مقالات المركز

الخطوط الساخنة.. والقناعات الخاطئة


  • 23 أبريل 2024

شارك الموضوع

تقول الحكمة الصينية الشهيرة “الوقوع في الخطأ يجعلك حكيمًا”، والمؤكد أن القيادة الصينية تستفيد من أخطائها ومن تجارب التاريخ في رسم خرائط التنافس والصراع مع الغرب بقيادة الولايات المتحدة، وفي مقدمة تلك التجارب التي يتدارسها القادة الصينيون يوميًّا “اتفاقية 4+2″، في 12 سبتمبر (أيلول) عام 1990، التي وحدت ألمانيا، وكانت تضم إلى جانب الألمانيتين كلًا من الاتحاد السوفيتي السابق، والولايات المتحدة، وبريطانيا، وفرنسا، والتي اشترط فيها الاتحاد السوفيتي على الولايات المتحدة عدم توسيع حلف شمال الأطلسي (الناتو) ناحية الحدود الروسية، لكن العقود الثلاثة الماضية أكدت أن الغرب خدع روسيا، ووسّع الحلف بالفعل من 12 دولة إلى 32 بعد انضمام السويد وفنلندا.

هذه الحكمة تشكل “جوهر الفلسفة” في رؤية بيجين لتنافسها وصراعها مع الغرب، ومن يراجع السياسيات الصينية يتأكد له أنها تعمل على مسارين متوازيين؛ الأول: هو السعي إلى تحسين العلاقات مع الغرب من خلال لقاءات القمة والشخصيات الرفيعة، مع كشف الخطط الأمريكي في تخويف العالم وترويعه من الصعود والنجاح الصيني، وفي الوقت نفسه لا تغفل بيجين المسار الثاني من خلال الاستعداد لكل “الخيارات الخشنة”، ومنها احتمال اندلاع صراع مسلح، سواء أكان مباشرًا مع الولايات المتحدة الأمريكية، أم من خلال حلفائها الإقليميين المجاورين للصين.

وفق هذه الرؤية، جرت مكالمة يوم الثلاثاء 2 أبريل (نيسان) الجاري بين الرئيس الصيني شي جين بينغ، ونظيره الأمريكي جو بايدن، استمرت 105 دقائق، وحاول من خلالها الزعيم الصيني أن يقدم بلاده “شريكًا” للولايات المتحدة، وليس “عدوًّا” للغرب كما تروج واشنطن، وهو سعي تكرر خلال الأسابيع القليلة الماضية عندما اجتمع الرئيس الصيني مع مديري كبار الشركات الغربية، وقدم لهم الرسالة نفسها؛ بأن الصين لا تهدد أحدًا، وتفتح أبوابها أمام الجميع. كما عبرت الصين عن انفتاحها على تحسين العلاقات مع واشنطن عندما استقبلت الأسبوع الماضي وزيرة الخزانة الأمريكية “جانييت يلين”، وسبقها من قبل زيارات لكل من وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، ومستشار البيت الأبيض للأمن القومي جيك سوليفان.

لكن على الجانب الآخر، تدرك بيجين أن الولايات المتحدة التي ترسل وزراءها ومسؤوليها إلى الصين، تعمل بكل ما تملك “لإجهاض الصعود الصيني” في جميع المجالات، خاصة المجالات العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية، وتراقب الصين على مدار الساعة التحركات الأمريكية، خاصة في الجوار القريب، وعمل واشنطن الدؤوب من أجل زرع الفتن، ونشر الرعب والخوف من التنين الصيني لدى أقرب جيران الصين في بحر الصين الجنوبي، وبحر الصين الشرقي، وشرق آسيا ، وهو ما يطرح السؤال عن طبيعة العلاقات المستقبلية بين واشنطن وبيجين، وهل نحن أمام “إدارة للتنافس” أم انزلاق إلى “الصراع”؟ وإلى أي مدى يمكن أن يغير وصول دونالد ترمب إلى البيت الأبيض في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل المعادلة الأمريكية الصينية؟

تقديرات صينية

تعتمد التقديرات الصينية على ضرورة عدم الثقة بأي وعود غربية حتى لا يتكرر سيناريو الخداع الأمريكي والغربي لروسيا بعد نهاية الحرب الباردة، لكن في الوقت نفسه، تدرك الصين أنها لا تنافس الولايات المتحدة وحدها؛ بل تواجه تحالفًا كبيرًا يضم 32 دولة عضوًا في حلف الناتو، و27 دولة في الاتحاد الأوروبي، وأعضاء تحالفات “العيون الخمس”، و3 دول أعضاء في تحالف “أوكوس”، بالإضافة إلى تحالف “كواد” الرباعي، لكن أهم معادلة في تلك التقديرات الصينية هي حجم التجارة مع الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين والآسيويين، حيث وصل حجم التجارة الصيني في عام 2023 مع الاتحاد الأوروبي إلى نحو 800 مليار دولار، و690 مليار دولار مع الولايات المتحدة، ونحو 330 مليار دولار مع اليابان، وما يقرب من 150 مليار دولار مع كوريا الجنوبية وأستراليا ونيوزيلندا، وهو ما يعني أن تجارة الصين مع هذه الدول تزيد على تريليوني دولار سنويًّا، وهذه التقديرات دفعت الصين إلى تبني سلسلة من الخيارات تحافظ بها على المكتسبات الصينية مع العلاقة مع الولايات المتحدة والغرب، وفي الوقت نفسه تكون مستعدة لأي سيناريو تتخذه الولايات المتحدة ضد الصين، وأبرز هذه الخيارات الصينية ما يلي:

أولًا: إجهاض الرواية الأمريكية بشأن تايوان

نجحت الصين في كشف الادعاءات الأمريكية بشأن استعداد الصين لغزو تايوان هذا العام، أو بداية العام المقبل، وحاصرت الصين هذه الادعاءات الأمريكية من خلال ما تقوله الإدارة الأمريكية نفسها، واعترافها بسياسة “الصين الواحدة”، وأن تايوان جزء أصيل من الأراضي الصينية، وأوضحت الصين رؤيتها بوضوح أنها تفضل عودة تايوان إلى الأمة الصينية من خلال الحوار والمفاوضات، والطرق السلمية، لكنها مثل أي دولة في العالم من حقها أن تدافع عن سيادتها ووحدة أراضيها، ومن هذا المنطلق لا يمكن أن تسمح الصين بانفصال تايوان أو استقلالها، وأن خلافها مع الغرب يقوم على رفض بيجين لكل الخطوات الغربية والأمريكية التي تدعم انفصال تايبيه عن بيجين، مثل إرسال السلاح والذخيرة والمدربين العسكريين إلى تايوان، والقيام بزيارات برلمانية أو دبلوماسية تضفي دعمًا للخطوات الانفصالية التايوانية، مثل زيارة الأزمة التي قامت بها الرئيسة السابقة لمجلس النواب الأمريكي نانسي بيلوسي في 15 أغسطس (آب) 2022، هذا الخطوط الصينية الحمراء والواضحة جعلت الموقف الأمريكي والغربي مرتبكًا ليس فقط أمام دول الجنوب في إفريقيا، وآسيا، وأمريكا اللاتينية؛ بل لدى شعوب ودول أوروبية ترفض القيام بأي خطوات مع تايوان تستفز الصين، وتتعارض مع مبدأ “الصين الواحدة”، وكانت رسالة الرئيس الصيني لنظيره الأمريكي واضحة خلال مكالمة الـ105 دقائق، وهي رفض بيجين لأي خطوة أمريكية تعزز الميول الانفصالية لدى بعض التيارات السياسية التايوانية.

ثانيًا: كسر دائرة الكراهية

معروف عن السياسة الأمريكية أنها “تستثمر في الكراهية”، كما فعلت بين روسيا ودول شرق أوروبا ووسطها، بمعنى أن واشنطن تسعى إلى زرع الفتن بين الصين وجيرانها، وتؤجج الخلافات سعيًا إلى الحصول على مزيد من المكاسب السياسية والاقتصادية والعسكرية في الدائرة الجغرافية القريبة من التنين الصيني. وإدراكًا من الصين لخطورة هذه السياسة الأمريكية بدأت بيجين بتعزيز علاقاتها مع جيرانها، ومنهم اليابان، وكوريا الجنوبية، وأستراليا، كما أن القمة التي جمعت الرئيس الصيني شين جين بينغ مع رئيس الوزراء الهندي مودي على هامش قمة البريكس بجنوب إفريقيا في أغسطس (آب) الماضي، كانت خطوة كبيرة نحو “تهدئة التوترات”، و”تبريد الصراعات” الحدودية بين البلدين، وتعزز الصين- باطراد- علاقاتها مع مجموعة دول “الآسيان” التي أعلنت- بكل صراحة- أنها تفضل التعاون مع الصين على الولايات المتحدة.

ثالثًا: عزل الحلفاء

أكثر سياسات بيجين نجاحًا في مواجهة الاقتراب الأمريكي من الأراضي الصينية هو “عزل حلفاء الولايات المتحدة” عن واشنطن، خاصة فيما يتعلق بالاقتصاد والقضايا التجارية، فالميزان التجاري الصيني مع حلفاء الولايات المتحدة في الاتحاد الأوروبي يزداد عامًا بعد عام، رغم كل محاولات الوقيعة بين الصين ودول الاتحاد الأوروبي، على سبيل المثال، في ألمانيا ما زالوا يتذكرون أن “الرخاء الألماني” اعتمد في أحد أضلاعه الثلاثة على “الوصول إلى السوق الصينية العملاقة”، إلى جانب الضلعين الآخرين، وهما “الغاز الروسي الرخيص” عبر الأنابيب، و”عدم الإنفاق الدفاعي الكبير”، واليوم، مع توقف الغاز الروسي، وإنفاق 18 دولة أوروبية نحو 2 % من ناتجها القومي على الشؤون العسكرية، لم يتبق للأوروبيين من “مثلث الرخاء” إلا الوصول إلى السوق الصينية، وهذا ما أكدته زيارات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والمستشار الألماني أولاف شولتز للصين خلال عام 2023، التي أكدت مزيدًا من الاستثمار في العلاقات الأوربية الصينية، وكل ذلك في مواجهة دعاية أمريكية لا تتوقف تقول للأوروبيين: “لا تعتمدوا على الصين حتى لا تتكرر المشكلات الناتجة عن اعتمادكم على الغاز الروسي”. ومع ذلك، ما زال الأوروبيون يثقون بعلاقاتهم الاقتصادية مع الصين التي زادت في العام الماضي على 800 مليار دولار، بالإضافة إلى الترحيب بالاستثمارات الصينية في القطاعات الحيوية الأوروبية رغم كل التحذيرات الأمريكية، فالصين هي من تدير أكبر ميناء في شرق المتوسط، وهو ميناء بيريوس اليوناني، مع أن اليونان عضو في الاتحاد الأوروبي، وعضو أيضًا في حلف دول شمال الأطلسي (الناتو) منذ عام 1952، كما باتت الصين هي الشريك التجاري الأول لدول مجلس التعاون الخليجي، ودول أمريكا اللاتينية، والقارة الإفريقية.

رابعًا: كل السيناريوهات

تقوم السياسة الصينية على مد يدها للتعاون والسلام مع الولايات المتحدة، وتدعم على الدوام الرأي القائل بأن الاقتصاد الأمريكي لا يمكن فصله عن نظيره الصيني، لكنها في الوقت نفسه، وبالحماسة والعزيمة أنفسهما تستعد “لكل السيناريوهات” على جميع الأصعدة الاقتصادية، والعسكرية، والتكنولوجية؛ لذلك تتبني القيادة الصينية مقاربة تقوم على السعي إلى تحقيق التفوق الصيني في جميع المجالات، وهو ما يلمسه الجميع في نجاح الصين في إنتاج حاملة الطائرات “فوجيان” بالأيادي الصينية، كما أن القاذفات الإستراتيجية الصينية من الجيل الخامس لا تقل عن نظيرتها الأمريكية، فضلًا عن نجاح الصين في الوصول إلى تكنولوجيا الغواصات “التي لا تصدر صوتًا”، وهو ما يشكل كابوسًا للغواصات الأمريكية إذا ما حاولت الاقتراب من البر الصيني، بالإضافة إلى خطط الصين لزيادة الإنفاق الدفاعي السنوي لأكثر من 290 مليار دولار في السنوات القليلة المقبلة.

الخطوط الساخنة والقناعات الخاطئة

الواضح أن الصين تدعم التواصل على أعلى مستوى مع الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما جسدته المكالمة الأخيرة بين الرئيس شي ونظيره الأمريكية جو بايدن؛ لأن عدم التواصل يعزز “القناعات الخاطئة” لدى كل طرف عن الطرف الآخر؛ ولهذا تؤمن الصين بأن “الخطوط الساخنة” بين القوى العظمى- واستمرار الاتصالات في أحلك الظروف- كفيلة بعدم الوقوع في “الحسابات الخاطئة”، والانزلاق من حلبات التنافس إلى ميادين الصراع، مع الإيمان الصيني الكامل بأن الولايات المتحدة لم تتخلَ يومًا عن أهدافها تجاه الصين، وعمل واشنطن بكل ما تملك من أجل إضعاف الصين، وعدم اعتلائها قمة قيادة العالم، سواء بقي جو بايدن في البيت الأبيض، أو جاء غريمه الجمهوري دونالد ترمب.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع