وحدة الدراسات الصينية

الخطر الحقيقي في العلاقات الاقتصادية والتجارية بين الصين وأوروبا هو “فكّ التعاون”


  • 18 أكتوبر 2025

شارك الموضوع
i مصدر الصورة: consilium

في الأيام الأخيرة، أثارت سياسة أوروبا تجاه الصين مجددًا موجة من الجدل بسبب قضايا مثل متطلبات الاتحاد الأوروبي الجديدة لنقل التكنولوجيا، والعقوبات الأحادية التي فرضتها المملكة المتحدة على بعض الكيانات الصينية، والجدل الأخير بشأن شركة نيكسبيريا (Nexperia). وقد حافظت الصين على موقف واضح ومتسق بشأن التعاون مع أوروبا، إذ تدعم التعاون التجاري والاستثماري بين الشركات الصينية والأوروبية على أساس مبادئ السوق، وتحقيق المنفعة المتبادلة. كما تعارض الصين النقل القسري للتكنولوجيا المخالف لقواعد منظمة التجارة العالمية، والتدخل في العمليات الطبيعية للشركات، والممارسات الحمائية والتمييزية التي تُتخذ تحت ذريعة تعزيز القدرة التنافسية.

في الوقت الحالي، يؤدي التوسع المفرط في “استثناءات الأمن”، وتصاعد النزعات الحمائية، وتسييس مبادئ السوق، إلى تقليص مساحة القواعد المتعددة الأطراف التي تواجه تهميشًا متزايدًا. ما ينبغي لأوروبا فعله هو الالتزام بالاتساق في السياسات، وتجنب السماح بالتقلبات “المتعمدة” التي قد تربك إستراتيجيات الأعمال، وتوقعات الامتثال لدى الشركات في المنطقة.

إن موطن الضعف الرئيس في التنمية الصناعية الأوروبية لا يكمن في مدى “الأمن” الذي تتمتع به، بل في كيفية إدارة هذا “الأمن”، فقد كشفت قضية شركة نيكسبيريا في مجال أشباه الموصلات أن مراجعات الأمن خضعت لضغوط “القواعد الأمريكية المخترقة”؛ ما أفقد أوروبا أي مساحة للاستقلال الإستراتيجي. لقد تحولت هذه المراجعات إلى حواجز لاحقة لدخول السوق تستهدف الشركات الصينية، وتضعف بيئة الأعمال الأوروبية نفسها.

إن ربط “الوصول إلى السوق” بـ”نقل التكنولوجيا” يعادل في جوهره نقلًا قسريًّا مقنعًا للتكنولوجيا، وهو ما لا ينتهك فقط قواعد منظمة التجارة العالمية؛ بل يتعارض أيضًا مع السردية الأوروبية الطويلة عن الانفتاح والابتكار. أما العقوبات الأحادية التي فرضتها المملكة المتحدة على الصين، فهي تمثل “ولاية قضائية خارج الإقليم”، وتفتقر إلى أي أساس في القانون الدولي. هذه الأفعال لا تؤدي إلا إلى زيادة الغموض في الامتثال، ورفع التكاليف المؤسسية للتجارة والاستثمار عبر الحدود؛ مما يضعف مصداقية الأطر التنظيمية، ويقوض ثقة مجتمع الأعمال.

إن القوة الحقيقية التي تدفع التنمية الصناعية الأوروبية تكمن في تحسين الإنتاجية الكلية لعوامل الإنتاج، وجعل النمو قائمًا على الابتكار، لا على الحماية من خلال الحواجز. وقد مُنحت جائزة نوبل في الاقتصاد لعام 2025 لنظرية “النمو الاقتصادي القائم على الابتكار”؛ ما يعكس أن القيمة الحقيقية، حتى في ظل موجة الحمائية الراهنة، تكمن في احترام روح العقود، وقوانين الاقتصاد، والتطور المستمر للتكنولوجيا.

يتطلب التقدم التكنولوجي توقعات مؤسسية وسياسية مستقرة. أما التدخل الاعتباطي في عمل الشركات بذريعة “مفهوم الأمن العام”، فلا يؤدي إلا إلى زيادة التوقعات المتشائمة، وارتفاع تكاليف المعاملات، وبطء انتشار التكنولوجيا، وضعف تراكم المعرفة؛ مما يضعف في النهاية زخم التنمية الاقتصادية.

كما يتطلب التقدم التكنولوجي منافسة سوقية قوية. لكن حين تُتخذ عبارة “تعزيز التنافسية” ذريعة لفرض نقل التكنولوجيا القسري، فإنها تقلص العائد الهامشي للبحث والتطوير، وتشوه إشارات الأسعار وتخصيص الموارد، ومع مرور الوقت تؤدي إلى “جمود الكفاءة”، وإضعاف زخم الابتكار والتنمية. كما يتطلب التقدم التكنولوجي تعاونًا دوليًّا واسع النطاق، إذ إن التنمية الصناعية الأوروبية، خاصة في مجالات الاقتصاد الأخضر والرقمي، هي نتيجة تكامل معرفي بين تخصصات وشركات وحدود متعددة. ولا يمكن تسريع انتشار المعرفة ونمو الصناعات بطريقة صحية ومستدامة إلا من خلال التعاون العابر للحدود القائم على التوقعات المستقرة.

لطالما حافظت الصين وأوروبا على علاقة عميقة من الاعتماد المتبادل، وتشابكت مصالحهما على نحو وثيق؛ ففي قطاعات مثل أشباه الموصلات، والطاقة الجديدة، والصناعات الدوائية والرعاية الصحية، وتصنيع المعدات المتقدمة، والتقنيات الخضراء ومنخفضة الكربون، تتداخل سلاسل الصناعة والإمداد تداخلًا وثيقًا، وتتعاون الشركات الصينية والأوروبية على امتداد سلسلة القيمة، متقاسمة الفرص والمكاسب. واليوم، يشهد الاقتصاد العالمي اضطرابات شديدة، وتعافيًا ضعيفًا، ونموًّا صعبًا. إن الخطر الحقيقي الذي يواجه التعاون الاقتصادي والتجاري بين الصين والاتحاد الأوروبي لا يتمثل في ما يسمى بـ”الاعتماد المتبادل”؛ بل في استخدام “تقليل المخاطر” ذريعةً لـ”فك التعاون”، أو حتى “نزع الطابع الصيني”. إن مأزق التنمية في أوروبا لا يكمن في الامتثال للقواعد؛ بل في فرض القيود التعسفية، وبناء الحواجز تحت غطاء “تقليل المخاطر”.

إن ما تطلبه الشركات -أكثر من أي شيء- هو اليقين، وما تأمله هو التوقعات الإيجابية، وما هو الأهم في السياسات هو الحدود المستقرة. تحتاج أوروبا إلى تحديد واضح لحدود الأمن، ووضع قواعد إجرائية منظمة، وبهذه الطريقة فقط يمكن أن يعمل التعاون ضمن إطار فعّال، وتعود المنافسة إلى مسارها العادل، وتنال الشركات مساحة للنمو.

بوجه عام، ينبغي للطرف الأوروبي أن يحوّل “قلقه الأمني” إلى حوار مؤسسي عقلاني قائم على القواعد، وأن يبتعد عن شد الحبل القصير الأمد لصالح منافع متبادلة طويلة الأمد. أما الموقف الصيني فقد ظل ثابتًا: تفضيل حل القضايا على أساس المساواة، وإدارة الخلافات ضمن إطار القوانين والقواعد. وفي مواجهة الممارسات غير المتوافقة، تمتلك الصين القدرة والعزم على الرد بالمثل، وفي مجالات التعاون البنّاء تمتلك الصدق الكافي والانفتاح اللازم للتفاعل الإيجابي.

كلما أسرعت أوروبا في العودة إلى التعددية الحقيقية؛ ازدادت مساحة التعاون بين الصين وأوروبا، وتعززت مرونة الصناعات الأوروبية، وارتفعت الثقة في الأسواق العالمية. لقد أثبت التاريخ مرارًا أن المزيج السياسي القائم على القواعد والتعددية والتعاون هو وحده القادر على تجاوز دورات الاقتصاد، واستقرار التوقعات، وضمان المستقبل. ما دام الطرفان يتعاملان مع القضايا بانفتاح، ويسويان الخلافات بمهنية، ويستخدمان الأدوات المؤسسية لتثبيت التفاهم، فسيكونان قادرين على إعادة العلاقة من حافة الخلاف إلى مركز العقلانية، وجعل “الارتكاز على القواعد المتعددة الأطراف، والتركيز على التعاون” ليس مجرد شعار؛ وإنما واقع مؤسسي ملموس وقابل للتنفيذ.

المصدر: افتتاحية غلوبال تايمز (Global Times)


شارك الموضوع