تقدير موقف

تقدير موقف وأربعة سيناريوهات

الحرب على غزة.. تشويش طارئ على العلاقات الإسرائيلية مع آسيا الوسطى


  • 30 نوفمبر 2023

شارك الموضوع

شكلت المجازر التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي خلال نحو 50 يومًا من الحرب على قطاع غزة تحديًا كبيرًا للعلاقات الإسرائيلية مع دول آسيا الوسطى، ليس فقط لأن غالبية سكان هذه الدول يدينون بالإسلام، ومرتبطون وجدانيًّا وثقافيًّا بالقدس، والأقصى، والقضية الفلسطينية؛ بل أيضًا لشعور شعوب هذه المنطقة بأن مواقف حكوماتهم كانت أقل من حجم المأساة التي تعرض لها الشعب الفلسطيني. ومنذ الأيام الأولى للصراع، عبرت بيانات وزارات الخارجية في دول أسيا الوسطى عن إدانة السلوك الإسرائيلي، والقلق من تمدد الصراع وتوسعه. وبعيدًا عن وسائل الإعلام الرسمية، ضجت وسائل التواصل الاجتماعي في كازاخستان، وطاجكستان، وأوزبكستان، وقرغيزستان، وتركمانستان، ضد العدوان الإسرائيلي على شعب غزة، والضفة الغربية، والقدس الشرقية.

ورغم هذا الغضب من آلة الحرب الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني، لم تتخذ أي دولة من دول أسيا الوسطى حتى الآن أي قرار جديد يتعلق بحجم وشكل العلاقة والشراكة القائمة مع إسرائيل، سواء في الجوانب الاقتصادية، أو الأمنية، كما أن الدول التي لها علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، مثل كازاخستان، وأوزبكستان، وقرغيزستان، لم تُقدم على أي خطوة دبلوماسية عقابية ضد إسرائيل، مثل استدعاء السفير، أو تخفيض التمثيل الدبلوماسي مع تل أبيب.

ونظرًا إلى أن فصول الحرب لم تنته بعد، ولم تتضح صورة العلاقة بين الإسرائيليين والفلسطينيين، فإن كل السيناريوهات مفتوحة، خاصة إذا استأنفت إسرائيل الحرب على جنوب قطاع غزة، سواء عقب الهدنة الحالية، أو أي هدن مستقبلية، فما العوامل التي لا تزال تحكم العلاقة بين إسرائيل ودول آسيا الوسطى؟ ومتى تتخذ هذه الدول قرارات مثل قطع العلاقات، أو وقف التعاون مع تلك أبيب؟ وهل مواقف هذه الدول من إسرائيل في تلك الحرب تخضع فقط للحسابات الوطنية أم أن هناك حسابات لهذه الدول مع أطراف إقليمية ودولية أخرى، مثل تركيا، وإيران، والولايات المتحدة، وروسيا؟

دبلوماسية الأطراف

منذ الحكومة الأولى في إسرائيل في عهد بن غوريون، تبنت إسرائيل سياسة تقوم على بناء شراكات وتعاون وثيق مع الدول البعيدة التي يمكن أن يكون لها تأثير مباشر في المنطقة العربية، والشرق الأوسط، وأطلقت على هذه الإستراتيجية “دبلوماسية الأطراف”. وإدراكًا من إسرائيل بأنها لن تستطيع بناء علاقات قريبة مع الدول العربية والإسلامية المجاورة، بدأت بالبحث عن مسارات لبناء علاقات وطيدة مع الدول البعيدة، ومنها دول آسيا الوسطي، لكن وقوع دول آسيا الوسطى تحت قبضة الاتحاد السوفيتي السابق، وانضمام إسرائيل إلى المعسكر الغربي المناهض للاتحاد السوفيتي خلال الحرب الباردة، أضعف من نفاذ إسرائيل إلى العقل السياسي والأمني لدول آسيا الوسطى، وكانت ورقة إسرائيل في الدخول إلى هذه الدول، منذ نشأتها في مايو (أيار) 1948 حتى نهاية الثمانينيات، هي “الجاليات اليهودية” في تلك الجمهوريات، لكن بعد تفكك الاتحاد السوفيتي السابق في 25 ديسمبر (كانون الأول) 1991، وجدت إسرائيل نفسها أمام فرصة غير مسبوقة  للدخول الى هذه الدول الشاسعة، التي تقع على أبواب غريمتها الإقليمية إيران، كما أن كسب إسرائيل لهذه الدول منح تل أبيب مزايا نسبية في التعامل مع 3 قوى أخرى في المنطقة؛ هي روسيا، والصين، وتركيا، وراهنت إسرائيل على 8 مسارات لتحقيق أهدافها، وهي:

 أولًا: المسار الأمني

راهنت إسرائيل منذ البداية في علاقاتها مع دول آسيا الوسطى على التعاون الأمني والاستخباراتي والعسكري، وخلال شهر سبتمبر (أيلول) من عام 2022، استقبلت إسرائيل وفدين من دول آسيا الوسطى، أحدهما من تركمانستان، زار القيادة الجنوبية للجيش الإسرائيلي التي تشرف على قطاع غزة، كما زار المسجد الأقصى، وكان موضوع الزيارة هو التعاون الأمني في مجالات مكافحة الجريمة والتنظيمات الإرهابية. أما الوفد الثاني فكان من أوزبكستان، التي شكلت علاقاتها الأمنية مع إسرائيل حجز الزاوية في العلاقة بين البلدين خاصة في ظل الوضع الأمني الصعب على الحدود الأوزبكية مع أفغانستان، كما زادت الحرب الأهلية في طاجكستان عام 1992 من حاجة طاجكستان إلى التعاون الأمني مع إسرائيل، ودرّبت تل أبيب العناصر الأمنية والقتالية في هذه الدول على مواجهة التنظيمات الإرهابية، مثل تنظيم خراسان، هذه الحجة الأمنية هي التي دفعت الرئيس الأوزبكي السابق إسلام كريموف إلى زيارة إسرائيل مرتين؛ الأولى عام 1988، والثانية بعد استقلال بلاده عام 1992. وللأسباب الأمنية نفسها، وللخوف من تغول الجماعات الإرهابية في دول آسيا الوسطى، زار نور سلطان نزارباييف، الرئيس السابق لكازاخستان، إسرائيل في فبراير (شباط) 1993، وتم الاتفاق على إقامة علاقات وثيقة بين الدولتين. وفي عام 1999، أُعلنت “توءمة” بين بلديتي تل أبيب ونور سلطان، وبين مدينة أشدود ومنطقة “مانجستو” الكازاخية، بالإضافة إلى زيارة رئيس قرغيزستان الأسبق، عسكر أكايف، إسرائيل لافتتاح سفارة بلاده في يناير (كانون الثاني) 1993 بعد أن افتتحت إسرائيل سفارتها في بشكيك عام 1992، كما سبق لشمعون بيريز، الرئيس الإسرائيلي السابق، أن حضر قمة لدول آسيا الوسطى في كازاخستان عام 2006.

ثانيًا: المسار العسكري

منذ حصول دول آسيا الوسطى على استقلالها بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، بدأت علاقات عسكرية مباشرة مع إسرائيل، خاصة في الجوانب التدريبية والفنية، وصيانة المعدات العسكرية السوفيتية، التي أصبحت قديمة بمرور الوقت، وكان دائما هناك تعاون عسكري من نوع خاص مع إسرائيل من جانب، وكازاخستان وأوزبكستان من جانب آخر، خاصة في مجال صيانة الطائرات السوفيتية، ومعدات الدفاع الجوي، والذخيرة الموجهة، بالإضافة إلى إعادة تأهيل الدبابات، وكانت إسرائيل في مقدمة الدول التي تعقد صفقات لتحديث الدبابات وتجديدها مع دول آسيا الوسطى اعتمادًا على نجاح إسرائيل في هذا الأمر من قبل مع تركيا، التي لها نفوذ كبير في الدول الناطقة بالتركية في آسيا الوسطى.

 ثالثًا: مراقبة النشاط الإيراني

أكثر الأهداف التي تقف وراء الإصرار الإسرائيلي على تعميق الشراكة مع دول آسيا الوسطى هو مراقبة النشاط الإيراني ومتابعته، خاصة لدى الدول التي لها حدود مع إيران، وتنظر إسرائيل إلى هذه المهمة على أنها الأهم لها في آسيا الوسطى، بعد أن ادعت إسرائيل كثيرًا أن مواطنيها وشركاتها واستثماراتها في تلك الدول تتعرض لتهديدات إيرانية. كما ذكرت كثير من التقارير الدولية أن إسرائيل تتجسس على إيران من خلال مواقع قد تكون معروفة أو غير معروفة لدول آسيا الوسطى. كما أن إسرائيل ترى في علاقاتها مع دول آسيا الوسطى التي تنتج اليورانيوم، مثل كازاخستان، أهمية خاصة؛ حتى لا يصل اليورانيوم إلى إيران، التي تدعي إسرائيل أنها باتت على أبواب صناعة القنبلة النووية.

 رابعًا: البعثات الدبلوماسية

كانت إسرائيل من أوائل الدول التي افتتحت لها سفارات في كل من كازاخستان وأوزبكستان، وبادلت دول آسيا الوسطى إسرائيل الاهتمام نفسه، وكان الهدف الإسرائيلي هو تخفيف حدة المواقف الإسلامية ضد إسرائيل؛ من خلال تدخل دول آسيا الوسطى الإسلامية لدعم إسرائيل، وحققت إسرائيل جزءًا من هذه الأهداف، خاصة في قمة دول التعاون الإسلامي التي استضافها كازاخستان عام 2011، والتي استضافت لأول مرة مندوبين إسرائيليين في جلسة عن الاقتصاد، ورفضت كازاخستان آنذاك ضغوطًا من إيران لقطع علاقاتها مع إسرائيل، واستفادت إسرائيل دبلوماسيًّا أيضًا عندما امتنع ممثلو دول آسيا الوسطي عن التصويت على “تقرير جولدستون”، وهو تقرير صادر عن المجلس العالمي لحقوق الإنسان، وصف جرائم إسرائيل في قطاع غزة عام 2008 بأنها جرائم حرب.

 خامسًا: المصالح الاقتصادية

 كانت إسرائيل ولا تزال تقدم نفسها لدول آسيا الوسطى بوصفها دولة متقدمة اقتصاديًّا، ولديها تكنولوجيا فائقة التطور، وهو ما جذب دول آسيا الوسطى منذ وقت مبكر إلى إسرائيل، وعقد أول اجتماع اقتصادي بين إسرائيل ودول آسيا الوسطى في طشقند عام 1992، وفي هذا المؤتمر قدمت إسرائيل مساعدات اقتصادية ضخمة لهذه الدول، وركزت على قطاعات حيوية، منها قطاعات الري، والزراعة، والطاقة، والبنوك، وعدم الازدواج الضريبي؛ ولذلك وافقت أوزبكستان- بداية من عام 2018- على دخول الإسرائيليين للبلاد بدون تأشيرة.

والمؤكد أن إسرائيل لا تقدم تلك المساعدات مجانًا لدول آسيا الوسطى؛ بل تحصل على مصالح إستراتيجية، منها حصول إسرائيل على كل ما تريده من اليورانيوم والنفط من تلك الدول. وفي عام 2002، نجحت تل أبيب، من خلال شركة “سابيتون ليمتد”، في الاستحواذ على شركة “تسيليفا للتعدين والكيمياء” الكازاخية.

 ليس هذا فقط؛ بل استحوذت إسرائيل أيضًا على مناجم اليورانيوم التابعة لهذه الشركة، وهو ما يؤمن احتياجات البرنامج النووي الإسرائيلي السلمي والعسكري من اليورانيوم الخام لعشرات السنوات المقبلة. كما تدرك إسرائيل القيمة الاقتصادية لدول آسيا الوسطى، حيث تحظى دولة، مثل كازاخستان، باحتياطي نفطي يصل إلى 10 مليارات برميل من النفط، ونحو تريليوني قدم من الغاز، كما تمتلك أوزبكستان  سادس أكبر احتياطي من الغاز في العالم، وكثيرًا ما كانت إسرائيل تحلم بنقل الغاز من آسيا الوسطى إلى تركيا، ومن تركيا إلى ميناء عسقلان، أو ميناء أشدود الإسرائيلي.

 سادسًا: الأبعاد الثقافية

 تعتقد إسرائيل أن الجاليات اليهودية التي نزحت إلى إسرائيل بعد تفكك الاتحاد السوفيتي السابق يمكنها أن تكون جسرًا للعلاقات الإسرائيلية مع دول آسيا الوسطى، لا سيما أن غالبية هؤلاء مرتبطون جدًّا بالدول التي جاءوا منها، خاصة أوزباكستان، وشكّل اليهود في جمهوريات آسيا الوسطى نحو 15 % من إجمالي عدد اليهود في كل جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، وهو ما يشكل رافعة قوية ودائمة في العلاقة بين الطرفين.

 سابعًا: النموذج التركي

المعروف أن هناك علاقات إستراتيجية بين تركيا وإسرائيل، خاصة في المجالات الاقتصادية والعسكرية، وترى دول آسيا الوسطى في العلاقات التركية الإسرائيلية نموذجًا لمستقبل علاقاتها مع تل أبيب. ومع تعاظم العلاقات الإستراتيجية التركية الإسرائيلية، خاصة في مجال الصناعات العسكرية، والتدريبات المشتركة،  والبعثات العسكرية الإسرائيلية الدائمة في تركيا، تأمل دول آسيا الوسطى أن تعمق علاقاتها مع إسرائيل، للوصول إلى النموذج التركي في التعاون مع إسرائيل.

 ثامنًا: الحافز الأمريكي

كل يوم منذ انهيار الاتحاد السوفيتي هو شاهد على اقتراب دول آسيا الوسطى من الولايات المتحدة الأمريكية، وتصب هذه العلاقات مع واشنطن في صالح تعميق العلاقات بين دول آسيا الوسطى وإسرائيل، وهي دول تعتقد أن تعميق علاقاتها مع إسرائيل يقربها أكثر من الولايات المتحدة.

أربعة سيناريوهات

في ظلال المسارات الثمانية السابقة، والمصالح المتشابكة، يمكن رسم أربعة سيناريوهات رئيسة للعلاقات الإسرائيلية مع دول آسيا الوسطى؛ وهي:

 السيناريو الأول: الإدانة فقط

ويعني أن دول آسيا الوسطى ليست مستعدة لاتخاذ أي خطوات ضد إسرائيل أكثر من إدانة قتل المدنيين في غزة. وحتى وقت كتابة هذا التقدير، لا يبدو في الخطاب الرسمي لدول آسيا الوسطى أكثر من ذلك، والدافع إلى البقاء في مساحة هذا السيناريو هو المصالح المشتركة بين الطرفين، ومراعاة العلاقة الثلاثية الأمريكية الإسرائيلية مع هذا الدول.

 الثاني: السيناريو التركي

ويقوم على (تسخين) الخطاب السياسي والإعلامي من دول آسيا الوسطى ضد إسرائيل، هذا في العلن، لكن خلف الكواليس والأبواب المغلقة، تظل المصالح والاتفاقيات كما هي دون أي تغيير، كما تفعل تركيا تمامًا، التي رفض وزير خارجيتها هاكان فيدان قطع العلاقات الدبلوماسية مع تل أبيب إلا بعد أن تقطع كل دول العالم علاقاتها مع إسرائيل، وهذا السيناريو يفيد الأنظمة الحاكمة في دول آسيا الوسطى؛ حتى لا تزايد عليها التنظيمات الإرهابية، والمجموعات المتشددة، بأنها لم تنتصر لسكان غزة، وشهداء الأقصى.

 السيناريو الثالث: الخطوات المحدودة

ويمكن أن يحدث هذه السيناريو حال استئناف إسرائيل الضربات ضد جنوب قطاع غزة؛ ومن ثم تهجير الآلاف من سكان القطاع، وسقوط مزيد من الشهداء، كل هذا قد يدفع دول آسيا الوسطى إلى اتخاذ خطوات محدودة؛ على غرار وقف دخول الإسرائيليين بدون تأشيرات مؤقتًا، وسيكون الهدف هو إظهار موقف الحكومات على أنه موقف متقدم في ظل الانتقادات الشعبية لضعف رد الفعل الحكومي في دول آسيا الوسطى، ويمكن اللجوء إلى هذا السيناريو أيضًا حتى لا تستفيد المجموعات المسلحة والإرهابية في آسيا الوسطى من حشد الأنصار،  وجمع التبرعات، وكسب حاضنة سياسية جديدة على حساب حكومات تلك الدول.

 السيناريو الرابع: قطع العلاقات

وهو سيناريو مستبعد تمامًا حتى الآن، ويمكن أن يحدث فقط إذا وصل الأمر إلى تفريغ القطاع  من كل سكانه، وطالت الحرب على جنوب غزة، وقتل أعداد تتجاوز 100 ألف، وقطعت كل الدول العربية والإسلامية، وفي المقدمة منها تركيا، علاقاتها مع إسرائيل؛ حينئذٍ يمكن لدول آسيا الوسطى أن تُقدم على هذا السيناريو.

 التقدير

تتعرض دول آسيا الوسطى وحكوماتها لضغوط شديدة خلال وسائل التواصل الاجتماعي لاتخاذ خطوات أكثر ضد إسرائيل، كما تخشى هذه الدول استغلال الجماعات الإرهابية والمتطرفة لهذه الأحداث لتحسين مواقعها، وتعزيز تموضعها في المشهد السياسي لهذه الدول، لكن تظل المصالح الكبيرة مع تل أبيب، والنموذج التركي، والعلاقة مع واشنطن، كوابح تمنع هذه الدول من اتخاذ أي خطوة أخرى أكثر من التنديد بما يجري في قطاع غزة؛ وعلى هذا، لا يمكن توقع تغيير كبير أو إستراتيجي في العلاقات الإسرائيلية مع دول آسيا الوسطى.

 

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع