بينما يسعى الرئيس السوري أحمد الشرع إلى فرض نظام ذي طابع سني على مجتمع تعددي بعد سقوط النظام العلوي لبشار الأسد، تقتنص إسرائيل الفرصة لتعزيز مصالحها الأمنية في سوريا من خلال تقديم نفسها على أنها حامي الأقليات المستضعفة، وعلى رأسها الأقلية الدرزية، في ظل مباركة الولايات المتحدة التي تعتبر إسرائيل امتدادًا لنفوذها في الشرق الأوسط؛ ما يثير تكهنات عن إمكانية ظهور دولة جديدة في الشرق الأوسط يهيمن عليها الدروز في المستقبل القريب، لا سيما في ظل التوترات الناشئة بين الدروز وهيئة تحرير الشام بعد سقوط نظام الأسد، ما يكشف عن ملامح فصل جديد في التاريخ المضطرب للعلاقات بين دمشق وأقلياتها، ويضع الطائفة الدرزية في اختبار دقيق لموازنة التوظيف السياسي من جانب القوى الإقليمية، كإسرائيل، وطموح الدروز في مشاركة النظام السوري في بناء الدولة الجديدة.
يُعد الدروز عربًا عرقيًّا، ويدينون بدين توحيدي يتضمن كثيرًا من المعتقدات المنتقاة من الإسلام واليهودية والمسيحية، كما أنه متأثر بالفلسفة اليونانية والهندوسية، غير أن الطائفة الدرزية -على عكس الطوائف الأخرى- لم تمارس أي نشاط تبشيري منذ القرن الحادي عشر، فلا يزال دينهم مغلقًا على أصحاب الطائفة الذين ينقسمون بين سوريا ولبنان، وبدرجة أقل في إسرائيل والأردن.
وقد اتسمت العلاقة بين الدروز والمسلمين بتنافر شديد، إذ إن معظم الدروز لا يُقرون بأركان الإسلام الخمسة؛ ولذلك يراهم الأصوليون الإسلاميون “كفارًا”؛ ولهذا عانى الدروز الاضطهاد قرونًا، في ظل أنظمة إسلامية مختلفة، كالخلافة الفاطمية، والمماليك، والدولة العثمانية، إذ شملت الاعتداءات على الدروز مجازر، وتدميرًا لدور عبادتهم وأماكنهم المقدسة.
يُرجح أن أوائل المستوطنين الدروز وصلوا إلى جبل الدروز من جبل لبنان وحلب في نهاية القرن السابع عشر، وكان همهم الرئيس هو إنشاء مجتمعات لا يتعرضون فيها لمضايقات السلطات العثمانية، وكان جبل الدروز مثاليًّا لهذا الهدف، ونتيجةً لأحداث عام ١٨٦٠ في جبل لبنان، شهد الجبل تدفقًا كبيرًا للمهاجرين الدروز من لبنان، وارتفع عدد سكانه ارتفاعًا كبيرًا، حيث استُعمِرت سفوحه الجنوبية والشرقية، وطوال القرن التاسع عشر حاول العثمانيون إخضاع الدروز للضرائب والتجنيد الإجباري، كما هي الحال في بقية ولايات سوريا.
وفي عام ١٩٢٢، شمل الانتداب الأصلي على سوريا ولبنان دولة إقليمية منفصلة تُسمى جبل الدروز، عاصمتها السويداء، ورحبت فرنسا بتأسيس إقليم درزي مستقل، لكن بعض القادة الدروز كانوا متشككين في نيات فرنسا، فقامت الوحدة بين الزعيم الدرزي سلطان باشا الأطرش والزعيم السني عبد الرحمن الشهبندر، التي كادت تطرد فرنسا من البلاد، لكن بعد قمع الثورة عام 1927، انقسم المجتمع الدرزي إلى اتجاهين؛ حيث تشبثت الطبقة العليا بمكانتها المستقلة، واثقة من دعم فرنسا لها، في حين فضّل الجيل الأصغر والأقل مكانة القومية العربية، حيث انضم العديد منهم إلى الجيش، وفي نهاية المطاف إلى حزب البعث.
شكّلت الطائفة الدرزية جزءًا أساسيًّا بنحو 3% من النسيج الاجتماعي السوري، إذ يقطن معظم الدروز السوريين في محافظة السويداء الجنوبية، مع وجود تجمعات كبيرة منهم في دمشق وضواحيها، بما في ذلك جرمانا وصحنايا وجديدة وعرطوز، وتعيش مجموعات سكانية أصغر على المنحدرات الشرقية لجبل الشيخ، وخلال ستينيات القرن العشرين، أُقصيَ الدروز عن السلطة داخل الجيش وحزب البعث وأجهزة الأمن بعد محاولة انقلاب فاشلة قام بها ضابط درزي، ورغم عمليات الإقصاء والتطهير فإنهم سعوا -كغيرهم من الطوائف- أن يشاركوا في الحكم، وحرصوا على أن يُنظر إليهم على أنهم جزء من الإسلام، حيث يخشون أن تتبرأ منهم الأغلبية السنية، لا سيما في ظل النهضة السنية التي أثيرت بعد 2011.
ومنذ بداية الثورة السورية تجنب الدروز الانحياز إلى أي طرف في الصراع، وبينما انحاز بعض الدروز إلى الأسد، التزمت الأغلبية الحياد؛ خوفًا من إرسالهم للقتال في جبهات قتال بعيدة؛ ما قد يؤدي إلى توترات مع جيرانهم من السنة، وأقام الدروز نقاط تفتيش وميليشيات لحماية شعبهم في مناطقهم، وخاصة السويداء، لكن بعضهم شارك في القتال ضد الجماعات المسلحة، مثل جبهة النصرة (جبهة تحرير الشام حاليًا)؛ وهو ما أسفر عن مواجهات عسكرية بين الجبهة والدروز، كان أبرزها عمليات اختطاف وهجوم في أوائل عام 2013، وفي أغسطس ٢٠١٤، اشتبك مقاتلون دروز مع بدو عرب تدعمهم جبهة النصرة؛ ما أسفر عن مقتل ما لا يقل عن اثني عشر شخصًا، بينهم ثلاثة زعماء، وفي يونيو (حزيران) ٢٠١٥، قتل عناصر من جبهة النصرة ٣٠ درزيًّا في قرية قلب لوزة بمحافظة إدلب، وكان سكان القرية قد واجهوا سابقًا ضغوطًا من الجماعة المسلحة للتخلي عن معتقداتهم.
وفي أثناء تلك المواجهات بين الدروز والمعارضة السورية توترت علاقة الدروز بالحكومة بسبب الخلاف بشأن قضايا التجنيد والحماية الذاتية، وفي 2016 اندلعت حركات احتجاج في السويداء نتيجةً للاستياء من قضايا مثل الفساد، وارتفاع تكاليف المعيشة الناجم عن الصراع بين النظام والمعارضة، ومن ناحية أخرى لم تسلم الطائفة الدرزية من استهداف تنظيم داعش لها، الذي بلغ ذروته من خلال سلسلة من التفجيرات الانتحارية في يوليو (تمّوز) 2018، وأودى بحياة أكثر من 220 شخصًا، حين اختطف إرهابيو التنظيم فتيات ونساء درزيات.
وانطلاقًا من هذا، أسهمت الخبرة التاريخية السلبية بين الدروز والتيارات الإسلامية، خاصة السنية في سوريا في إثارة المخاوف بشأن مستقبل الطائفة بعد سقوط الأسد وتولي أحمد الشرع ذي الخلفية الجهادية حكم البلاد، ودلل على هذا استبعاد الدروز من المؤتمر الوطني الذي رسم المعالم الرئيسة لمستقبل سوريا، دون إشارة إلى مشاركة الدروز في هذا المستقبل، ومصيرهم في ظل الحكم الحالي لسوريا. فضلًا عن هذا، لم يستجب النظام الانتقالي السوري للتصريحات المتكررة من إسرائيل باستعداد تل أبيب لحماية الدروز؛ ما عكس تجاهل النظام لمحاولات استقطاب الطائفة الدرزية؛ نظرًا إلى الأهمية الإستراتيجية للدروز في الأمن القومي الإسرائيلي، ولكن بعد أيام فقط من مذبحة العلويين في سوريا، ناقش الشرع اتفاقًا مع زعماء الدروز من محافظة السويداء، ينص على دمج المنطقة بالكامل في الدولة، ووضع الأجهزة الأمنية تحت سلطة وزارة الداخلية بالحكومة المركزية، مع ضمان اختيار ضباط شرطة السويداء حصريًّا من الطائفة الدرزية، في محاولة من حكومة الشرع للتقارب مع الدروز لمواجهة تحالفهم المحتمل مع تل أبيب.
حاليًا، هناك ما يقرب من 150 ألف درزي في إسرائيل، معظمهم يحملون الجنسية الإسرائيلية، ويخدمون في الجيش، حيث أبرم الدروز في إسرائيل ما يُشار إليه بـ”عهد الدم” مع الدولة اليهودية، إذ يُعد يثرون -صهر النبي موسى- أهم نبي في الديانة الدرزية؛ ومن ثم يُعد الدروز في إسرائيل الطائفة الدينية الوحيدة المُلزمة قانونًا بالخدمة في جيش الدفاع الإسرائيلي بناءً على طلب القادة الدينيين والطائفيين الدروز، وهو ما استغلته إسرائيل على مدار العقود الماضية لاستقطاب الدروز، وتوثيق تحالفاتها مع قاداتهم، وعقب سقوط الأسد، استغلت تل أبيب الفرصة وبدأت في موجة من التصريحات لدعم الدروز، وإثارة المخاوف من مصيرهم في ظل الحكم السني في البلاد، وجاء في هذا السياق إعلان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بعد الاشتباكات التي شهدتها مدينة جرمانا الواقعة في ريف دمشق، التي يُعد معظم سكانها من المسيحيين والدروز، أن إسرائيل ستتدخل لحماية الدروز إذا ما أقدمت قوات النظام السوري على المساس بهم، وكذلك أكد وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس أن الحكومة الإسرائيلية ملتزمة ببذل كل ما في وسعها لمنع تعرض الدروز في سوريا للأذى.
أتى ذلك بعد فترة وجيزة من إلقاء نتنياهو كلمة أمام دفعة جديدة من الضباط في الجيش الإسرائيلي في فبراير (شباط) الماضي، أعلن فيها أن الجنوب السوري يجب أن يصبح منطقةً منزوعة السلاح بالكامل من قوات النظام الجديد، خاصةً في محافظات القنيطرة ودرعا والسويداء، مع تحذيره بالرد على أي تهديد تتعرض له الطائفة الدرزية، وفي 9 مارس (آذار) الجاري، خطت إسرائيل خطوةً إضافية في مساعيها الرامية إلى ربط دروز سوريا بإسرائيل، فقد صرح كاتس بأن الحكومة الإسرائيلية ستسمح لهم بالدخول إلى مستوطنات مرتفعات الجولان المحتلة للعمل، وأن قوات تل أبيب ستبقى في المنطقة العازلة التي تسيطر عليها الأمم المتحدة بين إسرائيل وسوريا تحت ذريعة حماية الدروز.
ولعل هذا كان تمهيدًا للخطوة الأبرز في علاقة الدروز بإسرائيل، فقد زار وفد يضم قرابة ستين رجل دين درزيًّا سوريًّا إسرائيل في 14 مارس (آذار) الجاري في أول زيارة من نوعها منذ نحو 50 عامًا، وتوجه الوفد للقاء الزعيم الروحي لطائفة الدروز في إسرائيل موفق طريف، ولزيارة مقام النبي شعيب في البلاد.
ومن أجل توظيف دروز سوريا لخدمة المصالح الإسرائيلية في سوريا، أعدت تل أبيب خطة لجلب مواطنين سوريين دروز إلى إسرائيل للعمل، زاعمةً أن هذا في إطار الاستجابة لطلبات الدروز السوريين الذين يسعون إلى لم شمل عائلاتهم مع أقاربهم في مرتفعات الجولان المحتلة، وأيضًا لأن سيطرة إسرائيل على المنطقة العازلة في سوريا تعوق عمل الدروز في هذه المنطقة، وخاصة في أراضيهم الزراعية، وأرسلت الحكومة الإسرائيلية أكثر من 10 آلاف حزمة مساعدات إنسانية إلى المجتمع الدرزي في مناطق القتال في سوريا خلال الأسابيع القليلة الماضية لدعم الدروز في مواجهة النظام السوري.
تستثمر إسرائيل في حالة الفوضى وعدم الثقة بين نظام الشرع والأقليات العرقية والدينية في المجتمع السوري، التي تجلت أحدث ملامحها في المذبحة التي راح ضحيتها أكثر من 700 شخص، معظمهم من الطائفة العلوية، في إطار المواجهات المسلحة بين مجموعات تابعة لنظام الأسد من جهة، وقوات الأمن السورية من جهة أخرى، إذ يرى الإسرائيليون في تقسيم سوريا فرصة ذهبية؛ فهذه النتيجة لن تضمن بقاء الدول المجاورة لإسرائيل ضعيفة فحسب؛ بل أيضًا تضمن عدم وجود حكومة قادرة على تحدي احتلال إسرائيل لمرتفعات الجولان، ومن شأن إضعاف الدول العربية، وفي مقدمتها سوريا، أن يفتح أيضًا أبوابًا أخرى لإسرائيل، مثل انخراطها في عملية تطهير عرقي ضد الشعب الفلسطيني من خلال تهجيرهم إلى الدول المجاورة، حيث هناك تفاهمات جارية أن تكون سوريا إحدى الدول المستقبلة للفلسطينيين. هذه هي المكاسب التي يمكن أن يحقّقها مخطط تل أبيب بشأن سوريا، أي رؤية البلاد مقسمة على أسس إثنية وطائفية؛ ما يسمح لإسرائيل بإنشاء مناطق عازلة بالقرب من حدودها، أو مناطق نفوذ لها في أماكن أخرى.
وللمقاربة التي تنتهجها إسرائيل بُعد ثانٍ، ففيما حاول الإسرائيليون التسبب في تفكيك سوريا، فرضوا من جانب واحد نظامًا أمنيًّا خاصًّا بهم، يتيح لهم التدخل من أجل التصدي للتهديدات المحتملة، وهذا الأمر يتجلى في سوريا ولبنان، وقد أضفت الولايات المتحدة عليه الشرعية في الحالة اللبنانية، على شكل وثيقة جانبية رافقت مفاوضات وقف إطلاق النار في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، في حين تسعى تل أبيب حاليًا لتوظيف ورقة الدروز للتدخل في الجنوب السوري.
ولمواجهة تلك التحركات يحاول خصوم إسرائيل تقويض تطلعاتها الاستعمارية، إذ تسعى تركيا وإيران إلى إيجاد موطئ قدم لهما في سوريا، حيث تستغل أنقرة جماعاتها السنية الموالية لها، وفي مقدمتهم جبهة تحرير الشام والجيش الوطني السوري، في حين تطمح إيران إلى إحياء قوة الجماعات العلوية في سوريا لاستعادة نفوذها في البلاد، ومع تدخل الأطراف الفاعلة الإقليمية في شؤون الأقليات لتغيير الوضع القائم الذي تنتفع منه إسرائيل، يُرجح أن تأتي العواقب على حساب الأقليات نفسها، التي ستتحول إلى أدوات يمكن توظيفها في حال قيام حرب بالوكالة في سوريا.
ومن جانب آخر، ليست تركيا وإيران وحدهما من تحاربان التقارب الدرزي الإسرائيلي، بل إن الداخل الدرزي المقسم بين ثلاث فصائل رئيسة، أولاها وأكبرها حركة الحراك المجتمعي، يدعم أنصارها الحكومة المؤقتة بأغلبية ساحقة، في حين أن الفصيل الثاني، الذي بتبع أيضًا الإدارة الجديدة، يتكون من فصائل مسلحة مختلفة، أبرزها “رجال الكرامة”، و”لواء الجبل”، و”ائتلاف أحرار الجبل”، أما الفصيل الثالث فيضم أربع مجموعات متحالفة مع شيخ الدروز السوريين حكمت الهجري، الذي صرح بأن طائفته لن تقبل العيش تحت حكم الشرع، حيث رفض الإعلان الدستوري، لكنه سيحارب للدفاع عن سيادة الدولة السورية، فيما أعلنت شخصيات بارزة من قرية حضر الدرزية، الواقعة على الجانب السوري من مرتفعات الجولان، عن تأييدها الانضمام إلى إسرائيل، في سلسلة من مقاطع الفيديو التي انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي في الأسابيع الماضية.
يرتهن مستقبل التحالف الدرزي الإسرائيلي بإستراتيجية النظام السوري الجديد تجاه الأقليات الدينية والعرقية في البلاد، فمع أن الحكومة السورية توصلت إلى اتفاق مع الطائفة الدرزية في السويداء يفضي -من جملة أمور أخرى- إلى وضع الميليشيات الدرزية تحت سلطة وزارة الداخلية، فإن مصير الطائفة سيتوقف في المدى المتوسط على قدرة الحكومة السورية على ترسيخ نظام أكثر شمولًا للجميع، وحتى ذلك الحين، سيظل شبح التقسيم يلوح في الأفق، وستكون إسرائيل في الانتظار لاستغلال الفرصة، وهو ما من شأنه لفت انتباه اللاعبين الرئيسين، مثل تركيا وإيران، حيث تراقب كل منهما -من كثب- الديناميكيات المتطورة بين الحكومة المركزية والأقليات، وتُقيّم الآثار المحتملة على مصالحها الإستراتيجية الخاصة، وهو ما يحول سوريا إلى ساحة لحرب الكل ضد الكل برعاية خارجية.
ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.