تتميز روسيا بكثير من الخصائص الجغرافية المتنوعة نتيجة امتدادها الكبير بين قارتي أوروبا وآسيا، ما جعل منها إحدى القوى المؤثرة في خريطة العالم السياسية، ودولة قارية أكثر من كونها بحرية.
ومع أنها تطل على اثني عشر بحرًا وثلاثة محيطات، فإنها دولة شبه حبيسة، فالواجهات البحرية إما متجمدة طوال العام تقريبًا كما في منطقة القطب الشمالي، وإما أن المنافذ تشاركها فيها دول بينهما صراعات سياسية.
The Arctic Region
لذا تسعى روسيا دائمًا إلى الوصول إلى المنافذ والواجهات البحرية التي تخلصها من القيود الجغرافية السياسية التي فرضها عليها موقعها القاري، والقيود السياسية التي تسعى دول أوروبا والولايات المتحدة إلى فرضها عليه، ومن بين المناطق التي تسيطر عليها روسيا بحكم موقعها الجغرافي المطل بواجهات ساحلية عليها منطقة القطب الشمالي، التي تمثل إحدى المناطق الإستراتيجية الروسية الحالية والمستقبلية.
تقع روسيا في أكثر الأجزاء المناخية قسوة في شمال القارة الأوراسية، ويقع في الأراضي الروسية قطب البرودة لنصف الكرة الشمالي؛ ومن ثم فإن أراضي روسيا مفتوحة أمام التيارات الباردة التي يبثها المحيط المتجمد الشمالي، حيث يقع الجزء الأكبر من الأراضي الروسية شمالي دائرة العرض 60 ° شمالًا، وهذا هو النطاق القطبي وشبه القطبي، ويقدر أن نحو 65 % من مساحة روسيا يقع في نطاق التجمد سنوات طويلة، ويعيش في هذه المنطقة نحو 140 مليون من سكان روسيا، فلا يوجد في العالم هذا العدد الضخم من البشر يعيشون في هذه العروض العليا، وإلى الجنوب من خط عرض 50° يقع فقط 5 % من الأراضي الروسية.
تطل روسيا في المحيط المتجمد الشمالي على عدة بحار، هي:
وتعرف هذه البحار باسم البحار الحدية أو الهامشية (على هامش اليابس القاري).
وتنفصل هذه البحار بعضها عن بعض وعن القطب الشمالي من خلال مجموعة من الأرخبيلات، أي مجموعات جزر، في مقدمتها:
وكل البحار هنا واقعة على الرصيف القاري؛ ومن ثم فهي قليلة العمق. والأكثر ضحالة بحر سيبيريا الشرقية بمتوسط عمق (54 م) وبحر تشوكوتشك (71 م).
أما البحار العميقة فيأتي في مقدمتها:
يبلغ إجمالي مساحة بحار المحيط المتجمد الشمالي المتصلة باليابس الروسي نحو 4,5 مليون كم2. وتمتد بحار المحيط المتجمد الشمالي في الأساس فيما بين دائرتي عرض 70 و80 درجة شمالًا. باستثناء البحر الأبيض، الذي يتقاطع مع الدائرة القطبية الشمالية، تقع كل هذه البحار جنوب القطب الشمالي، وتتسم ببيئتها القاسية؛ ومن ثم يؤدي امتلاك روسيا لأكبر ساحل على المحيط المتجمد الشمالي، إلى حيازتها الريادة بشأن النزاعات الجديدة التي نشبت في المنطقة بعد التغيرات المناخية التي شهدتها وكشفت عن كثير من الموارد الاقتصادية، والطرق الجديدة.
يتجلى الطموح الروسي للسيطرة على منطقة القطب الشمالي عند مستويين، اقتصادي وسياسي:
تمتد الحدود الشمالية لروسيا على مسافة أكثر من ثلاثة آلاف ميل على المحيط المتجمد الشمالي، لكنّ بُعدها، وبرودة مناخها، وانخفاض ملوحة الماء، وندرة النباتات والحيوانات والبشر، وكذلك الأعماق الضحلة (معظمها أقل من 50 مترًا)، والضباب الكثيف، خصوصًا في فصل الصيف، هو ما جعل روسيا تعتمد السياسة السوفييتية السابقة، فعمدت إلى إعادة إنشاء شبكة واسعة من الاتصالات والمواقع العسكرية في منطقة القطب الشمالي.
تُعد روسيا من أوائل الدول التي ارتادت المنطقة في وقتٍ مبكر، وذلك في نهاية القرن الثامن عشر، ومنذ ذلك الحين تمثل المنطقة أهمية إستراتيجية، خصوصًا لروسيا؛ وعليه فقد قدّمت عام 2001 طلبًا إلى هيئة الأمم المتحدة لتوسيع مساحة الجرف القطبي بموجب اتفاقية قانون البحار، لكن الطلب رُدّ لعدم كفاية الأدلة.
في القرن الثامن عشر، كان العلماء الروس أول من قام برحلات استكشافية الى القطب الشمالي للكشف عن أسراره، وقد تصاعدت أهميته في القرن العشرين، خاصة بعد اكتشاف النفط والغاز فيه، ليتحول الى منطقة إستراتيجية لا يمكن التفريط فيها من المنظور الروسي.
بعد فترة طويلة من الركود الاجتماعي والاقتصادي، بعد تفكّك الاتحاد السوفيتي، وتحديدًا في عام 2007، رفعت روسيا علمها في إحدى مناطق الدائرة القطبية؛ فزادت على إثر ذلك حدّة التدخّلات العسكريّة في منطقة القطب الشمالي، لتُشعل جدلًا بشأن نطاق سيادة كل بلد من البلدان المطلّة على المحيط، وليبدأ كلّ منها في تعزيز قوّته البحرية في تلك المنطقة، ولا سيما على صعيد القطع البحرية من كاسحات الجليد.
أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في ديسمبر ( كانون الأول) 2013 قرار استصلاح الحدود الشمالية، المتضمن تأهيل البنية التحتية في القطب الشمالي، التي تمتد من مورمانسك في شمال غرب البلاد على الحدود مع النرويج، إلى ماجادان في الشرق، المطلة على المحيط الهادي قبالة شبه جزيرة كمتشتكا.
وتشمل هذه الأراضي قواعد في جزر سيبيريا الجديدة ) أرخبيل أجنو) في بحر لابتيف، ومركزًا كبيرًا للتعدين في فوركوتا Vorkuta (جنوب نوفيا زمليا)، وأرخبيل فرانز جوزيف في المحيط المتجمد الشمالي، فضلًا عن تشكيل وحدات عسكرية دائمة جديدة، مثل القيادة الإستراتيجية المشتركة في القطب الشمالي في مدينة سيفيرومورسك Severomorsk (شبه جزيرة كولا) على حدود روسيا الشمالية الغربية.
وهي تمتد على مسافة تقارب الثلاثة آلاف ميل على المحيط المتجمد الشمالي. وتضم منطقة القطب الشمالي الروسية المناطق الإدارية التالية:
تكمن الأهمية الاقتصادية لمنطقة القطب حاليًا، في أنّها تؤمّن 11 % تقريبًا من الدخل القومي الروسي، وتشكّل ما نسبته 22 % من الصادرات الروسية كلها، ويُستخرج في هذه المنطقة 90 % من النيكل والكوبالت، و60 % من النحاس، و96 % من البلاتين. وقد اكتُشفت في الجرف القاري رواسب قابلة للتصنيع من الذهب والقصدير والألماس، فضلًا عن مرور الطريق البحري الشمالي بصفته أقصر طريق من أوروبا إلى كل من أمريكا وآسيا، وهو يستخدم ضمنيًّا لنقل النفط والغاز الطبيعي من حقولهما.
كما يعد القطب الشمالي من المناطق الغنية بموارد الطاقة منذ أن اكتشف الاتحاد السوفيتي أول حقل نفطي وغازي ضخم عام ١٩٦٢ م في مدخل بحر كارا في سيبيريا الغربية، حيث إن استخدام هذه الموارد هو الحل الوحيد- من وجهة نظر الإدارة الروسية- لتأمين الطاقة التي تحتاج إليها بلادهم، والتي أصبح الحصول عليها سهلًا بفضل ذوبان الجليد نتيجة التغير الحراري الذي يشهده العالم، وبفضل التطور الكبير في المعدات.
2- المطالب السياسية
سعت روسيا الى إحكام سيطرتها على نفط القطب الشمالي، متبعة إستراتيجية متكاملة مكونة من شقين متعارضين:
في الشق الأول: تعتمد سياستها على حل الخلاف مع الدول القطبية وفق القانون الدولي للبحار، كتسويتها مشكلة تقسيم الجرف القاري في منطقة القطب الشمالي مع النرويج، حين وقع الرئيس الروسي ورئيس الوزراء النرويجي، في ١٥ سبتمبر (أيلول) من عام ٢٠١٠، في مدينة مورمانسك الروسية الحدودية، معاهدة ترسيم الحدود بين البلدين في بحر بارنتس والمحيط المتجمد الشمالي، وقاما بحل مشكلة الحدود البحرية المتنازع عليها على مدى أربعين سنة، حيث تبادل الجانبان سابقًا أكثر من مرة مذكرات الاحتجاج بسبب محاولاتهما القيام بالنشاط الاقتصادي في المنطقة المتنازع عليها لبحر بارنس.
أما الشق الثاني: فعكس ذلك، بسبب تصاعد الوجود العسكري الروسي في القطب الشمالي، برغم تأكيد وزارة الدفاع الروسية أن روسيا “لا تقوم بعسكرة القطب الشمالي” ، بل تستعد للرد على مجموعة واسعة من التهديدات المحتملة، تستدعي ضرورة حضورها العسكري الدائم، والجدير بالذكر أن المركز الأمريكي للدراسات الدولية والإستراتيجية نشر تقريرًا بعنوان “ستار جليدي جديد” عن نشاط روسيا في منطقة القطب الشمالي، أشار فيه إلى أن “مستقبل الاقتصاد الروسي يرتبط بالتنمية المستدامة في منطقة القطب الشمالي”.
وهناك أسباب وراء تلك المطالب السياسية الروسية، في مقدمتها أن خمسًا من الدول المشاركة في مجلس القطب الشمالي هي أعضاء في حلف الناتو، وهي كندا، والدنمارك، والنروج، والولايات المتحدة، وإيسلندا، وهنا يظهر البعد الدولي والإستراتيجي لهذا الصراع غير المعلن على القطب، فلكلٍ من هذه الدول أطماع مماثلة لتلك الروسية؛ وهي وضع اليد على ما أمكن من الموارد الطبيعية.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.
