مقالات المركز

التجربة الثورية السورية بين “فضاءات التدفقات” و”فضاءات الأماكن”


  • 7 سبتمبر 2025

شارك الموضوع

خريف عام ٢٠١١، شعر معظمنا بأننا نقف وسط ثورة عالمية. كان كل شيء يحدث بسرعة لا يمكن تصورها، في حين كانت موجة الاضطراب التي بدأت فجأة في تونس تجتاح العالم، وتهدد الجميع.

بالطبع، عندما نعيد النظر فيما جرى، نجد أنه لم يكن من الممكن قط أن تستمر الأمور في التطور بهذه الوتيرة، وبدا الأمر كأنه فيما كانت كل بنى الأمن الدولي المصممة على نحو من شأنه تجنُّب تمرد جماهيري من هذا النوع قد أقنعت نفسها بالنهاية.

في الأثناء، أتت اللحظة الثورية السورية، حيث الوعي الذاتي يكتشف حضوره في اللحظة التاريخية، وكذلك أرجحية سيادته في تلك اللحظة. هو البداية لمشروع صياغة أو (إعادة صياغة) فاعلة ومسيطرة، تسهم في الإسراع بتحويل هذا التهيؤ الثوري إلى واقع فعلي (ثورة كاملة بلحمها ودمها وأعصابها)، يكف عن أن يكون خيارًا، ليغدو ضرورة أملتها الفكرة القائلة: إن الشعب السوري أكثر من حصيلة. إنه عبقرية مبدعة. إنه على الأقل إرادة تأكيد الذات كإرادة.

في مركز ثقل التجربة الثورية السورية، كان هذا الانتقال الحدي للسوريين من “الهيمنة الكاملة” إلى “التحرير الكامل”، كبداية لـ”استقلال ثانٍ” بعد الاستقلال الأول في أربعينيات القرن الماضي، يتحقق هذه المرة ليس ضد الاحتلال الأجنبي، بل ضد الاحتلال المحلي، فقد اشترك النظام الاستبدادي في المقدمات التاريخية والسياسية التي كان يمارسها المحتل الأجنبي في سوريا، والبلاد العربية عمومًا.

ومن هنا، فإن الصفة الاستعمارية تصدُق أيضًا على “النظام العربي الحديث”، الذي أجّل العمل بقواعد الديمقراطية، وتنمية حقوق الإنسان وحرياته، ليؤدي -في نهاية المطاف- إلى ثورة شاملة، كمخرج لحالة التورم والتصلُّب السياسي، الذي صار يستعصي على التطور والنمو.

لقد أدركت النخب الثورية السورية -تمام الإدراك- أن بنية السلطة قائمة، غير أن التصرف بروحية الفعل المباشر يُنكر وجود أي شرعية أخلاقية لاستجاباتها الحتمية، العنيفة عادةً و(دائمًا)، ما استدعى تفاوت التكتيكات النضالية في المجتمع السوري تجاه النظام السلطوي بين الاحتجاج والفعل المباشر. وإذا كان الاحتجاج هو بمرتبته النضالية الأعلى، نداءً موجهًا إلى السلطات بتغيير سلوكها القمعي، فإن الفعل المباشر تمثل في تخليق فضاءات ديمقراطية تقع بكاملها خارج سيطرة النظام، أشعلوا بفعلهم هذا “انتفاضة وطنية”، أفضت إلى “مفارقة السيادة”.

تلك المفردة (السيادة) التي لطالما تغنّى بها النظام المهترئ للسلطة الحاكمة، ومؤدى هذه المفارقة أساسًا هو كالتالي: يمكن للأجهزة الأمنية استخدام العنف بغرض طرد مواطنين يمارسون نوعًا من العصيان المدني، كتجمع غير مأذون به لأكثر من عشرة أشخاص في ميدان عام؛ لأن هذه الأجهزة (شرطة- أمن..) تفرض قوانين أُقِرَّت على النحو الواجب دستوريًّا، وتكتسب شرعيتها منه. ويكتسب الدستور مشروعيته من شيء يُدعى الشعب، غير أنه كيف أسبغ الشعب هذه الشرعية بالفعل على الدستور؟

ليغدو السؤال: إذن، ما الذي يعطي تلك الأجهزة الحق في استخدام القوة لقمع شيء هو ذاته -الانتفاضة الشعبية- ما أسبغ عليهم مشروعية استخدام العنف بالمقام الأول؟ في حين توضح لنا مسارات الثورة السورية أن ذلك تحقق أساسًا عبر أعمال غير قانونية (تزوير)، كان رأي الشعب فيها من أجزاء فولكلور حكم حزب البعث وأيديولوجيته.

ثمة كثرة من الافتراضات المدفونة في العمق بشأن قدرة السوريين المدهشة على أداء سلوك سياسي ناضج، متجايلاً مع حركة المجتمع في بواكير حراكه نحو التحرر لتحطيم أيقونات الخطاب الفاسد ورموزه، خصوصًا أن نظام الحكم -حينذاك- كان يحاول جاهدًا أن يُسعِف نفسه بآليات التأبيد، حيث تداعيات السلطوية ومضاعفاتها غائرة وعميقة على صعيد العلاقات الاجتماعية، فقد كان المجتمع السوري طوال “الحقبة الأسدية” معدوم السيادة على نفسه، وهو ما أدى إلى كسر الرابط بين المجتمع وسيادته، وهذا الأمر أدى إلى تغليف قدرة المجتمع بالشك والتشكيك بأن يكون هو نفسه مصدر سيادته.

ثم نأتي إلى ما هو واضح، وإن أُسيء فهمه على الأغلب، ويتمثل في حقيقة مؤداها أن ما يناسب مجتمعًا من تكتيكات نضالية قد يكون غير ملائم على الإطلاق لمجتمعات أخرى، حيث إن الأقوام تتباين تباينًا كبيرًا في نضالها ضد الجهل والظلم والبؤس والمؤسسات المعيقة، فبعض الأقوام الناشئة في تجربتها الثورية استفاقت من رقدتها الطويلة، وأخذت تصدر ردود فعل تواكب تطور الحياة الدولية المعاصرة، وتدفع نحو الوصول إلى إثراء مفهوم الديمقراطية بمعانٍ جديدة، تفيد تاريخ الديمقراطية نفسها، كشرط لازم للشعوب من أجل استحقاق المكانة الإنسانية في حضارة العالم الراهن.

شمل التمرد السوري بوجه الاستبداد البعثي كل أصناف البشر من “نقابيين ماركسيين إلى لاهوتيين محافظين…”، لكن بقي أن جوهر هذا التمرد مطلب ليبرالي كلاسيكي بجمهورية دستورية علمانية تسمح بانتخابات حرة، واحترام حقوق الإنسان. ولما كان المجتمع السوري الطموح إلى الحرية محرومًا من الآلية، فإنه يستحيل وضع دليل توجيهي للهبات الجماهيرية، كنسخة معاصرة من تجارب سالفة، وإن كانت هناك قاعدة واحدة صالحة لكل مقاومة مدنية، فهي أنه لا توجد قواعد راسخة.

ومعلوم في التجمعات الثورية أن الحركات النضالية تؤدي دورها على أكمل وجه عندما تكيف نفسها على أفضل وجه ممكن مع ظروفها الخاصة، فإن لم تدل هذه الحركات على إعادة اختراع نفسها، فسرعان ما تذوي وتموت، حيث يتوقف السياق الديمقراطي الأفضل على طبيعة المجتمع ذي الصلة، وعلى موروثاته السياسية والثقافية، ويتوقف أيضًا بالطبع على ما يتطلع المشاركون إلى تحقيقه من غاية.

وهذه المرة ستكون يد السوريين على دولاب التاريخ، ففضاءات الأماكن (القرى- المدن- المحافظات…) تحدتها فضاءات التدفقات (المعرفة وأشكال أخرى من المعلومات التي تُنقل من خلال أنسجة عنكبوتية إلكترونية وشبكات افتراضية وفضائية).

ودون أن تغيب عنا آفاق السيكولوجية الأصيلة للشعب السوري، صاحب الإرث النفسي الكبير، والزمن التاريخي الخاص، فإن الشرائح الديناميكية السورية من المجتمع الشبكي (منتديات- تجمعات- ومواقع تواصل اجتماعي) ستقدم طيلة عمر الثورة نموذجًا فريدًا ووحيدًا لفضاءات الإبداع الديمقراطي، حيث أنواع بالغة الاختلاف من البشر أتوا من خلفيات تراثية بالغة التنوع، أصبحوا قادرين على الارتجال والمواءمة بين افتراضات متنافرة بشأن ماهية السياسة ذاتها، ونظرية الدولة العامة، وإدارة الحكم عبر آلية الديمقراطية.

إنما بالأحرى هو تاريخ التنوع المتصاعد لأشكال الكينونة، الذي يُعدّ أعم ناموس للكون، يطبق على المجتمعات البشرية، وأشكال حياتها، ومصيرها.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع