على حدود إيران الشمالية، تقف ثلاث دول صغيرة (أذربيجان وأرمينيا وجورجيا) في قلب رقعة شطرنج معقدة، يختلط فيها النفط بالتحالفات، والدين بالسياسة، والتاريخ بالأمن، فالصراع الذي يبدو بعيدًا جغرافيًّا، يُهدد بتفجير التوازنات الهشة في هذه المنطقة ذات الأهمية الجيوسياسية، وسط تقاطعات مصالح دولية وإقليمية متشابكة؛ ما قد يغير شكل توازن القوى الإقليمي عقودًا قادمة، حيث شكلت الحرب بين إسرائيل وإيران تحولًا إستراتيجيًّا في الشرق الأوسط تتجاوز تداعياته النطاق الإقليمي، لتضع دول جنوب القوقاز أمام تحديات تواجه منطق الحياد التقليدي، فبينما تسعى هذه الدول إلى حماية مصالحها الوطنية، تجد نفسها وسط صراع تتقاطع فيه خطوط الطاقة، والتحالفات الأمنية، والصراعات الإثنية والدينية.
سارعت وزارة الخارجية الأذربيجانية -صاحبة الحدود الممتدة إلى أكثر من 689 كيلومترًا مع إيران- بإصدار بيان في 13 يونيو (حزيران) الجاري للتعبير عن قلقها إزاء العمليات العسكرية التي تنفذها إسرائيل على أراضي جمهورية إيران الإسلامية مع إدانة تصعيد التوترات بين الطرفين، وفي اليوم التالي أبلغ وزير الخارجية الأذربيجاني، جيهون بيراموف، نظيره الإيراني، عباس عراقجي، خلال محادثة هاتفية أن أذربيجان لن تسمح باستخدام أراضيها من جانب القوات المسلحة لأي دولة ثالثة، وجاء هذا البيان ردًا على سلسلة من التقارير الإيرانية باستخدام مطارات باكو كنقطة إطلاق للطائرات الإسرائيلية بدون طيار، ومساعدة الطائرات الإسرائيلية في التزود بالوقود، وأن الأقلية الأذرية في إيران تُجنّدها إسرائيل عملاء ضد الجمهورية الإسلامية.
ووجهت أذربيجان رسالة عن طريق قنوات مُختلفة إلى الجانب الإسرائيلي، لعدم قصف المناطق المدنية في إيران التي يسكنها الأقلية الأذرية، وتجنب إلحاق الضرر بالبنية التحتية المدنية والمدنيين، وأشارت الرسالة تحديدًا إلى تبريز؛ المركز الثقافي للأذريين في إيران، وبالفعل لم ترد أنباء عن وقوع أي ضربات في المناطق المأهولة بالسكان في تبريز. ومنذ بدء الحرب بين طهران وتل أبيب، أجرى الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف محادثات مع قادة دول مختلفة، لا سيما تركيا، لكن البيانات الرسمية الصادرة عن هذه المحادثات لم تتضمن إدانة مباشرة لإسرائيل.
وفي أرمينيا، أيدت الجهات الرسمية وجماعات المعارضة دعم إيران، ففي 13 يونيو (حزيران) صرّحت وزارة الخارجية الأرمينية بأن الهجوم على إيران كان أحادي الجانب، وأنه يهدد الاستقرار الإقليمي الشامل والسلام العالمي، وأدلى رئيس البرلمان الأرمني آلن سيمونيان بتصريح مماثل، مدينًا الهجوم الإسرائيلي لتحطيمه جهود السلام العالمية والإقليمية، وفي 14 يونيو (حزيران) ذهب الاتحاد الثوري الأرمني، وهو حزب سياسي قومي واشتراكي، إلى أبعد من ذلك، حيث وصف الضربات الإسرائيلية بأنها انتهاك للقانون الدولي.
وعلى عكس المواقف السابقة لأذربيجان وأرمينيا، لم تصدر جورجيا أي إدانة رسمية لأحد طرفي الحرب، وتمسكت بسياسة النأي بالنفس، مع التركيز على استقرار المنطقة، وعدم الانحياز، رغم علاقتها التاريخية مع إسرائيل، وعلاقتها الاقتصادية المتوطدة مع إيران، حيث تخشى أن تصبح ممرًا سريًّا، أو ساحة خلفية لعمليات استخباراتية، سواء من جانب إسرائيل أو إيران، إذ تسعى تبليسي إلى منع استخدام أراضيها ومحاولة جرّها إلى محور غربي في وجه إيران، وشجع جورجيا على تبني هذا الموقف الحذر أنها دولة ذات أغلبية مسيحية أرثوذكسية، وتاريخها لا يتقاطع دينيًّا أو أيديولوجيًّا مع طرفي الحرب، كما لا تُوجد في جورجيا جاليات كبيرة من الإيرانيين أو اليهود تمارس تأثيرًا سياسيًّا ملموسًا؛ لذلك، لا يحمل الشعب الجورجي تحيزًا دينيًّا أو طائفيًّا في هذا الصراع.
في المقابل، كشفت الحرب الإسرائيلية الإيرانية مواقف متضاربة على المستوى الشعبي في جنوب القوقاز، فبينما يُظهر رصد وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي في باكو أنها اتخذت على الفور موقفًا محايدًا، مكتفيةً بالتعبير عن قلقها إزاء عواقب الأعمال العسكرية، اتخذت وسائل الإعلام والأحزاب والمنظمات الأرمنية موقفًا مؤيدًا لإيران بوضوح، فلكثير من الأرمن، يمثل الصراع بين إيران وإسرائيل فرصة لتحقيق أهداف سياسية؛ ولهذا نشروا وضخَّموا الأخبار التي تتداولها وسائل الإعلام الإيرانية وشبكات التواصل الاجتماعي التابعة للحرس الثوري الإسلامي، أما الشارع الجورجي فكان يتابع الحرب عن بُعد؛ لأنه يدرك خطورة أي تورط محتمل لبلاده، لا سيما مع موقع جورجيا الحساس بين الشرق الأوسط وروسيا، فهناك قلق شعبي من استغلال الأراضي الجورجية لتكون مسارًا خلفيًّا لأنشطة استخباراتية أو لوجستية، سواء من الجانب الإسرائيلي أو الإيراني.
تُعد أذربيجان الدولة الأكثر تورطًا ضمنيًّا في الصراع الراهن، بالنظر إلى تحالفها العميق مع إسرائيل، الذي يشمل تعاونًا في مجالات الدفاع والاستخبارات والطاقة، وقد زودت باكو تل أبيب بالنفط من خلال خط أنابيب باكو- تبليسي- جيهان، في مقابل حصولها على منظومات تسليحية متطورة تُستخدم في صراعها التاريخي مع أرمينيا، لكن هذا التحالف بين باكو وتل أبيب يضع أذربيجان في مواجهة مباشرة مع إيران، التي تتهمها بتوفير تسهيلات لوجستية وأمنية لإسرائيل بالقرب من حدودها الشمالية، وتزداد التوترات في ظل التوتر الإثني داخل إيران، حيث تقطن أقلية أذرية كبيرة تنظر إليها طهران بريبة، وتخشى من أي محاولات لاستقطابها من جانب النظام الأذربيجاني؛ ومن ثم رأت الحكومة الأذرية في حرب الـ12 يومًا بين إسرائيل وإيران فرصة لتعزيز شراكتها مع الغرب، لكنها تدرك في المقابل خطورة الانخراط المباشر على زعزعة الاستقرار على حدودها الجنوبية.
بخلاف أذربيجان، تحتفظ أرمينيا بعلاقات وثيقة مع إيران رغم اشتراكها مع طهران في حدود قصيرة بطول 44 كيلومترًا، وهي علاقة تُفسر في سياق الحصار الجغرافي الذي تعانيه أرمينيا، واعتمادها على إيران بوصفها منفذًا حيويًّا للتجارة والطاقة، كما ترى يريفان في طهران حليفًا إستراتيجيًّا غير معلن في مواجهة النزعة التوسعية الأذرية، لا سيما في منطقة ناغورنو كاراباخ. ومع تزايد التعاون العسكري بين أذربيجان وإسرائيل، تميل أرمينيا إلى دعم الموقف الإيراني وتوظيفه في سياق التوازن الإقليمي، لكنها -في الوقت نفسه- حذرة من التورط العلني؛ لتجنب الضغط الأمريكي والأوروبي؛ ومن ثم تسعى أرمينيا إلى الاستفادة من الحرب في تعميق شراكتها مع إيران، ولكنها تحاول الإبقاء على سياسة خارجية متوازنة تحفظ لها الدعم الروسي، والعلاقات مع الغرب في الوقت نفسه، في حين تتبنى ثالثة دول جنوب القوقاز -جورجيا- نهجًا متوازنًا، قائمًا على الحياد الحذر، فرغم قربها الجغرافي من مناطق التوتر، فإنها تتجنب اتخاذ مواقف حادة؛ بسبب ارتباطها الوثيق بالغرب، وسعيها إلى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، كما تحرص تبليسي على عدم إثارة غضب إيران، التي تمثل شريكًا تجاريًّا مهمًّا، خاصة في مجالات الطاقة والنقل. ورغم علاقاتها المحدودة مع إسرائيل، فإن جورجيا لم تنخرط في أي شكل من أشكال التعاون العسكري أو الاستخباراتي ضمن الصراع؛ لئلا تتحول أراضيها إلى ممر غير مباشر لأي نشاط استخباراتي، أو تتأثر البنية التحتية العابرة للحدود بالصراع.
الدول الثلاث المكونة لإقليم جنوب القوقاز تجد نفسها معرضة لارتدادات حرب ليست طرفًا فيها، واصطفافات دبلوماسية ضاغطة، لا سيما مع تعقّد العلاقات بين أطراف القوقاز وإسرائيل من جهة، وإيران من جهة أخرى، وتظهر أبرز تلك التداعيات فيما يلي:
أما أرمينيا، فرغم التقارب مع إيران، فإن أي ضربات إيرانية مستقبلية للجانب الإسرائيلي عبر المنطقة قد تؤدي إلى زعزعة أمنية في المنطقة الحدودية، واحتمال تنامي عمليات التخريب أو التهريب عبر الحدود، لا سيما في ظل المخاوف من نشاط الجالية الأذربيجانية الإيرانية في مقاطعة سيونيك الواقعة على الحدود مع إيران. ورغم صغر حجم الجالية، فإن هناك ديناميكيات راسخة تتعلق بالسكان الأذربيجانيين في المنطقة، وفي سياق تلك المخاوف تخشى جورجيا من تمدد الصراع، أو تسلل عناصر استخباراتية إلى أراضيها؛ ما يسفر عن خطر وقوع أعمال تخريبية للبنى التحتية الحيوية، خاصةً أنابيب الطاقة التي تمر من بحر قزوين إلى تركيا وأوروبا.
محصلة القول هي أن الحرب الإسرائيلية الإيرانية كشفت عن هشاشة التوازنات الإقليمية في جنوب القوقاز، حيث تتقاطع التحالفات العسكرية، والاعتبارات الأمنية، والمصالح الاقتصادية في سياق معقد، وبينما تنجذب أذربيجان نحو المحور الإسرائيلي الغربي، تميل أرمينيا إلى إيران بوصفها عمقًا إستراتيجيًّا مضادًّا، فيما تسعى جورجيا إلى تجنب الانجرار خلف أي تحالفات إقليمية. ورغم انتهاء الحرب -رسميًّا على الأقل- والوصول إلى اتفاق أمريكي لوقف إطلاق النار، ستواجه هذه الدول تحديات متزايدة، تتعلق بأمن الحدود، واستقرار الأنظمة، والخيارات الدبلوماسية، في ظل نظام دولي يميل إلى تعددية الأقطاب، وتكثيف الصراعات الهجينة.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير