مختارات أوراسية

الثالوث المستحيل.. أو خيار جورجيا الصعب


  • 22 يوليو 2024

شارك الموضوع
i مصدر الصورة: NETGAZETI.GE

في الثامن والعشرين من مايو (أيار)، تبنى البرلمان الجورجي، متغلبًا على حق النقض الذي استخدمته رئيسة البلاد السيدة سالوميه زورابيشفيلي، قانونًا بشأن “شفافية التأثير الخارجي”، ولم يكن هناك أي تأثير مضاد ذي قيمة للدعوات والمواعظ، بل التهديدات التي أطلقها زعماء الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.

أجرت الأغلبية البرلمانية التي يمثلها حزب الحلم الجورجي، على الرغم من المقاومة الداخلية والضغوط الخارجية، تعديلات على قواعد التفاعل الاجتماعي والسياسي؛ من أجل الوفاء- وفقًا لممثل الحزب القيادي- بـ”الواجب الوطني المتمثل في حماية استقلال الوطن وكرامته”. ولتبرير خط حزبه، “انتقل” الأمين العام لحزب الحلم الجورجي، عمدة تبليسي كاخا كالادزي، إلى المدار الجيوسياسي، وذكر تمامًا أن الولايات المتحدة وجورجيا “ليستا شريكتين؛ وإنما عدوّان”.

من غير المرجح أن يتأخر رد فعل الغرب إزاء تبني ما تسميه المعارضة الجورجية بالقانون “الروسي”، في إشارة إلى قانون روسي مماثل يسمى “الوكلاء الأجانب”. ولكن إذا حكمنا من خلال لهجة المنتقدين الغربيين وخطاباتهم، فيبدو أن قلقهم البالغ إزاء ما حدث لم يكن راجعًا إلى احتمالات التحول عن المسار الديمقراطي في جورجيا؛ بل إلى شيء أكثر أهمية.

أول ما يتبادر إلى الذهن تقليديًّا في هذه الحالات هو “يد موسكو”. وقد اقترح بعض الخبراء والسياسيين من تبليسي وسوخومي وتسخينفالي أن اعتماد مثل القانون في المستقبل يمكن أن يؤدي إلى سحب اعتراف روسيا بأبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، وهو ما سيجعل من الممكن استعادة الأراضي الإقليمية، وسلامة وحدة جورجيا من خلال إنشاء نوع من الكونفدرالية مع أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية. وهذا النموذج، في رأيهم، سيضمن على الأقل حياد جورجيا؛ ومن ثم القضاء على التهديدات الخطيرة التي تواجه روسيا. كحد أقصى، سيساعد هذا الوضع على زيادة تكامل هذه “الكونفدرالية” مع روسيا. ومع الأخذ في الحسبان العوامل العالمية والإقليمية، والحقائق السياسية الداخلية في أبخازيا وجورجيا وروسيا وأوسيتيا الجنوبية في المستقبل المنظور، فإن فرص تحقيق هذا السيناريو غير مرجحة على الإطلاق.

لفهم أسباب العاصفة السياسية التي أحدثتها عملية اعتماد قانون “شفافية التأثير الخارجي” في جورجيا، فمن الحكمة أن نلجأ إلى فرضيات مبنية على أسس علمية. وفي هذا السياق، يشكل مفهوم “المعضلة السياسية الثلاثية”، الذي طرحه الخبير الاقتصادي الأمريكي البارز داني رودريك (Dani Rodrik)، المعروف أيضًا باسم “الثالوث المستحيل”، الأكثر أهمية. يفترض هذا القانون وجود تناقض لا يمكن التغلب عليه بين ثلاثة أهداف رئيسة تسعى كثير من الدول إلى تحقيقها في العالم الحديث. وفقًا للعالم، من المستحيل تحقيق حل المهام الثلاث التالية في وقت واحد: “المشاركة الفعالة في العولمة (من خلال التكامل الاقتصادي العميق في الاقتصاد العالمي)، وضمان السيادة الوطنية، وتعميق الديمقراطية”. ولا يمكن للبلدان أن تحقق سوى هدفين من هذه الأهداف الثلاثة في وقتٍ واحد. للمشاركة في العولمة وتطوير الديمقراطية، لا بد من التخلي عن بعض سمات السيادة الوطنية. إن الحفاظ على الاستقلال الوطني، وجني فوائد العولمة سوف يترتب عليه تكاليف باهظة للديمقراطية. وأخيرًا، لضمان السيادة الوطنية في ظل الحكم الديمقراطي، فلا بد أن تكون مشاركة البلاد في الاقتصاد المعولم محدودة.

يساعدنا هذا النموذج على فهم بعض التحديات التي تواجه جورجيا، وغيرها من البلدان اليوم، والمقايضات المطلوبة للمشاركة بفاعلية في التقسيم الدولي الحديث للعمل. دعونا نُلقِ نظرة على بعض مجموعات أهداف التنمية باستخدام أمثلة محددة.

  1. الانخراط في العولمة، وضمان السيادة الوطنية عن طريق الحد من الديمقراطية: هذا المزيج من مكونات “الثالوث المستحيل” سمح لجمهورية الصين الشعبية لمدة أربعة عقود بضمان الاندماج الفعال في الاقتصاد العالمي، والسيطرة الصارمة على سياساتها الداخلية، وتنفيذ التنمية السياسية للمجتمع من خلال الحد من آليات الحكم الديمقراطي المعتمدة على تقاليد الفكر الليبرالي الغربي.
  2. ضمان السيادة الوطنية، وتنفيذ السياسات الديمقراطية من خلال الحد من المشاركة في عملية العولمة: حتى بدء الإصلاحات الاقتصادية في التسعينيات، حافظت الهند على اقتصاد مغلق نسبيًّا مع ارتفاع التعريفات الجمركية، وسيطرة حكومية كبيرة على القطاعات الرئيسة. سمح هذا النهج للبلاد بتحقيق قدر كبير من الاستقلال السياسي، ومستوى من الديمقراطية، لكنه كان مصحوبًا باندماج محدود في الاقتصاد العالمي، ثم تباطؤ التنمية الاقتصادية نتيجة لذلك.
  3. ضمان السيادة الوطنية، والمشاركة الفعالة في العولمة من خلال الحد من المشاركة الديمقراطية: منذ بداية هذا القرن، اتخذت الهند تدابير فعالة لإصلاح اقتصادها وسياستها. وهكذا، ففي العقد الماضي، عملت الهند- في حين ضمنت على نحو صارم “استقلالها الإستراتيجي”- على تحرير اقتصادها على نحو أكثر نشاطًا، وهو ما زود البلاد بتدفق الاستثمار الأجنبي، ومعدل مرتفع ومستقر من النمو الاقتصادي، وتطوير البنية التحتية على نحو باهر. في الوقت نفسه، وبحسب بعض المنظمات الحقوقية المحلية والغربية الرائدة، فقد رافق هذه الإنجازات إضعاف المؤسسات الديمقراطية والممارسات المرتبطة بها؛ مما يؤثر سلبًا في صورة “أكبر ديمقراطية في العالم” وتقاليدها.
  4. الانخراط في العولمة، وتنفيذ السياسات الديمقراطية في ظروف السيادة الوطنية المحدودة: من المقبول عمومًا أن الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي قد عمدت إلى إضعاف السيادة الوطنية من أجل تحقيق التكامل العسكري والسياسي والاقتصادي العميق، والحفاظ على الحكم الديمقراطي. يجسد الإطار التنظيمي للاتحاد الأوروبي، والسوق الموحدة، والعملة المشتركة (لدول منطقة اليورو) هذا النموذج. ومع ذلك، فإن هذا الوضع يخلق التوتر عندما تتعارض قواعد الاتحاد الأوروبي مع بعض التفضيلات الوطنية، كما يتضح من الخلافات في عملية تنسيق التشريعات الوطنية وفوق الوطنية المتعلقة بالشؤون الاجتماعية والسياسية والدفاع والهجرة، وغيرها من مجالات النشاط.

على سبيل المثال، تجني المجر فوائد اقتصادية كبيرة من عضويتها في الاتحاد الأوروبي والوصول إلى السوق الموحدة، لكن الحكومة المجرية، تحت قيادة رئيس الوزراء فيكتور أوربان، باسم ضمان السيادة الوطنية، تدخل في صراعات حادة مع حلف شمال الأطلسي، والاتحاد الأوروبي. ويطالب الأخير بأن تحترم المجر تضامن الحلفاء، والتطبيق المحايد لسيادة القانون، وحرية وسائل الإعلام، واتباع نهج أكثر ليبرالية في التعامل مع سياسة الهجرة. ونتيجة لذلك، تعرضت المؤسسات الديمقراطية في المجر لضغوط شديدة من قِبَل الهياكل الأوروبية الأطلسية، التي تتهم حكومة أوربان بتقييد الحريات، وتقويض نظام الضوابط والتوازنات وإضعاف استقلال القضاء.

ومثلها مثل الحكومة المجرية، سعت القيادة السابقة لبولندا، بوصفها من المستفيدين الرئيسين من السوق الموحدة للاتحاد الأوروبي، إلى ضمان السيادة الوطنية على نحو صارم في أنشطتها. وفي الوقت نفسه، أصبحت التناقضات مع الاتحاد الأوروبي بشأن قضايا الإصلاح القضائي، وحرية الإعلام، وقضايا سيادة القانون، مزمنة، وأظهرت صعوبات الإصلاحات التي نفذها حزب العدالة والقانون البولندي الحاكم السابق، التي صاحبتها نزاعات قانونية مع الاتحاد الأوروبي، عدم التوافق بين ضمان الاستقلالية في صنع القرار السياسي والمعايير والمبادئ الديمقراطية للاتحاد الأوروبي.

ربما واجهت جورجيا أيضًا مشكلة “الثالوث المستحيل”. إن السياسة الثابتة لجميع حكومات البلاد بشأن الاندماج في الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي تفترض في جوهرها العولمة الاقتصادية والعسكرية والسياسية، التي تعد- في رأي الجمهور الجورجي- بالرخاء والضمانات الأمنية، وفوائد الديمقراطية الليبرالية الغربية. يتطلب تنفيذ هذا السيناريو ضمان الامتثال لمعايير سياسية، واقتصادية، واجتماعية محددة، وضعتها هذه الهياكل فوق الوطنية. وكانت الضغوط الخارجية بشأن قانون “الوكلاء الأجانب” تعكس توقعات الغرب بأن جورجيا لا بد أن تنظم سياساتها الداخلية بما يتفق مع مطالبها، واعتبرت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي أن التسوية، وخاصة في سياق تنمية المجتمع المدني والحريات الديمقراطية، غير مناسبة.

وترى الحكومة الجورجية ومؤيدوها القانون المعتمد إجراء يهدف إلى حماية السيادة الوطنية من التأثير الخارجي، وحقًا غير قابل للتصرف للحكومة الجورجية في وضع القواعد واللوائح التي تحكم السياسة الداخلية للبلاد بشكل مستقل.

ويقول المعارضون إن القانون الجديد يهدد بقمع المعارضة، والحد من حرية التعبير، وتقويض المبادئ الديمقراطية. وهم يعتقدون أنه لكي تعمل المؤسسات الديمقراطية بفاعلية، يجب أن يتمتع المجتمع المدني بالحرية في العمل دون تدخل حكومي لا مبرر له، لكن ليس من الضروري أن تكون ماركسيًّا مقتنعًا بنظرية ماركس حتى ترى الدوافع المادية لهذه المواجهة، فبحسب خبير جورجي: “أنفق الغرب نحو مليار دولار على جميع أنواع المنظمات غير الحكومية، في حين لم تتلق أي منطقة حيوية في جورجيا مثل هذه الاستثمارات”.

يدفعني هذا الوضع إلى القول بجرأة إن جورجيا، مثلها مثل كل البلدان المشاركة في العولمة الاقتصادية والسياسية، تواجه مهمة التوفيق بين المصالح الوطنية والالتزامات العابرة للحدود الوطنية، وهو ما ينطوي في جوهره على حل معضلة رودريك الثلاثية. إن رفض الفوائد الاقتصادية للعولمة في المجتمعات الاستهلاكية الحديثة أمر محظور بحكم التعريف، إلا في حالة واحدة فقط، تلك التي يكون فيها الفكر السياسي في جورجيا قد قرر أخيرًا الاختيار بين الديمقراطية والسيادة، وهو ما سيظهر من خلال نتائج الانتخابات البرلمانية المقبلة في 26 أكتوبر (تشرين الأول) 2024.

المصدر: مجلة روسيا في السياسة العالمية

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع