في يوليو (تموز) 2025، قام رئيس هيئة الأركان المشتركة للقوات المسلحة الباكستانية، الفريق أول ساهر شمشاد ميرزا، بزيارة بارزة إلى الأزهر الشريف في القاهرة، حيث التقى بالإمام الأكبر الشيخ أحمد الطيب. هذه الزيارة، التي اتسمت بلفتة رمزية تمثلت في أداء التحية العسكرية من قائد عسكري لرجل دين، لم تكن مجرد حدث دبلوماسي عابر؛ بل حملت دلالات عميقة تعكس التفاعل التاريخي بين الأزهر وباكستان، وتأثير الشيخ الطيب بوصفه شخصية إسلامية عالمية، فضلًا عن انعكاساتها على العلاقات المصرية- الباكستانية، وربما حتى على ديناميكيات العلاقات المصرية- الهندية على نحو غير مباشر.
الأزهر الشريف، الذي تأسس في القرن العاشر الميلادي، يُعدّ من أقدم المؤسسات الإسلامية في العالم وأعرقها، حيث يمثل مركزًا للعلم الإسلامي التقليدي والفكر السني المعتدل. منذ تأسيس باكستان كدولة مستقلة في عام 1947، ارتبطت بالأزهر بعلاقات أكاديمية ودينية وثيقة، فقد استقطب الأزهر طلابًا باكستانيين لدراسة العلوم الإسلامية، مما أسهم في تعزيز الفكر الأزهري المعتدل في باكستان، وهي دولة تعاني تحديات التطرف الديني.
تاريخيًّا، كان للأزهر دور في تدريب كثير من العلماء الباكستانيين الذين أصبحوا لاحقًا قادة فكر ديني في بلادهم. هؤلاء العلماء، الذين تلقوا تعليمهم في كليات الأزهر للدراسات الإسلامية والعربية، أسهموا في نشر المنهج الأزهري الذي يركز على الوسطية والتسامح، وهو ما يتناقض مع التيارات المتشددة، مثل السلفية الوهابية التي انتشرت في بعض المناطق الباكستانية بفعل التمويل الخارجي في ثمانينيات القرن العشرين وتسعينياته. الأزهر، بفضل هذا التأثير، أصبح رمزًا للتوازن الفكري في مواجهة التطرف، وهو ما جعل زيارة قائد عسكري باكستاني إلى الأزهر حدثًا ذا دلالات رمزية.
بالإضافة إلى ذلك، شارك الأزهر في إنشاء مراكز تعليمية في باكستان، مثل مراكز تعليم اللغة العربية، التي تهدف إلى تعزيز التواصل الثقافي والديني بين البلدين. هذه المراكز، إلى جانب المنح الدراسية التي يقدمها الأزهر للطلاب الباكستانيين، عززت حضور الأزهر في المشهد الديني والتعليمي الباكستاني. هذه العلاقة التاريخية ليست مجرد تبادل أكاديمي؛ بل تمثل جسرًا ثقافيًّا وسياسيًّا يعكس تقارب القيم بين مؤسسة دينية عالمية، مثل الأزهر، ودولة ذات أغلبية مسلمة، مثل باكستان.
الشيخ أحمد الطيب، الإمام الأكبر للأزهر منذ عام 2010، يُعدّ شخصية محورية في تشكيل الصورة العالمية للأزهر بوصفه مؤسسة تدعو إلى الاعتدال والحوار بين الأديان. في باكستان، تحظى شخصية الطيب بتقدير كبير بسبب مواقفه الواضحة ضد التطرف الديني والتكفير، وهي قضايا حساسة في باكستان التي تعاني تحديات الإرهاب والتطرف. الشيخ الطيب، بفضل خلفيته الأكاديمية العميقة في الفلسفة الإسلامية، وخبرته السابقة رئيسًا لجامعة الأزهر، استطاع أن يقدم نموذجًا للقيادة الدينية التي تجمع بين العمق الفكري والانفتاح على العالم.
في سياق باكستان، كان لمواقف الطيب ضد التكفير تأثير خاص. ففي عام 2016، خلال مؤتمر في الشيشان، استبعد الشيخ الطيب التيارات السلفية المتشددة من تعريفه لأهل السنة والجماعة، وهو موقف أثار جدلًا واسعًا، ولكنه وجد صدى إيجابيًّا في الأوساط الباكستانية التي تسعى إلى مواجهة التطرف الديني. هذا الموقف عزز مكانة الطيب بوصفه صوتًا معتدلًا يمكن أن يسهم في إعادة صياغة الخطاب الديني في باكستان، حيث يعاني المجتمع تأثير الجماعات المتطرفة التي تستغل الدين لأغراض سياسية.
بالإضافة إلى ذلك، يُنظر إلى الشيخ الطيب في باكستان بوصفه رمزًا للدفاع عن القضايا الإسلامية العالمية، لا سيما القضية الفلسطينية. خلال لقائه مع الفريق ميرزا، أكد الطيب أهمية حل القضية الفلسطينية بوصفه شرطًا للاستقرار العالمي، وهو موقف يتماشى مع الرأي العام في باكستان، حيث تحظى القضية الفلسطينية بدعم شعبي وسياسي واسع. هذا التقارب في المواقف عزز تأثير الطيب بوصفه شخصية دينية يمكن أن تؤدي دورًا في تعزيز الوحدة الإسلامية، وهو هدف إستراتيجي لباكستان في سياق مواجهتها للتحديات الإقليمية.
مع أن الزيارة كانت في إطار العلاقات المصرية- الباكستانية، فإنها تحمل دلالات غير مباشرة على العلاقات المصرية- الهندية؛ نظرًا إلى التوترات التاريخية بين الهند وباكستان. مصر، بوصفها دولة تسعى إلى الحفاظ على توازن دبلوماسي في علاقاتها مع القوتين الإقليميتين في جنوب آسيا، تجد نفسها في موقف حساس. زيارة قائد عسكري باكستاني بارز إلى مؤسسة دينية مصرية مثل الأزهر قد تُفسر في الهند على أنها إشارة إلى تقارب مصري- باكستاني، خاصة في ظل التعاون العسكري والأمني الذي نوقش خلال الزيارة.
من منظور تحليلي، يمكن القول إن هذه الزيارة تعكس استراتيجية مصرية لأداء دور الوسيط الإقليمي. مصر، تحت قيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي، تسعى إلى تعزيز نفوذها بوصفها قوة إقليمية مستقرة، وهي تستفيد من الأزهر بوصفه أداة دبلوماسية ناعمة. من خلال استقبال قائد عسكري باكستاني، ترسل مصر رسالة إلى الهند مفادها أنها قادرة على الحفاظ على علاقات متوازنة مع كلا الطرفين، دون الانحياز الكامل إلى أي منهما. هذا التوازن يعكس نهجًا براغماتيًّا يهدف إلى تعزيز المصالح الاقتصادية والأمنية لمصر في جنوب آسيا، حيث تسعى مصر إلى جذب الاستثمارات الهندية في مجالات مثل الزراعة والتكنولوجيا، في حين تحافظ على تعاونها العسكري والديني مع باكستان.
ومع ذلك، قد تثير هذه الزيارة مخاوف في الهند، خاصة إذا ما فُسرت على أنها تعزيز للتحالف العسكري- الديني بين مصر وباكستان. الهند، التي تراقب من كثب أي تقارب بين باكستان ودول الشرق الأوسط، قد ترى في هذه الزيارة محاولة لتعزيز النفوذ الباكستاني في العالم الإسلامي من خلال الأزهر، لكن من المرجح أن تحرص مصر على طمأنة الهند من خلال مبادرات دبلوماسية لاحقة، مثل زيارات رفيعة المستوى، أو تعاون اقتصادي؛ لتجنب أي توترات غير ضرورية.
من أبرز الجوانب الرمزية لهذه الزيارة أداء الفريق ميرزا التحية العسكرية للشيخ أحمد الطيب، وهي لفتة غير معتادة في العلاقات بين قادة عسكريين ورجال دين. هذه الإيماءة تحمل دلالات متعددة الأبعاد؛ أولًا: إنها تعكس الاحترام العميق الذي تكنه باكستان للأزهر، وللشيخ الطيب بوصفه شخصية تمثل الوسطية الإسلامية. ثانيًا: إنها تؤكد الدور السياسي والدبلوماسي الذي يؤديه الأزهر في العلاقات الدولية، حيث أصبح بمنزلة منصة للحوار بين الدول والمؤسسات الدينية.
يمكن قراءة هذه الزيارة على أنها محاولة باكستانية لتعزيز شرعيتها الدينية في مواجهة التحديات الداخلية والخارجية. باكستان، التي تواجه انتقادات دولية بسبب قضايا الإرهاب، تسعى إلى الارتباط بمؤسسات دينية معتدلة مثل الأزهر لتحسين صورتها العالمية. التحية العسكرية -في هذا السياق- ليست مجرد إيماءة بروتوكولية؛ بل رسالة سياسية تؤكد التقارب بين القوة العسكرية والشرعية الدينية، وهو أمر بالغ الأهمية في دولة مثل باكستان، حيث يضطلع الجيش والدين بأدوار محورية في تشكيل الهوية الوطنية.
بالإضافة إلى ذلك، تعكس الزيارة الدور المزدوج للأزهر بوصفه مؤسسة دينية وسياسية. الشيخ الطيب، بصفته رئيس مجلس حكماء المسلمين، ليس مجرد عالم دين؛ بل شخصية دولية تؤثر في القضايا الإسلامية والإنسانية. لقاؤه مع قائد عسكري يعكس هذا التقاطع بين السلطة الدينية والسلطة العسكرية، حيث يمكن للأزهر أن يؤدي دورًا في توجيه السياسات العسكرية نحو أهداف إنسانية، مثل مكافحة الإرهاب، وتعزيز التسامح.
زيارة رئيس هيئة الأركان الباكستانية إلى الأزهر الشريف تمثل حدثًا يتجاوز البروتوكولات الدبلوماسية التقليدية. إنها تعكس العلاقة التاريخية العميقة بين الأزهر وباكستان، وتؤكد تأثير الشيخ أحمد الطيب بوصفه قائدًا دينيًّا عالميًّا يدافع عن الوسطية والتسامح. في الوقت نفسه، تحمل الزيارة دلالات سياسية تتعلق بالعلاقات المصرية- الباكستانية، مع انعكاسات محتملة على العلاقات المصرية- الهندية. من خلال لفتة التحية العسكرية، تبرز الزيارة بوصفها رمزًا للتقارب بين القوة العسكرية والشرعية الدينية، مما يعكس إستراتيجية باكستان لتعزيز صورتها الدولية من خلال الارتباط بمؤسسات دينية معتدلة. في النهاية، تظل هذه الزيارة شاهدًا على قدرة الأزهر على أداء دور محوري في تشكيل العلاقات الدولية، ليس فقط بوصفه مؤسسة دينية، بل بوصفه قوة دبلوماسية ناعمة تؤثر في السياسات الإقليمية والعالمية.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.