مقالات المركز

الجذور الفاشية خلف نظريات الأممية الليبرالية الأمريكية


  • 25 ديسمبر 2023

شارك الموضوع

الصورة النمطية السائدة عن الليبرالية أنها “النقيض التام” للفاشية، ليس فقط منذ نجاح الثورتين الأمريكية والفرنسية؛ بل أيضًا منذ عام 1870 عندما أصبح الاقتصاد الأمريكي- لأول مرة- هو الاقتصاد الأكبر في العالم. منذ ذلك التاريخ، بدأت الدعاية الأمريكية لليبرالية وكأنها هي “مخلص الشعوب” من الفقر، والظلم، والدكتاتورية، والإقصاء، وظهرت فلسفات وكتب كثيرة تروج لليبرالية بوصفها المرادف “للفردوس” على الأرض؛ لأن الليبرالية- من وجهة نظر صانعي السياسة الأمريكية- تحترم التعددية، وحقوق الإنسان، وحق الفرد، دون أن تتغاضى عن حقوق الجماعة، وأسهمت الانتصارات العسكرية الأمريكية في الحرب الأمريكية الإسبانية عام 1898، ثم انتصار الحلفاء على الفاشية الإيطالية والنازية الألمانية، في إبراز الليبرالية بوصفها فلسفة سياسية، ورؤية اقتصادية، ومنهجية اجتماعية ووطنية لا بديل عنها في مواجهة كل معاني الفاشية القائمة على الكراهية، والإقصاء، والتحقير من الآخرين.

لكن المدقق في معاني الليبرالية الأمريكية، والنسخة الجديدة منها التي يطلق عليها “النيوليبرالية” يتأكد له أن الليبرالية الأمريكية، وخاصة النسخة التي حاولت واشنطن تصديرها للعالم “الليبرالية الأممية”، ما هي إلا نوع آخر من الفاشية، لكن بقناع أمريكي، ففي الفاشية التقليدية بنسختها الموسولينية لا يوجد مجال للتعددية وقبول الآخر، بل يجب محاربة الآخر وإقصاؤه، وأحيانًا قتله، وهي السلوكيات الأمريكية نفسها من عهد جورج واشنطن حتى جو بايدن، فالرئيس الأمريكي جو بايدن قسّم العالم إلى نصفين؛ الأول: “أخيار وطيبون”، وجُمِعوا في تحالف واحد يضم نحو 100 دولة، أطلق عليه “تحالف القيم”، وهو تحالف الدول والشعوب الديمقراطية من وجهة نظره، والثاني: “الأشرار”، ويضم نحو 104 دول، وهي دول يجب محاربتها، وحصارها، وقتل شعوبها إذا اقتضى الأمر، فما الجذور الفاشية لليبرالية الأمريكية؟ وكيف ينخدع العالم بهذه الفاشية العابرة للحدود، التي يُروَّج لها أمريكيًّا في مختلف المحافل الإقليمية والدولية؟

الليبرالية الأمريكية

شكّل ما سمى بعصر التنوير “الحاضنة الحقيقة” لانتشار الأفكار الليبرالية التي رُوِّجَ لها بوصفها ضد الحق الإلهي للملوك، وكانت أفكار الفيلسوف جون لوك تقول إن البشرية تحتاج إلى اليبرالية التي تدعو أن يكون لكل إنسان الحق في الحياة، والحرية، والتملك؛ ولهذا أشاعت الولايات المتحدة بعد ذلك أن أي “عقد اجتماعي” بين الحكومة والشعب في أي دولة من دول العالم ينبغي أن يقوم على استبدال حكومة منتخبة من الشعب بالحكم الدكتاتوري المطلق، ويكون القانون هو الفاصل بين الواجبات والحقوق، وبين المواطن والحكومة، وشكّلت الليبرالية العنوان الرئيس للنظام الرأسمالي الذي بدأ منذ عام 1825 حتى عام 1929، ويطلق على هذه الحقبة “الليبرالية القديمة” الى أن وقع “الكساد الاقتصادي الكبير” عام 1929، فسعت الولايات المتحدة وبريطانيا إلى القيام بتعديلات طفيفة على الرأسمالية لحمايتها من الانهيار التام. في هذا الوقت جرى الحديث عن دور الدولة بجانب القطاع الخاص وفق الأفكار التي اقترحها المفكر البريطاني جون مينارد كينز، من خلال سلسلة من الخطوات، منها: وضع بعض القيود على دور الشركات، وإنشاء النقابات العمالية، وتأسيس أنظمة التأمين الصحي والاجتماعي، وهذه الحقبة التي استمرت حتى نهاية السبعينيات أطلق عليها “فترة الرفاه والازدهار”.

لكن في بداية الثمانينيات، ومع نهاية عهد الرئيسين جيمي كارتر ورونالد ريجان، عادت الولايات المتحدة إلى النمط القديم من الليبرالية القائمة على ترك كل شيء للقطاع الخاص، وتوحش فيها دور الشركات المتعددة الجنسيات التي باتت لها “سلطة أكبر” من سلطة الدولة، وهو ما خلق الجدل بشأن سيادة الدولة وسيادة الشركات، كل هذا زاد مستويات الفقر، وعدد الفقراء في العالم، ويكفي الإشارة هنا إلى تقرير أصدرته مؤسسة أوكسفام عام 2021، أكد أن هناك 62 مليارديرًا في العالم لديهم 1.78 تريليون دولار، وأن ما يملكه 62 مليارديرًا يساوي ما يملكه 50 % من سكان الأرض البالغ عددهم 7.5 مليار نسمة، ونتيجة لهذه السياسة انتشر الفقر والعوز في العالم، خاصة مع تجدد الأزمات الاقتصادية عام 2008، وأزمة الرهن العقاري الأمريكي.

فاشية بالمكياج

الأفكار الفاشية كانت تنتشر في المجتمعات الغربية، وخاصة الولايات المتحدة، قبل الليبرالية وبعدها، ربما كان بينتو موسوليني فقط هو مَن بلورها في خطوات وعناوين كبيرة، كانت واضحة في سياسته الخارجية العدوانية ذات النزعة الاستعمارية، والنزعة القومية المتشددة، وتعبئة الرأي العام ضد فئات أخرى من المجتمع.

من يتأمل الليبرالية الأمريكية منذ الثورة الأمريكية، والحصول على الاستقلال في 4 يوليو (تموز) عام 1776 حتى اليوم، يتأكد أن كل ما نادى به موسوليني في أفكاره الفاشية كان قائمًا وموجودًا في السلوك والفكر الليبرالي الأمريكي، فالعدوانية ضد فئات أخرى من المجتمع كانت حاضرة في العدوانية الأمريكية التي تخلصت من ملايين السكان الأصليين، خاصة في ولايات الوسط والغرب، والاعتداءات شبه اليومية ضد السود والملونيين والآسيويين في الولايات المتحدة شاهدة على تجذر الفكر الفاشستي وتعمقه في الليبرالية الأمريكية، كما أن النزعة القومية الأمريكية ما زالت قائمة لدى كل الأجنحة السياسية، وخاصة اليمين والمحافظين الجدد، وتؤكد ما تسمى “الحرب على الإرهاب” هذه النزعة العدوانية، حيث شملت الحرب الأمريكية على الإرهاب نحو 80 دولة، قتل فيها نحو مليون شخص، واحتُلَّت دول مثل أفغانستان والعراق، وما زالت واشنطن تنشر جنودها وقواعدها في العالم بذريعة محاربة الإرهاب. ويمكن قراءة “المعاني والسلوكيات الفاشية” في “الليبرالية الأمريكية” من خلال سلسلة من المشاهد، وهي:

أولًا: مَن ليس معنا فهو ضدنا

هذا الشعار رفعه الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2011، ولا تزال تتعامل به السياسة الخارجية الأمريكية، التي لا ترى إلا خيارًا واحدًا من خيارين أمام دول العالم، إما أن تكون في “الحظيرة الأمريكية”، وإما أن تُحارَب سياسيًّا واقتصاديًّا، وحتى عسكريًّا. جرى هذا في الحرب الباردة، واليوم يتكرر- بصور وأشكال متعددة- من خلال تشكيل التحالفات السياسية وتوسيعها؛ “تحالف القيم”، والتحالفات الاقتصادية “مجموعة الدول السبع الصناعية الكبرى”، والتحالفات العسكرية “الناتو”، و”الأوكوس”، و”الكواد”، و”العيون الخمس”.

ثانيًا: التدخلات الخارجية

لا يوجد إقليم من أقاليم العالم يخلو من التدخلات والنزعة العدوانية الأمريكية؛ ففي أوروبا أرسلت الولايات المتحدة نحو 100 ألف جندي للاقتراب من روسيا، ونحو 100 ألف آخرين بالقرب من الأراضي والحدود الصينية، وتحاول التحكم في مصير كل دول أمريكا اللاتينية وقراراتها، كما أن تدخلاتها الواضحة في الشؤون الداخلية للدول العربية والشرق أوسطية لا تخفى على أحد، بدعوى حماية حقوق الإنسان، وهو أمر بات مرفوضًا من الجميع، بعد أن شاهد العالم كله الوجوه الأمريكية المتعددة التي تتعاطف مع المواطن الأوكراني والإسرائيلي فقط، لكنها ترفض وقف إطلاق النار في غزة حتى يُقتَل مزيد من الأطفال الفلسطينيين. وخير مثال على التدخلات الأمريكية في شؤون الدول الأخرى ما يسمى “بالثورات الملونة”، بداية من “ربيع براغ” عام 1968، ثم “الثورة الوردية” في جورجيا عام 2003، و”الثورة البرتقالية” في أوكرانيا عام 2005، وثورات “الربيع العربي” في المنطقة العربية.

ثالثًا: توظيف المؤسسات الدولية

كما كانت الفاشية سببًا من أسباب انهيار “عصبة الأمم”، فإن الليبرالية الأمريكية العابرة للحدود، والقائمة على “توظيف” المؤسسات والمنظمات الدولية، تهدد اليوم بفقدان الثقة بمجلس الأمن والأمم المتحدة، فالرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب انسحب من غالبية المنظمات الدولية، مثل اليونسكو، ومنظمة الصحة العالمية، كما أن الولايات المتحدة لا تحترم مبادئ منظمة التجارة العالمية، وهي من أكثر الدول التي تستخدم “سلاح العقوبات” عندما تفشل في المنافسة الحقيقية مع الآخرين، كما نراه في العقوبات الأمريكية على روسيا والصين، ولعل توظيف “الفيتو” الأمريكي لمواصلة الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة دفع غالبية الدول والشعوب إلى عدم الثقة بالمنظومة العالمية الدولية.

رابعًا: الأنانية السياسية

السمة الرئيسة للفاشية أنها تقوم على “الأنانية السياسية”، والنرجسية في مواجهة الحقوق الطبيعية للآخرين، ويشكل إصرار الولايات المتحدة على محاربة كل من يعارض نظامها الليبرالي “القائم على القواعد”، قمة الفاشية؛ لأنها تنكر على الآخرين حقهم في نظام عالمي جديد قائم على التعددية، فالتعددية الحقيقة في النظام الدولي تنادي بها روسيا والصين، في حين أن الولايات المتحدة، التي كان يفترض أن تقبل، بل ترحب بالتعددية الدولية، تتشبث “بالقطبية الأحادية”، وهو فكر أصيل من أفكار الفاشية.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع