إستراتيجيات عسكريةتقارير

التحوط الإستراتيجي الباكستاني في ضوء سياسة الهندي والهادئ الأمريكية


  • 25 أكتوبر 2023

شارك الموضوع

أدى الصراع الجيوسياسي المُحتدم بين الولايات المتحدة والصين إلى تحالفات جيوسياسية متنوعة في جنوب آسيا. ولقد تطور موقف الهند مِن سياسة عدم الانحياز إلى علاقات أوثق مع الولايات المتحدة للحد من صعود بكين. أما الصين فترى في باكستان (عدو نيودلهي اللدود) شريكًا إستراتيجيًّا؛ في محاولة لكسر سياسة واشنطن في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، التي تعدّها بكين محاولة “لاحتواء حدودها وتطويقها”. في ضوء هذا الصراع، تؤخر إسلام آباد انضمامها إلى أي مشروع يتجاهل بكين، ما جعل صناع السياسة في واشنطن يضعون نيودلهي أولوية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ عمَّن سواها.

من بين الانتقادات المتكررة الموجهة إلى إستراتيجية الولايات المتحدة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ هو التركيز على المحيط الهادئ وتجاهل الهندي؛ لذا كان هناك، في الآونة الأخيرة، اهتمام أكبر بأهمية المحيط الهندي في إستراتيجية المحيطين الهندي والهادئ. ومن المحتمل أن تراجع واشنطن دور باكستان الحاسم في تشكيل الجغرافيا السياسية البحرية الإقليمية في ضوء التوترات القريبة في منطقة الشرق الأوسط.

عام 2019، أجرت إيران وروسيا والصين أول مناورة بحرية مشتركة ثلاثية، أطلق عليها اسم “الحزام الأمني البحري”، وعرضتها وسائل الإعلام الإيرانية كإشارة إلى “مثلث جديد للقوة البحرية”، موجه لإنهاء النفوذ الأمريكي البحري في المحيط الهندي. ورفضت إسلام آباد عرض إيران المشاركة في المناورات الحربية، ويعود هذا إلى عدة أسباب، منها:

  • أولًا: البحرية الباكستانية تملك رؤية خاصة بها، مبنية على نهج يتمحور حول التوازن بين القوى المتصارعة، سواء على المستوى العالمي، مثل الولايات المتحدة، وروسيا، والصين، أو المستوى الإقليمي، مثل المملكة العربية السعودية، وباقي بلدان الخليج العربي، وإيران.
  • ثانيًا: شهد منظور الأمن القومي الباكستاني (2022-2026) تحولًا نموذجيًّا من الإستراتيجية الجغرافية إلى الاقتصاد الجغرافي، وهو ما له آثار مهمة في تخطيط السياسة البحرية. ويمكن اعتبار سياسة باكستان قائمة على “العمى البحري” مقابل “الاهتمام بالأرض”. وقد أعلن رئيس الأركان البحرية الباكستانية مؤخرًا زيادة التركيز على الاقتصاد البحري الباكستاني.
  • ثالثًا: لا ترغب باكستان في أن تُعد مشاركتها في إطار عمل منطقة المحيطين الهندي والهادئ استفزازًا للصين؛ لأن الصين تشكل، على الصعيدين السياسي والإستراتيجي، أهمية كبيرة لباكستان، وخاصة في أعقاب التطورات الإقليمية والعالمية المتغيرة بسرعة، حيث تمثل إسلام آباد نقطة المركز في الممر الاقتصادي الصيني، وهو ما يُعدّ “طوق نجاة” في ظل أزمة طاحنة يمر بها الاقتصاد الباكستاني.
  • رابعًا: تسعى إسلام آباد إلى تطوير رؤية اقتصادية تسمح لها بإعادة تنشيط العلاقات مع جنوب شرق آسيا، والاستفادة مِن الفرص التجارية والمالية التي قد تكسبها مِن تأسيس علاقات اقتصادية مع رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان)، دون أن تُمارس سياسة الأحلاف العسكرية، أو تقدم التزامات أمنية تجعلها في صدام مع بكين.

ومع هذا، شاركت باكستان في قوة المهام المشتركة (150) بقيادة الولايات المتحدة، ولا تعارض الوجود البحري الأمريكي في المحيط الهندي. وتعمل البحرية الباكستانية- بشكل وثيق- مع القوات البحرية المشتركة (CMF)، التي تغطي البحر الأحمر، وخليج عدن، والمحيط الهندي، وخليج عمان، وهذا يوفر لإسلام آباد مساحة حرية في علاقتها مع واشنطن، دون الالتزام- التزامًا كاملًا- بتحالفاتها العسكرية، فيما ترغب الهند، التي لا يجمعها أي وفاق مع باكستان، في نهج شامل للتعامل مع منطقة المحيطين الهندي والهادئ، ولا تُمانع دمج إسلام آباد في الإستراتيجية الأمريكية، من خلال التقييم العملي للفوائد المترتبة على ذلك. واتخذت نيودلهي قرارًا محوريًّا بالانضمام إلى القوات البحرية المشتركة في البحرين، وهو ما كانت ترفضه تاريخيًّا بسبب مشاركة البحرية الباكستانية؛ ما يعكس رغبة نيودلهي في العمل على مواجهة التهديدات الأمنية غير التقليدية على المستويات المتعددة الأطراف. كما أن التقييم الأمني الإستراتيجي الهندي يرى أن العلاقة الناجحة بين الولايات المتحدة وباكستان تفتح طريقًا لمنع إسلام آباد من الانغماس في نفوذ بكين، لا سيما أن أي تحالف بحري بكستاني- صيني يشكل تهديدًا خطيرًا على المجال الحيوي للهند.

وحتى بدون التقييم الهندي، لا تزال باكستان مهمة جدًّا بحيث لا يمكن للولايات المتحدة أن تتجاهلها؛ بسبب موقعها الحيوي، وقدرتها على تشكيل الجغرافيا السياسية الإقليمية. في الماضي، ركزت سياسة واشنطن تجاه باكستان على التعاون العسكري التقليدي، وخاصة جهود مكافحة الإرهاب في أفغانستان، التي أدى انسحاب الولايات المتحدة منها إلى ترك فراغ كبير في العلاقات الثنائية. وبينما يبحث كلا البلدين عن تحول إستراتيجي في العلاقات، ترغب واشنطن في إشراك باكستان، من خلال الإطار المتعدد الأطراف لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ، لكن إسلام آباد تبدو عازمة على الاستمرار في سياسة التحوط الإستراتيجي في علاقتها الخارجية، لا سيما مع الولايات المتحدة، والتركيز على تنمية العلاقات الإستراتيجية الاقتصادية مع الصين لتؤمِّن مصالحها تأمينًا أفضل. وهذه السياسة مهمة جدًّا لباكستان مِن أي وقت مضى؛ بسبب تصاعد المنافسة بين القوى العظمى؛ الولايات المتحدة، وحلف شمال الأطلسي، والصين، وروسيا، وهو ما يهدد بتقسيم العالم إلى كتل متنافسة، على غرار الحرب الباردة.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير


شارك الموضوع