تقدير موقف

التقارب الحذر.. ماذا تحمل زيارة السيسي لتركيا؟


  • 3 سبتمبر 2024

شارك الموضوع
i مصدر الصورة: newarab.com

نجحت تركيا في إقحام نفسها في المنطقة، من خلال تأسيس وجود عسكري شبه دائم في الأراضي العثمانية السابقة، ومنها ليبيا، وسوريا، وقطر، والصومال، بجانب دعمها للأحزاب والحركات الإسلامية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، غير أن هذا الوجود لما يعد كافيًا لخطط تركيا الطموحة وصارت تبحث عن شراكات جديدة تحقق مصالح أكبر في المنطقة، ولما كان التغلغل التركي قد توسع باطّراد في السنوات الأخيرة، وهو ما استوجب التعامل الحذر معه؛ لذا تأتي زيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لتركيا خلال الأيام القليلة المقبلة لتحمل في طياتها أدوات لتقويض هذا النفوذ المتنامي، في ظل نية الطرفين تطبيع العلاقات بينهما خلال السنوات المقبلة.

دلالات التوقيت

بعد عقد من العلاقات المتقطعة والتوترات المتصاعدة، تتجه مصر وتركيا نحو التقارب الرسمي بزيارة للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لتركيا، وهي الخطوة التي جاءت نتاج سنوات من اللقاءات التمهيدية، غير أنها ثبتت أقدامها في حفل افتتاح كأس العالم لكرة القدم في قطر في نوفمبر (تشرين الثاني) 2022، حيث التقى الرئيس المصري بنظيره التركي فترة وجيزة، وكان هذا إيذانًا رسميًّا بنهاية الأعمال العدائية بين الخصمين السابقين، وأعقب ذلك زيارة وزير الخارجية المصري السابق سامح شكري إلى مدينة مرسين جنوب تركيا لتقديم التضامن والدعم في أعقاب الزلازل التي ضربت جنوب تركيا ووسطها، وسوريا المجاورة، وأحدثت دمارًا، وأودت بحياة عشرات الآلاف، في فبراير (شباط) 2023، وكانت هذه الخطوات ضرورية لإصلاح انعدام الثقة والعداء الذي نما على مر السنين، وجاء الرد التركي سريعًا على هذه الزيارة، فبعد شهر زار وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو القاهرة لتدشين مسار عودة العلاقات بين أنقرة والقاهرة.

ولكن نقطة التحول الحقيقية في العلاقات بين البلدين جاءت خلال زيارة الرئيس رجب طيب أردوغان إلى مصر، في فبراير (شباط) المنصرم، التي تعد الزيارة الأولى له منذ زيارته لها حين كان رئيسًا للوزراء عام 2012، ورسخت أنقرة خلال تلك الزيارة ركائز تقارب إستراتيجي من القاهرة في ظل المستجدات الإقليمية والملفات العالقة، غير أن التقارب لم يكتمل بسبب تأخر القاهرة في رد هذه الزيارة، إذ كان من المزمع زيارة السيسي لتركيا منذ يوليو (تموز) 2023، لكنها تأجلت أكثر من مرة دون أسباب واضحة؛ وهو ما يجعل زيارة 4 سبتمبر (أيلول) الجاري محط اهتمام دولي وإقليمي كبير.

ملفات الخلاف

ظلت العلاقات بين تركيا ومصر متوترة سنوات، بسبب السياسات التي انتهجتها الحكومة التركية ضد النظام المصري، وجاء بين أبرز الملفات الشائكة بين البلدين، ما يلي:

1- ليبيا: مثلت الحرب الأهلية في ليبيا ساحة المعركة الأكثر خطورة بين مصر وتركيا، حيث أرسلت القاهرة الدعم العسكري إلى جيش خليفة حفتر المتمركز في الشرق عندما شن هجومًا على طرابلس في عام 2019، في حين نقلت تركيا الأسلحة والمستشارين العسكريين علنًا للمساعدة في الدفاع عن الحكومة في طرابلس، وتضمنت عناصر من فرع الإخوان المسلمين في ليبيا، ونشرت تركيا بنجاح لأول مرة طائرات بدون طيار من طراز بيرقدار، ساعدت على صد قوات حفتر في حرب بالوكالة باهظة الثمن، ودموية، كاملة النطاق.

وتصاعدت التوترات بين البلدين في عام 2020، وهددت بمواجهة عسكرية كاملة بعد تدخل تركيا عسكريًّا في وقف تقدم القوات المعارضة بقيادة الجنرال الليبي، وهي الخطوة التي أثارت ردود فعل حاسمة من الدولة المصرية، التي اعتبرته تهديدًا صارخًا للأمن القومي المصري، وعلى الجيش المصري الاستعداد لتنفيذ أي مهمة خارج البلاد؛ ما مثل رسالة واضحة إلى أنقرة بأن الرئيس المصري يفكر في استخدام القوة العسكرية للدفاع عن حدود مصر الغربية.

2-حصار قطر: شنت دول الخليج، بدعم من مصر في عام 2017، حصارًا واسع النطاق على قطر بسبب طموحاتها الجيوسياسية ودعمها للجماعات الإسلامية، وسارعت تركيا إلى مساعدة الدوحة، ولم يكن ذلك من خلال نقل الإمدادات الطارئة جوًّا فقط؛ بل بنشر قوات إضافية، وتوسيع نطاق اتفاقية التعاون الأمني ​​التي وقعتها الدولتان، وهو ما شكل نقطة خلاف كبرى بين مصر وتركيا لأعوام.

3الاختلاف الأيديولوجي: بدأ توتر العلاقات المصرية التركية بعد الإطاحة بحكم جماعة الإخوان المسلمين في مصر عام 2013، وأسفر دفاع تركيا عن الجماعة بعد الإطاحة بها إلى قطيعة دبلوماسية بين البلدين، واحتضنت تركيا الآلاف من أعضاء الجماعة، كما سمحت ببث عدد من القنوات المناهضة للنظام السياسي المصري على مدى عقد كامل، قبل أن تقرر البدء بإغلاقها مطلع 2021.

4– الصراع في شرق المتوسط:  أثار اتفاق أكتوبر (تشرين الأول) 2022 بين تركيا وحكومة الوحدة في ليبيا، الذي يسمح لتركيا بالتنقيب عن النفط والغاز في المنطقة الاقتصادية الخالصة قبالة سواحل ليبيا، رفضًا من القاهرة وأثينا، فضلًا عن الحكومات الإقليمية الأخرى، التي انتقدت الاتفاق، ووصفته بأنه غير قانوني، وهو ما جعل مصر ترسّم حدودها البحرية مع ليبيا في ديسمبر (كانون الأول) من العام نفسه؛ لحماية مصالحها الاقتصادية؛ ما صعّد حدة التوتر بين أنقرة ومصر، لا سيما أن قضية الغاز هي قضية محورية لتركيا التي تعاني فقرًا في مصادر الطاقة، وتعتمد اعتمادًا أساسيًّا في تلبية احتياجاتها النفطية على روسيا، وإيران، وأذربيجان.

المكاسب المشتركة

ثمة كثير من المحفزات التي وفرت بيئة خصبة لدفع التقارب المصري التركي، يظهر أبرزها فيما يلي:

1- تعظيم المصالح الاقتصادية: أثر الخلاف بين البلدين في التجارة بينهما، وحجم الاستثمارات، حيث انخفضت صادرات تركيا إلى مصر إلى أدنى مستوى لها عند 2.3 مليار دولار في عام 2017، في حين انخفضت صادرات مصر إلى تركيا إلى أدنى مستوى لها عند 1.2 مليار دولار في عام 2015؛ ومن ثم، فمع تراجع التوترات بين البلدين، قفزت صادرات تركيا إلى مصر إلى 4.5 مليار دولار في عام 2022، وزادت صادرات مصر إلى تركيا من  ملياري دولار في عام 2018 إلى أعلى مستوى لها قياسي عند 3.7 مليار دولار في عام 2022.

2– احتواء تهديد جماعة الإخوان المسلمين: ترغب القاهرة في أن تتخذ السلطات التركية إجراءات صارمة ضد أعضاء جماعة الإخوان المسلمين وأنصارها المقيمين في تركيا، وتسليم الهاربين المتهمين بارتكاب أعمال عنف ضد الدولة المصرية، بالإضافة إلى ذلك، تريد القاهرة إغلاق القنوات الإعلامية التي تتخذ من إسطنبول مقرًا لها، وفي مارس 2021، أعلنت قناة “مكملين”، وهي قناة تابعة لجماعة الإخوان المسلمين اشتهرت بانتقادها المستمر لمصر، تعليق بثها من إسطنبول، ونقلها إلى مكان آخر. وبعد أيام من لقاء أردوغان مع السيسي في فبراير (شباط) الماضي، جردت تركيا الزعيم السابق لجماعة الإخوان المسلمين محمود حسين وزوجته، إلى جانب خمسين عضوًا آخرين من أعضاء التنظيم، من الجنسية التركية المكتسبة.

ولعل اقتراح جماعة الإخوان المسلمين قبيل زيارة الرئيس المصري المرتقبة لتركيا لمبادرة جديدة بهدف التصالح وطلب العفو من الدولة المصرية، ووقف نشاطها السياسي فترة مؤقتة مقابل الإفراج عن سجنائها جميعًا، دليل واضح على السياسات الصارمة لأنقرة لتخطب ود القاهرة، وتبدي حسن نيتها في ملف التقارب بين البلدين.

3– غاز المتوسط: أسهمت زيادة المنافسة على الطاقة منذ الحرب الروسية الأوكرانية في تسريع الحاجة إلى التعاون بين القاهرة وأنقرة، ومع انتهاء كثير من عقود تركيا لشراء الغاز، تحتاج إلى مصر للحصول على إمدادات الغاز الطبيعي المسال؛ لذا تسعى أنقرة من توثيق علاقاتها بمصر أن تكسب منافسيها الإقليميين في منتدى غاز شرق البحر الأبيض المتوسط، وهي خطوة حاسمة نحو تسوية خلافات تركيا مع اليونان والقبارصة اليونانيين.

4- الحرب في غزة: توحيد القوى المعارضة للحرب الإسرائيلية على قطاع غزة؛ للمساعدة على تخفيف الأثر الإنساني للحرب في غزة، إذ تستدعي أوضاع غزة ما بعد الحرب تكاتف الجهود والمساعي المصرية والتركية؛ بهدف تكثيف الضغط الدولي لأجل التوافق بشأن صفقة المستقبل للقضية الفلسطينية، وأوضاع غزة.

كما يدفع هذا إلى تأسيس التزام دولي بشأن إعادة إعمار غزة، ومساعدة الدولة الفلسطينية الوليدة، وذلك يدعو إلى استثمار العلاقات المصرية- التركية في إتمام صفقة برعاية دولية بشأن القضية الفلسطينية، وبناء الوضع المؤسسي للدولة في فلسطين بعد الحرب؛ ومن ثم يمكن لجهد مصري- خليجي- تركي مشترك أن يشكل أهم دعامة للقضية الفلسطينية خلال المرحلة المقبلة.

5- الوضع الأمني في البحر الأحمر: الدور التركي المتصاعد في إفريقيا يهدف إلى جعل تركيا رقمًا صعبًا في السياسة الدولية، ففي شهر فبراير (شباط) الماضي، وقعت تركيا والصومال اتفاقًا في مجال التعاون الدفاعي لمدة عشرة أعوام، يسمح للجيش التركي بحماية السواحل البحرية للصومال، ويمنح أنقرة حق استغلال 30 % من ثروات الساحل الصومالي؛ لذا يمكن استغلال التقارب التركي في منع وصول إثيوبيا إلى البحر الأحمر، وتهديد الأمن القومي المصري.

6- المفاوضات حول سد النهضة: قد يكون العرض التركي للتوسط بين مصر وإثيوبيا في نزاع سد النهضة محفزًا إلى تسريع التقارب بين أنقرة والقاهرة؛ فالالتزام الجاد بجهود الوساطة بين دول حوض النيل قد يخفف مخاوف القاهرة بشأن توسع العلاقات التركية مع إثيوبيا، وخاصة بيع الطائرات التركية المسلحة بدون طيار إلى أديس أبابا، التي تخشى القاهرة والولايات المتحدة أن تستخدمها الحكومة الإثيوبية ضد القوات المتمردة في تيغراي.

7– تعزيز التعاون العسكري: منذ عام 2020، دعت تركيا مصر ثلاث مرات إلى المشاركة في مناورات عسكرية على أرضها مع دول أخرى، لكن مصر لم ترد على أي من هذه الدعوات، وفي المقابل أجرت مصر عددًا من المناورات العسكرية خلال تلك الفترة مع اليونان، وقبرص، والإمارات. وفي عام 2023، نظمت مصر مناوراتالنجم الساطع في شرق المتوسط مع 18 دولة، من بينها قبرص واليونان وإيطاليا والإمارات والسعودية والكويت والمغرب، كما عرضت مصر على عدد من الدول الإفريقية التعاون العسكري من خلال تدريب قواتها العسكرية في مصر، وهو دور منافس للدور الذي تحاول تركيا الاضطلاع به مؤخرًا في إفريقيا.

الخاتمة

يتعين على تركيا أن تطوي صفحة الخصومات الماضية، وأن ترجئ سعيها المتسرع إلى النفوذ الإقليمي، والتركيز على بناء علاقاتها الاجتماعية والاقتصادية العميقة الجذور مع مصر لبدء عصر جديد من التعاون المثمر، بما تفرضه ضرورات التعاون في الملفات الشائكة الضاغطة على البلدين بقوة سياسيًّا ومعنويًّا، في ظل نظام دولي وإقليمي متغير، ويطرح تهديدات وأخطارًا يمكن للبلدين تعظيم مكاسبهما فيها بالتحرك معًا؛ ما يجعل التقارب مع الإمارات والسعودية، فضلًا عن الوصول إلى أحواض السيولة في ظل الأزمة الاقتصادية، والتحدي السياسي الأشد صعوبة الذي واجهه أردوغان منذ عام 2003، من بين المتطلبات العاجلة لتحقيق الشراكة الإستراتيجية المأمولة مع مصر.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع