرغم اتساعها، فإنها تظهر كخط رفيع حول غابات الشرق الروسي، مما يعكس قسوة تلك الغابات والطبيعية شتاء، لكن أصوات طائري القنبرة وشحارير البقر كان يسمع فيها صوت أمه، كما أن منظر الغابات، والمدن، والتلال العشبية الندية، وزنابق النهر، والحقول الواسعة، وانعكاس بريق الشمس على صفحة النهر اللامعة، كان يطفى الطمأنينة على قلبه.
يوظف باسترناك الجغرافيا ليس فقط لمعرفة طبيعة الأماكن؛ بل يأتى بها على لسان جيفاغو ليؤكد موهبته السردية والشعرية، حيث يأتى وصف سهل كراباتيا لجيفاغو حينما كانت فرقة جيشه تتمركز هناك بالغرب؛ فقد كان يجيد وصف الطبيعة، ولعل ذلك ساعده على نظم قصائده، وسرد كتاباته، فيصف بطن الوادي الذي كانت تحتله محطة للسكك الحديدية يحوطها جبال تكسوها أشجار البلوط والصنوبر، فضلًا عن الصخور القرميدية والرمادية بالسفوح الصخرية، التى يراها كأنها نقاط صغيرة وسط الغابة الواسعة التى يتحول لونها إلى القاتم والضبابى في أواخر الشتاء.
كما يوظف الجغرافيا أيضًا لاستيضاح قسوة المناخ الذي يلقي بظلاله على طبيعة الإنسان لمعاناته من تلك الأجواء، وخاصة في سيبيريا؛ ففى الطريق إلى غابات غرب سيبيريا رأى جيفاغو مزارع القوزاق حول الطريق الطويل الذى يشق القرى، والخط الحديدي المساير له، وكانت الثلوج تزيد قسوة الحياة، ولعل وقوع معسكر خاطفيه داخل الغابات المتراصة بأشجارها، وخاصة البتولا، جعلهم أكثر شدة وقسوة، خاصة وقت القتال.
تظهر الطبيعية قسوتها عند هروب جيفاغو من المعسكر، فكانت تمحو خريطته بتتبعه خطوط السكك الحديدية، فحينما غطاها الثلج بشدة ضل طريقه أكثر من مرة، بل كانت قوة الثلوج تعصف بالقرى، فيُقضى عليها، وقبرت العشرات من عربات السكك الحديدية تحتها، فلم يعد للمكان ملامح.
في عام 1965، وفي مدينة صوريا (سوريا) Soria، الواقعة في مقاطعة قشتالة ليون شمال إسبانيا، صُوّر الفيلم السينمائي المقتبس عن رواية “الدكتور جيفاغو”، حيث أحال المخرج ديفيد لين، والسيناريست روبرت بولت، الرواية إلى فيلم من بطولة عمر الشريف، وجولي كريستي. ورغم إعادة إنتاج الرواية في أعمال أخرى، فإن هذه النسخة تتربع على قمة الأعمال السينمائية المعالجة للرواية.
فحينما تجيد السينما نقل حبكة الرواية إلى المشاهد فذلك إبداع، وحينما تجيد نقل الجغرافيا فذلك إبهار، وقد جاهد المخرج والسيناريست في نقل جغرافية روسيا إلى المشاهد، فاختيرت سوريا الإسبانية بعد رفض روسيا التصوير بها لظروف سياسية، ولظروف جغرافية لملائمتها مناخيًّا، حيث تعد من أبرد مناطق إسبانيا، إذ تنخفض درجة الحرارة جدًّا، خاصة في يناير، وتتراكم الثلوج شتاء، فهي بعيدة عن مؤثرات البحر المتوسط والمحيط الأطلنطي، مما يجعل شتاءها باردًا وقاسيًا.
وحينما عاند المناخ ولم تهطل الثلوج بكثرة في سوريا الإسبانية Soria في ذلك الشتاء، اضطر صناع الفيلم إلى استخدام جليد صناعي مكون من الجبس والقطن الأبيض وكسر الرخام المصنوع من غبار محجر رخام قريب. ومع أن بعض مشاهد الفيلم نتاج جغرافية مصنعة، لكن أجيد صنعتها، وربما كان تعلق المشاهدين بالفيلم نتيجة للطبيعة المصورة ببراعة، سواء أكانت طبيعية، أم صناعية.
تظهر إجادة نقل الجغرافيا في كثير من المشاهد، فقد تم استيراد الآلاف من زهرة النرجس البري من هولندا لتصوير مشهد ربيعي رومانسي يدور في فاريكينو الروسية، كما تظهر أجمل مشاهد الفيلم في قصر الجليد بفاريكينو، الذي استبدل بمنزل مليء بشمع العسل المجمد.
في السهوب الثلجية لفنلندا بشمال أوروبا، صُوّرت بعض المشاهد الشتوية، وأهمها هروب جيفاغو من الثوار، وهي مكان مناسب جدًّا ليمثل سيبيريا الغربية بالأورال، حيث ترتفع الثلوج، وتغوص الأقدام، ولكن لظروف مناخية استُبعدت فنلندا بسبب سوء الأحوال الجوية.
طغت جغرافية الشمال القشتالي بمناظره الطبيعية على المشاهد: الغابات الصنوبرية، والبحيرات المتجمدة، وجبال البرانس، وغير ذلك، وقد وظفتها السينما أفضل توظيف، فظهرت سلسلة جبال مونكايا أعلى قمم جبال البرانس التي تفصل إسبانيا عن فرنسا لتقوم بدور جبال الأورال. وعلى سطح إحدى البحيرات المتجمدة في إسبانيا، صُوّرت معارك الثوار، وشكلت غابات الصنوبر الثلجية في كامبو دي جومارا Campo de Gómara سان ليوناردو تسلسل رحلة القطار في رحلة العائلة إلى فاريكينو.
رواية “الدكتور جيفاغو” طويلة ومعقدة، ومن الصعب متابعتها لوجود كثير من الشخصيات التي تتشابك بعضها مع بعض طوال الرواية في غير أوقاتها، ولذكر باسترناك بعض الشخصيات من خلال أحد أسمائها الثلاثة في مواضع متفرقة بالرواية. وحينما تُقرأ الرواية، هناك تفاصيل مختلفة بينها وبين الفيلم، ربما للحبكة السينمائية، وربما لاختزال كثير من تفاصيل رواية تزيد على 700 صفحة.
مع ذلك ستبقى الرواية والفيلم لسنوات قيد التحليل والنقد والإبداع… الشخصية المحورية (جيفاغو) تنظر إلى الأمور نظرة فلسفية، تنشد الكمال فى كل شيء، تريد أن تكون شخصية مثالية، كزوج وأب ومحب وصديق لكل النساء.. مع ذلك فهو ممزق بين عناء الحياة وواقع روسيا السوفيتية العنيف المضطرب، وبين حب امرأتين: تونيا ولارا.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.