القضايا الاقتصاديةوحدة الدراسات الصينية

التوازن المطلوب في الصين.. بين النمو والحوكمة والعولمة


  • 30 مارس 2025

شارك الموضوع

مع بدء عام جديد حاسم، تنطلق فيه الصين نحو كثير من المناورات الاقتصادية والسياسية، يكشف تقرير عمل الحكومة الأخير الذي أصدره رئيس مجلس الدولة “لي تشيانغ”، عن التحديات والتطلعات التي تواجه ثاني أكبر اقتصاد في العالم.

في ظل مشهد عالمي متزايد التشرذم -تفاقمه حرب تجارية مستمرة مع الولايات المتحدة، وتحالفات متغيرة، وشكوك جيوسياسية متزايدة- تحاول بكين تحقيق توازن دقيق بشأن: “تحفيز النمو المحلي، وطمأنة المستثمرين الأجانب، وتعزيز مكانتها الإستراتيجية على الساحة العالمية”. ويزداد هذا التوازن تعقيدًا من أي وقتٍ مضى مع استمرار تحول النظام الدولي، حيث يتزامن صعود الصين مع اضطرابات عالمية.

يشير هدف الحكومة المركزية لنمو الناتج المحلي الإجمالي لعام 2025، البالغ نحو 5%، إلى البراغماتية والثقة؛ فهو يُقرّ بالتحديات الاقتصادية التي تواجهها الصين، بما في ذلك التحديات الديموغرافية، وتباطؤ التجارة العالمية، مع إظهاره صورةً من المرونة والطموح. يختلف هذا الهدف من النمو اختلافًا جذريًّا عن النمو ذي الرقمين الذي شهدته العقود السابقة، ويعكس نهجًا ناضجًا يوازن بين الطموح والحذر. كما يتماشى هذا الهدف مع رؤية الدولة الطويلة المدى المتمثلة في الحفاظ على الاستقرار، دون الإفراط في جهود التحفيز التي قد تُقوّض الاستدامة المالية، أو تُشكّل أخطارًا نظامية. ومع ذلك، فإن الطريق إلى الأمام ليس واضحًا على الإطلاق، إذ تنبع الأخطار من الضغوط الخارجية، والتعديلات الهيكلية الداخلية.

تُعدّ حزمة التحفيز المالي الموسعة ركيزةً أساسيةً للإستراتيجية الاقتصادية الصينية لهذا العام. ويهدف إصدار سندات خزانة خاصة طويلة الأجل بقيمة 1.3 تريليون يوان (179 مليار دولار أمريكي) في عام 2025 -بزيادة 300 مليار يوان عن العام الماضي- إلى ضخ السيولة في القطاعات الحيوية، والحفاظ على الزخم الاقتصادي، مع توفير دعم مُوجّه للصناعات الرئيسة التي تواجه تحديات في سلسلة التوريد. وبالمثل، يعكس قرار رفع نسبة العجز إلى الناتج المحلي الإجمالي بنحو 4% رغبة الحكومة في اتباع نهج مالي استباقي يُعطي الأولوية للنمو القصير الأجل. وسيكون ضمان مساهمة هذه الإجراءات في نمو مستدام ومتوازن أمرًا بالغ الأهمية لتعزيز القوة الاقتصادية على المدى الطويل، وتجنب الاعتماد المفرط على النمو القائم على الديون.

رغم تصاعد التوترات مع الغرب، تسعى الصين بنشاط إلى استقطاب المستثمرين الأجانب. وأكد “لي” أن بكين لا تزال ملتزمة بالانفتاح الاقتصادي، متعهدةً بتوسيع نطاق الوصول إلى قطاعات رئيسة مثل الاتصالات والرعاية الصحية والتعليم، والتي لطالما كانت أكثر عزلةً عن المنافسة الأجنبية. كما يشير الوعد بإنترنت وبيئة ثقافية أكثر انفتاحًا إلى محاولة تحقيق توازن بين التحرير الاقتصادي وأولويات الحوكمة. وستعتمد ثقة المستثمرين في نهاية المطاف على كيفية ترجمة هذه الالتزامات إلى فرص ملموسة في بيئة الأعمال، لا سيما فيما يتعلق بالشفافية التنظيمية، وحماية الملكية الفكرية. وستحدد القدرة على تهيئة بيئة يشعر فيها رأس المال الأجنبي بالأمان مدى قدرة الصين على جذب المواهب والاستثمارات العالمية.

لا تزال الشركات الخاصة في الصين، التي لطالما اعتُبرت محركًا للديناميكية الاقتصادية، محورًا أساسيًّا لطموحات البلاد الاقتصادية. ويُشير التزام الحكومة المتجدد بحماية حقوق الشركات الخاصة، وتهيئة بيئة مواتية لريادة الأعمال، إلى إدراكها لأهميتها. وستكون السياسات الواضحة والمتسقة التي تدعم الابتكار في مجال الأعمال، والمنافسة العادلة، والنمو المُحرك بقوى السوق، أساسيةً في استدامة حيوية الاقتصاد على المدى الطويل. ومع ذلك، أظهرت الحكومة أيضًا ميلًا متزايدًا لإعطاء الأولوية للشركات المملوكة للدولة في القطاعات الإستراتيجية، مما قد يُشكل تحديًا لاستقلالية الشركات الخاصة في بعض المجالات. وسيظل تحقيق التوازن بين تمكين رواد الأعمال من القطاع الخاص وضمان الأمن القومي مسألةً حساسة.

إدراكًا منها لضرورة التحوّل نحو صناعات التكنولوجيا الفائقة، تُكثّف الصين جهودها في مجال الذكاء الاصطناعي، والمحطات الذكية، وإنترنت الأشياء. ويعكس تركيز الحكومة على “الصناعات المستقبلية”، مثل المواد الحيوية، وتكنولوجيا الكم، وشبكات الجيل السادس (6G)، رؤيةً إستراتيجيةً تتجاوز مجرد التعافي الاقتصادي الفوري. تُرسّخ هذه الاستثمارات مكانة الصين كشركة رائدة في مجال التقنيات الناشئة، مُعزّزة الابتكار، ومُعزّزة تنافسيتها العالمية. وعلى وجه الخصوص، يُتيح التقدم في مجالي الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمومية إمكانية إعادة تشكيل الصناعات عالميًّا، وتهدف جهود الصين في هذه المجالات إلى ترسيخ مكانة البلاد بوصفها قوة تكنولوجية عظمى. ومن المتوقع أن تتلقى هذه القطاعات دعمًا حكوميًّا كبيرًا؛ مما يضمن بقاءها محركات رئيسة للنمو الاقتصادي في السنوات المقبلة.

بالنسبة لمنطقتي هونغ كونغ وماكاو الإداريتين الخاصتين، تُشير رسالة الحكومة المركزية هذا العام إلى تحوّلٍ خفيّ، ولكنه مهم؛ فبينما يُكرّر التقرير مبدأ “دولة واحدة ونظامان”، والحاجة إلى حوكمة وطنية، يُقدّم تركيزًا جديدًا على “تعميق التبادلات والتعاون الدوليين”، وهذا يُشير إلى دورٍ مُطوّر لهونغ كونغ كحلقة وصل عالمية، تتجاوز المجال المالي إلى التبادلات الاقتصادية والثقافية الأوسع. لطالما اعتُبرت هونغ كونغ جسرًا بين الصين وبقية العالم، ويعكس خطاب بكين الأخير إدراكًا بإمكانية استفادة المدينة من مزاياها في التجارة والتمويل والخدمات المهنية لتعزيز مكانتها في الاقتصاد العالمي. وقد يشمل هذا التحوّل أيضًا قيام هونغ كونغ بدورٍ أكثر فاعلية في الترويج للثقافة الصينية وقوتها الناعمة على الساحة العالمية.

في ظل التوترات الجيوسياسية المتصاعدة، يُشير قرار الصين بالحفاظ على زيادة بنسبة 7.2% في الإنفاق العسكري -وهو ما يتوافق مع السنوات السابقة- إلى الاستمرارية بدلًا من التصعيد. وبينما يُفسر بعض المحللين هذا على أنه نهج مُقيّد، يُجادل آخرون بأن التوسع العسكري المُطرد، لا سيما في مضيق تايوان، يُعزز طموحات الصين الإستراتيجية الطويلة الأجل. وفي وقت لا تزال فيه سلاسل التوريد العالمية تُعيد ضبط نفسها، يظل الحفاظ على الاستقرار الإقليمي أولوية رئيسة. وتظل القوة العسكرية جزءًا لا يتجزأ من الإستراتيجية الجيوسياسية الأوسع للصين، لا سيما مع سعيها إلى تأكيد نفسها بوصفها قوة عالمية قادرة على حماية مصالحها. وفي حين أن الإنفاق العسكري ليس زيادة كبيرة، فإن الالتزام المُطرد بالإنفاق الدفاعي يُؤكد تركيز الحكومة على ضمان أمنها في بيئة دولية متزايدة عدم الاستقرار.

أقرّ “لي” صراحةً بأن ضعف الاستهلاك لا يزال يُشكّل تحديًا اقتصاديًّا بالغ الأهمية. ومع تزايد ضغوط البطالة في المناطق الحضرية، لا سيما بين الشباب، تعهدت الحكومة بتوفير أكثر من 12 مليون وظيفة جديدة في المناطق الحضرية، إلى جانب دعم مُخصّص للخريجين الجدد والعمال المهاجرين. وسيكون تعزيز ثقة المستهلك ومعالجة القضايا الهيكلية المتعلقة بعدم المساواة والتفاوت الإقليمي أمرًا بالغ الأهمية لضمان نمو مستدام في الطلب المحلي. وإلى أن تُعالج هذه التحديات، تُواجه الصين خطر استمرار ركود الاستهلاك؛ مما قد يعوق الانتعاش الاقتصادي الأوسع.

لا تقتصر أهداف الصين الاقتصادية لعام 2025 على تحقيق هدف نمو بنسبة 5% فحسب؛ بل تشمل أيضًا إظهار المرونة في مواجهة التقلبات العالمية. تعكس السياسات الموضحة في تقرير عمل الحكومة لهذا العام توازنًا دقيقًا بين: “سنّ تدابير مالية استباقية مع ضمان الحصافة المالية؛ وتعزيز الانفتاح الاقتصادي مع الحفاظ على الأولويات الوطنية؛ والطموح التكنولوجي مع مواكبة المشهد العالمي المتغير”. إن مدى فعالية تنفيذ بكين لسياساتها في الأشهر المقبلة سيحدد مسار تطورها الاقتصادي على المدى الطويل.

المصدر: صحيفة تشاينا ديلي هونغ كونغ

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع