مقدمة
ساد المناخ الفكري في روسيا حالة من الاكتئاب والانهزام النفسي البالغ عقب سقوط الاتحاد السوفيتي سنة ١٩٩١، ومالت النخبة الروسية إلى الخضوع الكامل للنموذج الغربي، ما أدى إلى نتائج أشد سوءًا، من انتشار للفوضى والفساد، وغيرها من مظاهر عدم الاستقرار السياسي. وبالرغم من الاستقرار النسبي الناتج عن تغير النخب وأساسها الأيديولوجي مع بداية الألفية الثانية، فإن المشكلة الأساسية لم تحل؛ إذ ظلت النخبة الجديدة تحكم بالاعتماد على ما تبقى من الأيديولوجية السوفيتية، ومحاكاة لما قبلها، فلم توجد أيديولوجية سياسية متماسكة واضحة المعالم ومتكاملة الأركان تستطيع أن تعيد روسيا إلى سابق عهدها، محققةً لأماني شعبها[1].
أدرك هذه الحقيقة مجموعة من المفكرين الروس الذين رأوا في اندماج روسيا في النظام العالمي فقدًا لهويتها، واعتبروا مسألة الاختيار بين مسار الغرب ومسار روسيا الخاص في التنمية مسألة وجودية؛ أن نكون أو لا نكون؟ أن تصبح روسيا بحضارتها أحد أقطاب العالم، محققةً قيمها ورسالتها التاريخية، أو تكون دولة من دول العالم، تابعة، لا قدرة حقيقية لديها على التأثير في النظام، ولا تسطيع السيطرة عليه[2].
وصل هؤلاء المفكرون، وعلى رأسهم المنظر الروسي ألكسندر دوغين، إلى هذه الإجابة من خلال دراستهم النقدية للنموذج الغربي الذي هيمن على المجال الفكري، حيث كان أي تفكير من أجل طرح خيارات أخرى لنماذج غير النموذج الغربي أمرًا غير وارد، فأي محاولة للتنظير لا بد أن تكون محكومة بأحد الأشكال الثلاثة لنموذج الدولة المبنية على الفلسفة الحديثة؛ وعليه، فحتى الشيوعية في نسختها السوفيتية، لم تسلم من انتقادات هؤلاء المفكرين؛ إذ هي أحد أشكال الفلسفة الغربية التي لا تتوافق مع المجتمع الروسي، وسيكون محكومًا عليها بالفشل من بدايتها، إلا إذا أُدخلت عليها إصلاحات جذرية في الأسس، بما يجعلها متماسكة مع الجذور الثقافية للأمة الروسية[3].
بسقوط الاتحاد السوفيتي رأوا أن حل الأزمة المعاصرة لروسيا يكمن في العودة إلى ما قبل الحداثة، بالتفكير خارج الإطار الشمولي للحداثة، التي هي ليست إلا خيارًا واحدًا اتخذ شكل النظريات السياسية الثلاث (الليبرالية، والشيوعية، والقومية)، أفضى إلى انتصار الأولى، معلنةً نهاية التاريخ، ومقللة من شأن المجال السياسي، وأعلت من شأن المجال الاقتصادي لكي تمنع تشكيل بديل لها من خارجها، لكن المخرج من نهاية التاريخ- وفقًا لهؤلاء المفكرين- هو بالتخلي عن النظريات الحداثية، وبناء النظرية السياسية الرابعة التي هي نموذج سياسي مستقل يقدم مسارًا ومشروعًا مستقلًا، يوضح إمكانية وجود بديل للاتجاه السياسي الذي يهيمن على العصر الحديث[4].
وسيتناول البحث- على نحو أساسي- أفكار ألكسندر دوغين؛ المنظّر الروسي، مؤلف كتاب “النظرية السياسية الرابعة”؛ بعرض الجوانب المختلفة في مشروعه الفكري وتحليلها، ابتداءً من جذوره وروافده الفكرية، وصولًا إلى ثمراتها، ورؤيته المستقبلية.
يعود تشكيل أهم أفكار دوغين الفلسفية والسياسية إلى أواخر سبعينيات القرن العشرين، حينما انضم إلى مجموعة من المنشقين غير الرسميين فيما عرف باسم “دائرة يوغينسكي”، وهي دائرة تكونت في بداية النصف الثاني من القرن العشرين على يد المفكر الميتافيزيقي الروسي يوري مامليف، الذي هدف إلى إنشاء نخبة روحية تستطيع قيادة الأمة الروسية[5].
تدور أهم أفكار “الدائرة” في أن الرد على النظام السوفيتي لا يكمن في أيديولوجية سياسية منافسة من داخل النموذج الحداثي؛ بل في الميتافيزيقا، والبحث عن مستوى وجودي آخر، فقد كان مامليف دارسًا للعقائد الهندوسية، والفلسفات الجوانية، وخبيرًا بالحركة التراثية التي نمت في أوروبا؛ ولذا فإن “الدائرة” جمعت في مصادرها الفكرية بين النصوص الدينية والباطنية الغربية، بالإضافة إلى كتابات الأوراسيين القدامى؛ ما جعل الدائرة تعرف باسم “الجوانية السوفيتية”، و”الثقافة البطانية المضادة”[6].
تأثر دوغين- بشدة- بأفكار ماميلوف المتشائمة عن العالم الحديث، وفي رؤيته للحالة الروحية للبشر التي أضحت في سجن من الأوهام التي لا سبيل إلى الخلاص منها إلا من خلال نخبة روحية تعيد تأسيس الصلة مع المبدأ الميتافيزيقي. وقد تطورت الدائرة وفكر دوغين تمامًا بإدخال غولوفين المفكر الروسي- الذي كان أحد مفكري مدرسة يوجينسكي- لتعاليم الميتافيزيقي الفرنسي رينيه غينون، الذي عدّه الإطار الأكثر منطقيّة للفكر الباطني[7].
تراث غينون وباطنيته من الممكن تقسيمه إلى خطين رئيسين استفاد منهما دوغين بشدة، وبنى عليها؛ أولهما: أسس فلسفية، وثانيهما: اقترابات معاصرة لدراسة تراثية للدين؛ ومن هنا نفهم أن اطلاع دوغين على رينه غينون وفر له الأساس والمركز التي تنطلق منه رؤيته الشاملة، فقد اتخذه مرشدًا روحيًا للوصول إلى القيم التراثية للحضارات المقدسة، والنفي المطلق للحضارة العلمانية الحديثة، بعد فهم خصائصها، كما طرحها غينون، ومن أهمها السرعة نحو الانحدار والسقوط، بما لا يترك أي مساحة للتفكير الحر الحقيقي. كما نهل منه طبيعة اللحظة الراهنة التي يعيش فيها العالم باعتباره عصر الظلمة والفساد، أو عصر الكالي يوجا كما هو في العقائد الهندوسية. بالإضافة إلى الفليسوف الإيطالي يوليوس إيفولا، الذي يتبعه دوغين في سلوكه السياسي، فقد كان إيفولا مؤمنًا بأن هذا العصر، وإن كان عصر انحلال، فإن مجرد الوقوف فيه يجعل من السهل جني الثمار؛ كل ما يتطلبه الأمر هو أن نقف فقط[8].
وتنبع أهمية التقاليد التراثية عند دوغين في أنه يعدّها المركز الذي ينبني عليه كل شيء، ومن ثم فإن فالإعدادات النظرية والمعايير الأساسية ستؤدي إلى إنتاج فلسفة ونموذج مختلفين تمامًا بأدوات أخرى غير تلك الحداثية. بالإضافة إلى مركزية الدراسات التراثية في فكر دوغين، فإنه بنى أطروحته كذلك على مقدمات فلسفة هايديغر، وإن اختلف مع النتائج؛ ففلسفة هايديغر تنطلق من تأكيد أهمية فهم علاقة الإنسان بالموت كأساس لدراسة الفكر الإنساني. وبناء على هذه المقدمة، يرى دوغين أن هايديغر وصل- كما وصل الغربيون- إلى أحادية نموذج التنمية، فادّعى الغرب عالمية نموذجه، وسعى إلى فرضه على مختلف دول العالم. في مقابل ذلك، لا يرى دوغين أن العلاقة بين الإنسان والموت واحدة؛ بل تتعدد تصورات البشر عن الموت وتختلف باختلاف الحضارات؛ وعليه تتعدد النماذج الحضارية[9].
فالحضارات المختلفة لها أهداف وجودية مختلفة، تتفاعل مع العالم حسب طبيعة وجودها، وتعريفها لنفسها؛ ومن ثم فإن الوعي الذاتي لكل كائن يختلف عن الآخر من حيث فهمه لنفسه في ضوء إمكانية وجوده أولا؛ ومن ثم نفى دوغين إمكانية تعميم نموذج الغرب الذي لا يلائم إلا الغرب. فلسفة هايديغر، بالإضافة إلى باطنية غينون، سمحتا له بتوجيه النقد إلى النظريات السياسية المعاصرة وفًقا لأسس يستند إليها في نقده، فكانت له أشبه بالأداة الكاشفة عن أصل الداء، وأفضل الدواء[10].
يفضل دوغين تعريف النظرية السياسية الرابعة بوصفها اتجاهًا أو نهجًا لمجموعة واسعة من الأفكار والمشاريع البحثية، ودعوة إلى الإبداع السياسي بدلًا من اعتبارها مشروعًا نهائيًّا، ونظامًا كاملًا مغلقًا محصورًا عليه وحده؛ بل مشروع كل أولئك الذين يريدون توسيع دائرة الخيارات المتاحة بعيدًا عن الحداثة[11]. وكما سبق الذكر، فإن الحداثة أنتجت ثلاثة نماذج من النظريات السياسية، كل نظرية منها تجسد جانبًا مختلفًا من الحداثة، وتشترك في الأسس، وهي المادية، والنظرة التقدمية التطورية. ومن ذلك يمكن فهم منطق ترتيب ظهور تلك النظريات، وترتيب اختفائها، فقد كان صراع هذه النظريات الثلاث صراعًا من أجل إثبات أيها أكثر تعبيرًا عن الحداثة[12].
وقد اتضح أن الليبرالية هي الأكثر تعبيرًا عن الحداثة؛ ولذا فقد وجب على دوغين تفكيكها وفهمها، وهو ما وضحه بتفكيكه أصل مصطلح liberalism، وهو liberal، وليس freedom، والفرق بينهما أن الأولى تعني: “التحرر من”، في حين تعني الأخرى: “التحرر من أجل شي ما”. وتتجلى هذه الحقيقة على الممارسات الليبرالية في الغرب، فهي تحرر من الدولة، تحرر من الكنيسة، تحرر من الطبقات المنتظمة، وأي نوع من المؤسسات التقليدية [13].
وبالانتقال إلى نموذج الدولة المبني على الليبرالية، وهو نموذج etat –nation، يلاحظ دوغين جانبًا آخر من التحرر من أي شكل من أشكال الهوية الجماعية؛ ولذا تصبح الدولة أشبه بالشركة التي تُنشأ بالاتفاق المتبادل لأجل تحقيق مصالح فردية بحتة. يجادل دوغين بأن هذا المنطق الذي لا يتوقف عن التحرر من شيء، دون أن يكون من أجل شيء ما، إلى الدرجة التي تصل إلى تحرر الفرد من نفسه وتجاوزه، هو في ذاته أكثر صيغة عبودية إثارةً للاشمئزاز بتمردها على المبدأ الأعلى[14].
وينتقل التاريخ إلى ما بعد الحداثة بانتصار الليبرالية باعتبارها نهاية التاريخ، وهو ما لم يكن ممكنًا إلا بانتصارها، وتنتقل الليبرالية من أيديولوجية إلى حقيقة وجودية. ويوضح دوغين أن الطابع الشمولي لليبرالية يظهر في هذه المرحلة، فتظهر باعتبارها فلسفة وأيديولوجية سياسية واقتصادية تجسد القوة في العصر الحديث، بالإضافة إلى المعاني التي اكتسبتها من ما بعد الحداثة، ليتحول الفرد من كونه “المعيار”، ليصبح ما بعد الفرد هو المعيار، وليحل المجتمع المدني محل الدولة، ليصير بوتقة صهر عالمية، ويصبح العالم نموذجًا تقنيًّا يتساوى فيه الواقعي والاقتراضي[15].
يصور دوغين كيف أن هذا النموذج كان سوداويًّا حتى لبعض قادة الليبرالية الذين دعوا إلى التمسك بأصول الليبرالية في شكلها الحديث مرة أخرى. لكن بشكل عام، لم يُقاوَم النموذج الليبرالي ما بعد الحداثي إلا من مجموعات فوضوية، كرد فعل سلبي غير منظم، وليس من فواعل حضارية وجيوسياسية بديلة، وهنا يبرز دور النظرية السياسية الرابعة باعتبارها حملة صليبية على الفلسفة ما بعد الحداثية، ودحض الأسس والأدوات الأيديولوجية التي قامت عليها هذه الحضارة.
يولي دوغين اهتمامًا خاصًا بنقد الديمقراطية بوصفها أداة المجتمعات الحديثة وغايتها، فينقدها بالاستناد إلى ما قبل الحداثة، إذ كان الغرض من هذه التنظيمات السياسية في تلك العصور- كما يرى دوغين- قبل أي غرض آخر، هو الوصول إلى الله، فلم تكن الجنة الأرضية شيئًا آخر، غير أنها الموصلة إلى الجنة السماوية؛ وبناء عليه، فالدولة الحديثة عنده هي مملكة المسيح الدجال، التي تنقلب فيها وينحرف أي شكل أصيل، فكما أن المسيح الدجال له القدرة على تحقيق الأماني الدنيوية إلى درجة إحياء الموتى، فكذا الدولة الحديثة التي ستحقق “الجنة هنا والآن”، فهي في ذاتها أكبر تعبير عن عدم المساواة، بما تسمح به من فوضى في اتخاذ القرار، وعرقلة للأمم من أن تتوجه إلى الروح الجماعية/ الله، بنكسها وعكسها العلاقات السوية بين السلطتين الروحية والزمنية[16].
في مقابل ذلك، يطرح دوغين شكل الديمقراطية في المجتمعات التقليدية بوصفها شكلًا من أشكال التنظيم السياسي التي لطالما وجدت في المجتمعات التقليدية، لكن على نحو يسمح بظهور الروح الجماعية/ الله في اتخاذ القرار، من خلال تحديد طبقة معينة تسمح لها بالمشاركة في الإجراءات الديمقراطية، ويضرب على ذلك الأمثلة في مختلف المجتمعات، ومنها على سبيل المثال القبائل الجرمانية التي لم تكن تسمح إلا للمحاربين والكهنة باتخاذ القرار[17]. ودوغين من خلال هذا المثال يبرهن على أنه لا قيمة للآلية إن انحرفت أو عجزت عن تحقيق الغاية، فالأصل الوصول إلى الغاية.
يمكن تصنيف النظرية السياسية الرابعة باعتبارها من النظريات المحافظة، خاصة في شقها التراثي، إذ يوضح دوغين أن المحافظة تأخذ عدة أشكال تتشارك جميعًا في رفض ما هو موجود، الذي يدعو إلى التغيير إلى ما كان سائدًا قبل الحداثة. وعلى عكس التصور السائد من كون المحافظة هي الجمود على الماضي، يقدم دوغين رؤية بديلة باعتبار المحافظة نهجًا فلسفيًّا يتعامل مع الوقت بطريقة محددة، متخذًا من الماضي أساسًا للانطلاق، وهي غير ما يعرف في الغرب بالمحافظة التي يقتصر دورها على مجرد إبطاء الحداثة، لكن اتجاه الحركة يظل كما هو [18].
وقد تم توضيح أن المحافظة لا ترى التاريخ باتجاه تطوري نحو الأفضل؛ بل إلى الهاوية، فالإنسان يسقط، ومن إدراك دوغين لهذه الرؤية فإنه يوضح نتائج الاستمرار على نمط الحداثة في أننا سنسقط كحجر، لكن ذلك المصير غير حتمي، فقد تحدث أفلاطون عن أن الإنسان كائن مجنح، وهو ما يعني أنه يستطيع الطيران، وكل ما عليه هو أن يكتشف جناحيه ليطير، وهو ما يعبر عنه دوغين بالعودة إلى التراث[19]. تدعو المحافظة إلى العودة إلى المبدأ والأصل، وهو ما سيدفع الطاقات الإبداعية، ويشحذ الهمم، ولن يؤدي إلى أي جمود متصور. ويستعين في شرح هذه الفكرة بأرسطو في شرحه للمبدأ باعتباره المحرك الثابت؛ فالمبدأ يظل دائمًا ثابتًا وواحدًا، لكنه هو المحرك للأمم.
يتصور دوغين الدولة الروسية إمبراطورية قادرة على حمل الطابع المقدس، بما فيها من تكامل بين الإمبراطور والبطريرك، ويصفها باعتبارها أعلى شكل من أشكال الإنسانية ليكون شكلها كما يلي:
متحدة المراكز، بأن يكون وسطها هو المحور؛ تجسيدًا للخلود في عالم الشهادة، وتكون المدينة مبنية حول المركز، ينظم طبقاتها معيار الأكثر ذكاءً ونشاطًا، فيأتي على رأس طبقاتها القصر والكنيسة (البطريرك والقيصر) تجسيدًا للسماء والأرض، تليهما الطبقة العسكرية، ثم طبقة التجار، وأخيرًا طبقة العمال والحرفيين. ويكون قرب كل طبقة من المركز بحسب ترتيبها الهرمي، وكلها تُنشئ النظام الهرمي نفسه على مستوى الأسرة.
وقد اعتمد في توضح عناصرها على المشابهة بين الإنسان والإمبراطورية في التقسيم الثلاثي عند القديس بولس، الذي قسم الإنسان إلى روح، ونفس، وجسد، يقابلها دوغين في الإمبراطورية بالدين، والشعب، والأرض على التوالي[20].
من المستوى النظري إلى التطبيقي.. الأوراسية بوصفها نظرية معرفية
يؤكد دوغين التعددية المعرفية التي تؤكدها الأوراسية في مقابل الغرب، فعلى عكس الغرب، لا يدعي دوغين عالمية النموذج الأوراسي، لكنه يؤكد النموذج التاريخي الخاص بكل أمة، وحقها في تحديد اتجاهها. وبتطبيقها على الأمة الروسية، يجب نفي أوروبية روسيا أو آسيويتها المحضة، وتأكيد الجانب المصهور ليؤدي إلى نسخة فريدة لا تنتمي إلى أي من الحضارتين[21].
وإذا ما اتُّبِعَت الأوراسية، فإن من المنطقي استعادة نموذج الإمبراطورية التي هي هيكل سياسي إقليمي يجمع بين المركزية والإستراتيجية، وتحوي بداخلها أعراقًا متعددة بصيغ حكم ذاتي متنوعة، وهي تأخذ أشكالًا عدة في التاريخ القديم، سواء في شكل ديني (بيزنطة)، أو حضارية الإمبراطورية الصينية، أو مدنية (روما القديمة)، أو حتى أيديولوجية (الاتحاد السوفيتي) [22]. الأخذ بهذه الرؤية معناه تأكيد الحضارة الروسية، وهو ما لا تملك النخب- وفقًا لدوغين- بصدده رأيًا آخر؛ لأن الخيار الآخر يعني القبول باحتلال روسيا، في مقابل الصورة الأيديولوجية التي يرسمها دوغين لأوراسيا باعتبارها ظاهرة لا تقارن بغيرها بوصفها حضارة لها قيمها ومصالحها[23].
يظهر تأثير كارل شميت في دوغين في استعادته ثنائية الصديق والعدو في السياسة مرة أخرى؛ وعليه فإن علاقة روسيا بالغرب ستكون علاقة الصديق بعدوه، فالغرب هو الشر الذي يجب أن تناهضه أوراسيا بكل ما أوتيت؛ بسبب ما له من خطر وجودي على مصالحها وكيانها [24]، وتعمل على تعزيز عدد من الأهداف في مواجهة العالم:
1- تعزيز العلاقات مع المعادين للغرب.
2- تقسيم الغرب وتفكيكه، والتعامل مع أوروبا القارية بانفصال عن الولايات المتحدة الأمريكية.
3- تعزيز تعدد الأقطاب بقدر تعدد الحضارات، بما يوفر خيارات أوسع للإنسانية[25].
هو الخطوة الأهم التي تأخذ على عاتقها هدف تحويل روسيا إلى الإمبراطورية الأوراسية، والتعليم الأوراسي كذلك هو الخطوة العملية لبناء الإنسان الروسي بالمنهجية نفسها التي ستُدار بها الإمبراطورية. وهو الذي يأخذ على عاتقه تذليل كل العقبات التي يمكن أن تعرقل إقامة الإمبراطورية؛ فهو تعليم روحي، وعقيدة مكتفية بذاتها، تصلح لكل الناس بمختلف مراتبهم بحيث تهيأ كل فرد للدور المنوط به بداخل الإمبراطورية.
وعلى التقسيم الثلاثي نفسه الذي سبق ذكره، فإن دوغين قسّم العلوم اللازمة في البنية المعرفية الأوراسية إلى ثلاثة أقسام تمثل الإطار العام الذي تسترشد به سائر العلوم الأخرى، وهي كالتالي:
1- اللاهوت: وهو تاج العلوم، المختص بدراسة الروح؛ رأس المكونات الثلاثة في تقسيم القديس بولس.
2- علم الاجتماع العرقي: وهو المعني بدراسة الشعب، وفهم وجود المجموعات العرقية، وهو المناظر للنفس.
3- علم الجغرافيا السياسية: ويدرس العلاقة بين الدولة وإقليمها، وهو المناظر للجسد في المركز الأخير في أهميته بين العلوم الأخرى. ومن الجدير بالذكر أن طريقة تهذيب الجسد لا بد أن تتبع السلطة الروحية العليا. بعبارة أخرى، لا يمكن دراسة الجغرافيا باعتبار مواردها المادية الصرفة؛ بل غلبة الطابع الكيفي على دراستها من خلال فهم النخب لهذا الجسد، وطرق تهذيبه [26].
وتكمن أهمية محاولة دوغين في أنه يمكننا تقييم التجربة في ضوء البناء النظري بشمول رؤيته للنواحي المختلفة للحياة، وتقديمه تصورًا لما ستكون عليه الدولة باتباع نظريته، وهو وإن لم يوفق تمامًا في البناء على الصورة المجردة للتراثيين، نقلها كما هي إلى حد كبير، ولم يوضح كيف سيكون شكل المجتمع في الواقع، وتركها في صورتها التجريدية. ومع أن دوغين لا يوضح ما الذي يجب فعله تمامًا للانتقال من الصورة الحالية لروسيا إلى الشكل الإمبراطوري الأوراسي، فإن السياق الروسي في حقبة الرئيس بوتين، وتوافق رؤيته المحافظة مع دوغين، أدّى دورًا مهمًّا في إكساب نظريته طابعًا عمليًّا، لكن ذلك لم يكن خاضعًا للمصادفة؛ بل كان نابعًا من إجابة خاصة بدوغين عن المعضلة السقراطية (شكل العلاقة بين العلماء والسلطة) يجب أن تكون محل دراسة مستقلة، فلا يزال دوغين يجادل بأن روسيا بالرغم من الخطوات التي اتخذتها في سبيل تحقيق استقلالها السياسي التام على الساحة الدولية، لم تتنتقل كليًّا إلى الإمبراطورية الأوراسية بسبب تأخر بوتين في اتخاذ خطوات إستراتيجية كاملة للانتقال من النموذج الحداثي تمامًا، ويعرقل هذا التأخر النخب الفاسدة المحيطة به. لكن على كلٍ، محاولة دوغين هي تجربة للتنظير، لا تكاد تترك مفكرًا دون أن تستفيد منه، في ضوء عملية إنشاء الروابط بين وحدات الواقع، وبما يؤدي إلى الخروج من أسر الحداثة الغربية، واستعادة الأمة الروسية حضارتها.
ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.