أبحاث ودراساتالدفاع والأمن

الجيش الباكستاني بين عوامل اضطراب الدولة واستقرارها


  • 17 يوليو 2024

شارك الموضوع

في السنوات الأخيرة، عانت باكستان علاقات إقليمية متوترة، وتداعيات التنافس المتزايد بين الولايات المتحدة والصين. وفي خضم الاضطرابات السياسية الداخلية والاقتصاد المتدهور، اعتمدت الحكومة المدنية على الجيش من أجل الاستقرار، وعكست انتخابات عام 2024 دور الجيش الباكستاني في العملية السياسية المحلية. فقد هُمِّش رئيس الوزراء السابق نواز شريف لصالح شقيقه شهباز شريف، وهو أيضًا رئيس وزراء سابق، وزعيم حزب الرابطة الإسلامية الباكستانية، ليتماشى إستراتيجيًّا مع مصالح الجيش؛ نظرًا إلى تاريخ حزب الرابطة الإسلامية الباكستانية في تحدي السلطة العسكرية أكثر من حركة إنصاف الباكستانية بقيادة عُمران خان.

ومن خلال تحقيق التوازن بين خان- وشريف تكتيكيًّا، وتوزيع الحكومات الإقليمية بين الأحزاب التي تبدو مواتية لرؤية الجيش، سوف تحافظ المؤسسة العسكرية فعليًّا على قبضتها على الحياة السياسية، مع الحفاظ على واجهة التمثيل الديمقراطي. ويؤكد هذا التلاعب الدقيق مهارة المؤسسة العسكرية في التعامل مع تعقيدات السياسة الباكستانية، وضمان استمرار نفوذها داخل الإطار الديمقراطي؛ ما يُلقي الضوء على التأثير السياسي الدائم والمهم للجيش في باكستان، ويدفع إلى ضرورة تقييم العوامل التاريخية والاجتماعية والجيوسياسية التي أسهمت في الدور الذي تضطلع به القوات المسلحة في هيكل الحكم في البلاد.

نظريات حضور الجيش الباكستاني في الحياة السياسية

يضطلع جيش باكستان القوي بدور مهم في تشكيل ديناميكيات الدولة السياسية، وحاولت بعض النظريات، مثل نظرية التحديث، ونظرية التبعية، تفسير الافتقار إلى التنمية الاجتماعية والاقتصادية، وصعود الاستبداد في البلدان في جميع أنحاء العالم، حيث تشير نظرية التحديث إلى أن صراع باكستان مع التنمية مرتبط بالقيم التقليدية الراسخة، ومقاومة التغيير، والمستوى التعليمي غير الكافي، في حين تتوقع النظرية انتقالًا نحو الديمقراطية مع تحديث المجتمع، فقد شهدت باكستان حكمًا عسكريًّا؛ مما يشير إلى انحرافات عن المسار الديمقراطي.

من ناحية أخرى، تشير نظرية التبعية إلى أن تخلف باكستان يُعزى إلى اعتمادها على دول أكثر قوة اقتصاديًّا. لا سيما أن إسلام آباد سعت- على نحو متكرر- إلى الحصول على مساعدات أجنبية، وخاصة في أوقات الأزمات الاقتصادية؛ مما أدى إلى الاعتماد على الجهات الفاعلة الخارجية. وقد أدى هذا الاعتماد الخارجي إلى اختلال التوازن في علاقات القوة؛ مما قلَّص استقلالية باكستان في تشكيل السياسات الاقتصادية المستقلة. وفي استجابة للضغوط الخارجية، وخاصة التحديات الاقتصادية التي تفاقمت بسبب الاعتماد على الخارج، شهدت باكستان تدخلات عسكرية مبررة بوصفها تدابير للحفاظ على السيطرة والاستقرار، حيث أدت الحاجة إلى الاستقرار في مواجهة التحديات الاقتصادية- في بعض الأحيان- إلى تأكيد السيطرة الاستبدادية في باكستان.

كما يضفي استخدام الدعاية التي ترعاها الدولة الشرعية على دور القوات المسلحة بوصفها المدافع الوحيد عن البلاد وأيديولوجيتها وشعبها. باكستان، مثلها مثل كثير من البلدان الأخرى في مرحلة ما بعد الاستعمار، لديها مجتمع متخلف ودولة متطورة جدًّا؛ ومن ثم، فإن هذا يعوق فعالية العمليات الديمقراطية، بما في ذلك الأحزاب السياسية، والانتخابات وصنع الدستور، لكن الظروف البنيوية وحدها، مثل القوة البيروقراطية، والسلطة المركزية، ليست هي العوامل الوحيدة الدافعة إلى استمرار الاعتماد على دور الجيش؛ ذلك أن الشرعية الشعبية للقوات المسلحة تتشكل- إلى حد كبير- من خلال تصويرها على أنها منقذة وحارسة للأمة، من خلال سرد يمنحها الدعم الشعبي، والثقة اللازمة لتأكيد هيمنتها السياسية.

في عصر ما بعد الاستعمار، اضطلعت العلاقة المعقدة بين المؤسسات العسكرية والحكم السياسي بدور محوري في تشكيل مسارات الدول المستقلة حديثًا؛ لذا لا يعكس النفوذ الكبير الذي يمارسه الجيش (الباكستاني هنا) داخل المجال السياسي إرثًا تاريخيًّا موروثًا من العصر الاستعماري فحسب؛ بل إنه يجسد أيضًا التحديات والتطلعات المتطورة لأمة مستقلة، تسعى جاهدة إلى ترسيخ هويتها واستقرارها. إن هذا الإرث الاستعماري يشكل سمة بارزة من سمات “الثقافة الإستراتيجية” التي تعني المعتقدات، والمعايير، والقيم، والتجارب التاريخية لنخبة حاكمة داخل كيان سياسي، والتي تشكل تفسيرها للقضايا الأمنية، وتوجه الاستجابات السياسية، من خلال توفير إطار إدراكي يراقب من خلاله صناع السياسات ديناميكيات الأمن الخارجية، ويقررون بشأنها.

وقد تشكلت “الثقافة الإستراتيجية” لقادة الأمن الباكستانيين من خلال عوامل، مثل التجارب التاريخية خلال السنوات الأولى من الاستقلال، وتقييمهم للبيئة الأمنية الإقليمية، وإدراكهم للتهديدات، وقد شكّل هذا نظرتهم إلى العالم، وتفسيرهم للتطورات السياسية والعسكرية، وإدراكهم للخصوم، وخياراتهم السياسية. وعلى هذا النحو، يمكن تلخيص الثقافة الإستراتيجية الباكستانية على النحو التالي:

  • انعدام الأمن الحاد الذي نشأ في السنوات الأولى من الاستقلال؛ بسبب العلاقات المضطربة مع الهند، والمشكلات مع أفغانستان.
  • انعدام الثقة الشديد بالهند، وتاريخ من العلاقات الهندية الباكستانية المريرة التي تعززها الروايات التاريخية لفترة ما قبل الاستقلال، والتفاعل المضطرب في فترة ما بعد الاستقلال.
  • النفور من ترتيب القوة الإقليمية التي تهيمن عليها الهند في جنوب آسيا.
  • البحث النشط عن الأمن للحفاظ على استقلال باكستان في اتخاذ القرار بشأن خيارات السياسة الخارجية والسياسات الداخلية.
  • العلاقة الوثيقة بين الإسلام والتفكير الإستراتيجي؛ مما يؤدي إلى وجود روابط بين التشدد الإسلامي والسياسة الداخلية والخارجية.

العقيدة الإسلامية مكون للعقيدة العسكرية الباكستانية

لقد تزايدت المحافظة الإسلامية داخل المؤسسة العسكرية الباكستانية منذ سبعينيات القرن العشرين، بالتزامن مع ارتفاع تمثيل الضباط المنحدرين من الطبقة الوسطى الدنيا، الذين يتمتع كثير منهم بانتماءات دينية محافظة قوية، واكتسبت المحافظة الإسلامية مزيدًا من الزخم في الثمانينيات خلال حكم الجنرال ضياء الحق (1977- 1988)، وكانت هناك زيادة ملحوظة في التركيز على الإسلام داخل المؤسسة العسكرية. وفي مواجهة أزمة الشرعية، استشهد النظام العسكري لضياء بالمذاهب الإسلامية الراديكالية، وحشد الجماعات الإسلامية لبناء الدعم لحكمه. وأيد نظام ضياء الحق وشجّع التعبير العلني عن القناعات الدينية داخل الجيش، وسمح لبعض الجماعات الدينية بتأسيس وجود داخل المؤسسة العسكرية.

تؤكد المؤسسة العسكرية الباكستانية دمج المبادئ الإسلامية مع التسلسل الهرمي، والانضباط، والشعور بالفخر بالخدمة، بوصفها المبادئ الأساسية لبنيتها التنظيمية. وتتضمن برامج التعليم والتدريب العسكري التعاليم الإسلامية، والتاريخ (وخاصة المعارك الإسلامية المهمة)، والقادة المسلمين البارزين. ويتم تأكيد المفاهيم الإسلامية الرئيسة، مثل الشهادة، والجهاد في سبيل الله، على أنها مصادر رئيسة للإلهام للجيش الباكستاني في وقت السلم والحرب. ونظرًا إلى الارتباط الوثيق بين الإسلام وتأسيس باكستان، فإن دفاعها، وخاصة فيما يتعلق بالهند، يصوره القادة المدنيون والعسكريون على أنه حماية للإسلام نفسه. واستُدعِيَت هذه المفاهيم والرموز الإسلامية- على نحو متكرر- خلال حرب عامي 1965 و1971؛ لحشد الأفراد العسكريين والدعم الشعبي لجهود الحرب.

بالإضافة إلى ذلك، أدّى الصراع الأفغاني (1979- 1989) دورًا محوريًّا في تعزيز المحافظة الإسلامية بين أفراد الجيش الباكستاني، وتعاون كثير منهم- بنشاط- مع الأحزاب الإسلامية، وفصائل المقاومة الأفغانية المنخرطة في القتال ضد القوات السوفيتية في أفغانستان. ويعتقد عدد كبير من أفراد الجيش الباكستاني، وخاصة أولئك التابعين لجهاز الاستخبارات الداخلية (ISI)، أن الدروس المستفادة من التجربة الأفغانية يمكن تطبيقها في سياقات أخرى، ورأوا فيها وسيلة محتملة لمواجهة هيمنة غير المسلمين على السكان المسلمين، لا سيما في الصراع مع الهند بشأن كشمير ذات الأغلبية المسلمة.

رؤية الجيش لدروه في الدولة

لقد أثرت الثقافة الإستراتيجية الباكستانية كثيرًا في خياراتها في مجال الأمن والسياسة الخارجية. وتشمل الجوانب الرئيسة لهذه الثقافة الإستراتيجية الدعوة إلى بنية قوة تعددية في جنوب آسيا، وتأكيد المخاوف الأمنية الخارجية، وتطوير القدرات العسكرية لردع الخصوم المحتملين، وتخصيص جزء كبير من الموارد للدفاع، وشراء الأسلحة من مصادر أجنبية، واستخدام الدبلوماسية وبناء التحالفات، وخاصة مع الولايات المتحدة؛ لتعزيز مكانتها الإقليمية. بالإضافة إلى ذلك، اتبعت باكستان إستراتيجيات مثل إعلان وضعها النووي علنًا؛ ردًا على التجارب النووية الهندية، والاستفادة من الجماعات الإسلامية المسلحة لتعزيز أهداف سياستها الخارجية.

ومع ذلك، فإن القرارات الإستراتيجية الباكستانية لا تحركها ثقافتها الإستراتيجية وحدها؛ إذ تؤدي عوامل مثل الواقعية، والاحترافية، والضرورات التنظيمية، دورًا أيضًا،؛ والواقع أن الواقعية والضرورات التنظيمية أثرت في وجهات نظر الجيش الباكستاني وقراراته في مناسبات كثيرة. في بعض الأحيان، قد يتعارض أحد العوامل مع الآخر؛ مما يدفع صناع السياسات إلى اتخاذ خيارات صعبة، مثل الطريقة التي تعاملت بها باكستان مع الجماعات الإسلامية المسلحة بعد الهجمات الإرهابية التي شنتها ضد الولايات المتحدة عام 2001.

ومع أن باكستان كانت تستخدم هذه الجماعات الإسلامية تاريخيًّا لتحقيق أهدافها الإستراتيجية، فإن الضغوط العالمية، وخاصة فيما يتصل بجهود مكافحة الإرهاب، أجبرتها على اتخاذ خيارات صعبة. على سبيل المثال، كانت إعادة مشاركة الولايات المتحدة بعد هجمات عام 2001 متوافقة- بطريقة ما- مع العلاقة الإستراتيجية المتطورة للبلاد مع جنوب آسيا وقضية الديمقراطية في العالم الإسلامي. ومع ذلك، فقد اصطدمت بمصلحة باكستان في تفضيل بعض الجماعات الإرهابية ذات العلاقات الوثيقة بجيشها، وهذا يسلط الضوء على الصراع بين طرقها الراسخة في التعامل مع المسائل الأمنية والحاجة إلى التوافق مع التوقعات الدولية في المشهد المتغير بعد عام 2001.

تتمتع باكستان بثقافة سياسية هجينة؛ فقد اضطلع الجيش بدور بارز في تشكيل التطورات السياسية، إذ تولى- في بعض الأحيان- السيطرة المباشرة على الحكومة، وفي أحيان أخرى مارس نفوذه خلف الكواليس، ويتجلى هذا التهجين في إضفاء الطابع المؤسسي على النفوذ العسكري من خلال مجلس الأمن القومي، حيث يسهم كل من القادة المدنيين والعسكريين في اتخاذ القرارات بشأن سياسات الأمن القومي الحاسمة. بالإضافة إلى ذلك، اضطلعت وكالات الاستخبارات، وأبرزها وكالة المخابرات الباكستانية، بدور كبير في السياسة الداخلية؛ مما أدى إلى طمس الخطوط الفاصلة بين المجالين المدني والعسكري. على سبيل المثال، قيل إن الجيش تلاعب بالانتخابات العامة لعام 2018، حيث برر الحكام العسكريون تدخلاتهم بسبب قضايا مثل عدم الاستقرار السياسي، والفساد، وسوء الإدارة من جانب الحكومات المدنية.

منذ أواخر الثمانينيات فصاعدًا، خضعت طبيعة الحكم العسكري في باكستان لتحول ملحوظ، مع انتقال المؤسسة العسكرية نحو ممارسة غير مباشرة للنفوذ السياسي، بدلًا من المشاركة المباشرة. والواقع أن المشهد السياسي في باكستان اتسم- منذ فترة طويلة- بالدور البارز الذي تضطلع به المؤسسة العسكرية، حيث يتنافس الساسة المدنيون على الدعم، وينتقدون- في الوقت نفسه- المؤسسة الأمنية المؤثرة، أو يسعون سرًّا للحصول على المساعدة منها، لا سيما أن نفوذ الجيش يمتد عبر المؤسسات الحكومية وشبه الحكومية، فضلًا عن القطاع الخاص، والصناعة، والزراعة، والتعليم، والنقل، ومجالات الاتصالات. وبدلًا من السيطرة المباشرة، يبدو أن الهدف الأساسي للجيش الآن هو حماية مصالحه التجارية وتعزيزها؛ للاستفادة اقتصاديًّا من خلال توسيع نطاق وجوده، إذ يمتلك الجيش الباكستاني (12%) من أراضي البلاد، ثلثاها لكبار الضباط العسكريين.

تكوّن الحضور السياسي للجيش الباكستاني

خلال تقسيم الهند البريطانية، وإنشاء باكستان، كُلِّفت المؤسسة العسكرية بمسؤولية حماية الأمة الناشئة، وضمان الأمن الداخلي؛ ونتيجة لذلك، اكتسبت باكستان طابع “دولة أمنية” بدلًا من “دولة تنمية”؛ مما يعني أن التركيز الأساسي للدولة، وتخصيص الموارد، كان موجهًا- على نحو غير متناسب- إلى الحفاظ على الأمن القومي، ومعالجة التحديات المتعلقة بالأمن، وغالبًا على حساب جوانب أخرى من التنمية الوطنية. والواقع أن باكستان خصصت باستمرار جزءًا كبيرًا من مواردها للجيش، متجاوزة المخصصات لقطاعات مثل الاقتصاد، والتعليم، والرعاية الصحية، والرعاية الاجتماعية.

في أعقاب الاستقلال مباشرة، سعى مؤسس باكستان، محمد علي جناح، إلى الحصول على ملياري دولار من المساعدات العسكرية والمالية من الولايات المتحدة، مع تخصيص (170) مليون دولار للجيش، و(75) مليون دولار أمريكي للقوات الجوية، و(60) مليون دولار للبحرية، و(700) مليون دولار لكل من التنمية الصناعية والزراعية. عام 1950، التقى أول رئيس وزراء باكستاني (علي خان) بالرئيس الأمريكي هاري ترومان لتأكيد “الأهمية الجيوسياسية” لإسلام آباد بالنسبة لواشنطن. كان سعي باكستان إلى الحصول على المساعدة الأمريكية مدفوعًا بالمخاوف بشأن الطموحات السوفيتية المتصورة في منطقة بحر العرب.

وقد تجلى تدخل المؤسسة العسكرية في المشهد السياسي الباكستاني في أشكال مختلفة، منها تنظيم الانقلابات، والإطاحة بالحكومات المدنية، وممارسة السيطرة غير المباشرة على الإدارات الضعيفة. وكثيرًا ما حدثت هذه التدخلات من خلال التعاون مع جهات فاعلة أخرى مؤثرة، منها القضاء، والبيروقراطية المدنية، والسياسيون، والزعماء الدينيون، وعناصر داخل القطاع الخاص. وفي الوقت نفسه، تنازل السياسيون بسهولة عن الأرض للمؤسسة العسكرية؛ بسبب شعبيتها، وقوة تحالفاتها الداخلية والخارجية.

وقد ثبتت مصداقية القوات المسلحة واحترافيتها الفعّالة من خلال عمليات مكافحة الإرهاب الناجحة؛ مما عزز الثقة العامة؛ ومن ثم عزز نفوذها السياسي. وتنعكس المصالح الاقتصادية للجيش في ملكيته للشركات، ومشاركته في مشروعات البنية التحتية. من ناحية أخرى، اضطلع القضاء الباكستاني بدور في تعزيز دور الجيش في الحياة السياسية، حيث منح ثلاثة انقلابات شرعية قانونية، واستبعد عشرات من السياسيين الذين تعارضت رؤاهم السياسية مع القوات المسلحة. وأخيرًا، فإن التموضع الإستراتيجي للجيش، بوصفه شريكًا مفضلًا للقوى الأجنبية، واضح في التحالفات مع الولايات المتحدة، والصين؛ مما يُظهر كيف يسهم الدعم الدولي في مكانة الجيش السياسية.

التفاعلات العسكرية- المدنية في الحياة السياسية الباكستانية

إن الدور القوي الذي تضطلع به المؤسسة العسكرية متجذر في إرثين من سنواتها الأولى؛ أولًا: هناك تصور عسكري سائد بأن المدنيين يفتقرون إلى القدرة على إنشاء حكومة مستدامة وفعّالة، أو إدارة شؤون الدولة على نحو فعّال. وقد أدى هذا التصور إلى هوية ذاتية داخل المؤسسة العسكرية بوصفها المنقذ الوحيد للأمة؛ مما يبرر “عقيدة الضرورة” للتدخل السياسي، وخاصة في مسائل اختيار القيادة، وقضايا الأمن الداخلي أو الخارجي. وقد تبنى الجيش موقف “المساعدة الذاتية”، فخصص مجالات محجوزة له في السياسات العامة، مثل الانخراط في أنشطته التجارية الخاصة، التي تندرج تحت خانة “رأس المال العسكري الذي يستخدم لتحقيق المنفعة الأمنية”، وقد منح هذا الفكر الجيش استقلالية للسيطرة على شؤونه التنظيمية.

ثانيًا: إدراكًا لعدم جدوى حكم البلاد إلى أجل غير مسمى، يهدف الجيش إلى الحفاظ على النفوذ في عملية صنع القرار. إن اختيار القيادة المدنية المنتخبة لمواصلة نظام الحكم، الذي يتألف من البيروقراطية والجيش كركائز أساسية، لم يجر الجيش إلى السياسة فحسب؛ بل أرسى أيضًا الأساس لنظام أشبه بـ”ترويكا” حاكمة تُرتب تقاسم السلطة بين الجنود والمدنيين في السياسة الباكستانية بعد عام 1972. ويؤكد التأثير التراكمي لهذا الإرث مشاركة الجيش المستمرة في السياسة، التي تشكلت بسبب ضعف المؤسسات المدنية.

وقد شهدت الحياة السياسية الباكستانية سلسلة من التحولات بين الأنظمة الديمقراطية والعسكرية أو شبه العسكرية. بعد مرحلة أولية من هيمنة البيروقراطية العسكرية (1947- 1972)، شهدت البلاد تحولًا نحو الديمقراطية. ومع ذلك، يمكن تفسير مرحلة التحول الديمقراطي هذه على أنها استجابة للحكم العسكري، الذي دعم ظهور قادة منتخبين وطنيًّا، وأيضًا أحزاب سياسية (مثل حزب الشعب الباكستاني، أو الأحزاب السياسية الدينية)، لكن يبقى العامل الحاسم الذي يسهم في هذه المفارقة هو عدم قدرة المدنيين (وهم الأفراد غير المنتخبين خلال السنوات الأولى، والمنتخبون لاحقًا) على إضفاء الطابع المؤسسي على السيطرة المدنية على القوات المسلحة، وهذا الواقع يعوق جودة الديمقراطية، مما يؤثر في أبعاد متعددة للحكم الديمقراطي.

ولكن حدث تحول إيجابي مع تبني القوات المسلحة موقفًا محايدًا (اختارته بنفسها) منذ انتخابات عام 2008. ولم يعمل هذا على تعزيز الشعور بالسيطرة المدنية على اختيارات القيادات العسكرية فحسب؛ بل سهّل أيضًا إجراء انتخابات حرة ونزيهة، وبلغت ذروتها في تشكيل أول ائتلاف كبير في باكستان يضم الخصمين المدنيين الرئيسين؛ حزب الشعب الباكستاني، وحزب الرابطة الإسلامية الباكستانية. وأسهم هذا التحول في الفاعلية المؤسسية في الحياة التشريعية في خلق نتائج سياسية جديدة، مثل الرقابة المدنية على الشؤون العسكرية، لا سيما المناقشة بشأن ميزانية الدفاع.

خاتمة: الجيش الباكستاني مستمر في الحياة السياسية

لقد حافظت المؤسسة العسكرية الباكستانية باستمرار على صورة مهنية ومنضبطة منذ نشأة البلاد. ومع مرور الوقت، ومع تعزيز سلطاتها، طورت المؤسسة العسكرية نفورًا من التدخل في الشؤون اليومية وإدارة الحكومة، لكن ضعف المؤسسات السياسية والقيادات في باكستان أدى إلى الاعتماد على الحلول العسكرية لحل النزاعات السياسية؛ فمنذ نشأة البلاد، سعت المؤسسة العسكرية باستمرار إلى إيجاد قادة مدنيين قادرين على الفوز بالانتخابات، وتنفيذ السياسات الداخلية والخارجية في ضوء الوضع الجيوسياسي الصعب للبلاد.

وتؤكد الاعتبارات الجيوسياسية الدور المهم الذي تضطلع به المؤسسة العسكرية في المشهد السياسي الباكستاني؛ ففي منطقة تتسم بالتنافس الدائم، والتحديات الأمنية المستمرة، تكافح باكستان مجموعة معقدة من التهديدات والضرورات الإستراتيجية، ويتعزز دور المؤسسة العسكرية بوصفها حارسًا للأمن القومي باستمرار من خلال هذه الحقائق الجيوسياسية، مما يوفر مبررًا لمشاركتها العميقة في تشكيل قرارات السياسة الخارجية، ووضع إستراتيجيات الأمن. ويؤكد كل من السلطات المدنية والمسؤولين العسكريين أن باكستان شهدت باستمرار حالة الطوارئ منذ نشأتها، ويستشهدون بالعداء الهندي تجاه منطقة كشمير المتنازع عليها، والنزعة الانفصالية الأفغانية، باعتبارها تهديدات كبيرة لسلامة أراضي باكستان.

والآن تواجه باكستان تحديات كبيرة على الصعيدين السياسي والاقتصادي، وهي التحديات التي تفاقمت بسبب وضعها النووي، وعدم الاستقرار الإقليمي. وتزداد احتمالات عدم الاستقرار الداخلي بسبب الحاجة إلى الإصلاحات الاقتصادية العاجلة، بما في ذلك المفاوضات مع صندوق النقد الدولي لإدارة التزاماتها الضخمة بالديون. وسوف يكون استقرار حكومة ملتزمة بالانضباط المالي، والإدارة الاقتصادية القادرة في الوقت المناسب، أمرًا بالغ الأهمية في الحفاظ على الاستقرار الاقتصادي الأخير، وتأمين الدعم الدولي اللازم.

وهذا الوضع المُضطرب لا يُضعف الجيش الباكستاني؛ بل يعزز حضوره، حتى لو لم يسيطر الجنرالات على أذرع السلطة سيطرة مباشرة، لا سيما أن النمو الاقتصادي المبكر في باكستان يعزى إلى أن الحكومة العسكرية الباكستانية أظهرت قدرًا كبيرًا من الكفاءة في الإدارة الاقتصادية، والواقع أن الحضور الشامل للجيش في القطاعين العام والخاص وفر استقرارًا مهمًا للدولة والمجتمع، خاصة أن هناك علاقة بين ضعف الاقتصاد وزيادة احتمال التدخل العسكري، وكثيرًا ما تدفع هذه المعادلة الجيش إلى السعي إلى تحديث النسيج الاجتماعي والاقتصادي للدولة عندما يواجه نخبة حاكمة غير فعّالة، أو فاسدة.

ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع