لفهم الأزمة الأوكرانية فهمًا عميقًا، لا بد من العودة قليلًا إلى السياق التاريخي، فالعلاقات الروسية الأوكرانية لم تكن هادئة على مر العقود، إذ شهدت مراحل توتر متصاعدة بسبب مسائل مرتبطة بالهوية الوطنية، واللغة، والتركيبة السكانية في المناطق الشرقية، فضلًا عن الإرث السوفيتي القديم. تبلورت هذه الخلافات على نحو أوضح عقب انهيار الاتحاد السوفيتي سنة 1991، عندما أصبحت أوكرانيا دولة مستقلة ذات سيادة، وأخذت في تعزيز روابطها السياسية والاقتصادية مع الغرب، خاصةً الاتحاد الأوروبي، وحلف شمال الأطلسي.
من وجهة نظر روسيا، تُعَدُّ أوكرانيا جزءًا من الفضاء الحيوي الروسي، ولديها حساسية شديدة تجاه أي تحركات أو توجهات ترمي إلى تعزيز الوجود الغربي في هذا الفضاء القريب من حدودها. تجلّت هذه الحساسية في أحداث سنة 2014، عندما حدثت انتفاضة “الميدان” في كييف، التي أطاحت بالرئيس الأوكراني آنذاك فيكتور يانوكوفيتش، المعروف بقربه من موسكو. تلا ذلك ضم روسيا شبه جزيرة القرم، ودعمها الانفصاليين في دونيتسك ولوغانسك؛ وهو ما أدى إلى فرض عقوبات غربية على موسكو. هذه التطورات فجّرت أزمة حادة لا تزال تداعياتها مستمرة حتى اليوم.
أحد الدروس المستفادة من الماضي هو أن انعدام التفاهمات الجوهرية بشأن مسائل الأمن الإقليمي والهوية الوطنية يجعل من السهل انزلاق المنطقة إلى صراعات مسلحة. فقبل اندلاع العمليات العسكرية الأوسع في فبراير (شباط) 2022، كان هناك اتفاق “مينسك” (بنسختيه الأولى والثانية) الذي سعى إلى فرض تهدئة في مناطق شرقي أوكرانيا، لكنه لم يعالج جذور الأزمة معالجة فعالة، إذ ظل مجرد إطار هشّ يستند إلى مصالح متناقضة، ورؤى متباينة؛ ولذا فقد انهار بسهولة عندما زاد التصعيد على الجبهات العسكرية.
تعقيدات مسألة الهوية اللغة والدين والارتباط الثقافي بين الإخوة السلاف
مع تفاقم النزاع، برزت قضايا الهوية الوطنية بقوة، خاصةً للمواطنين الأوكرانيين الناطقين بالروسية في مناطق الشرق والجنوب، وشعرت بعض هذه المجموعات بأنها مهمشة أو مضطهدة من السلطات المركزية في كييف؛ ما دفع بعضهم إلى التحالف مع الانفصاليين، أو التعاطف مع الموقف الروسي. ومن جانب آخر، عززت الحرب الشعور الوطني الأوكراني لدى شريحة عريضة؛ ما أدى إلى ظهور تيار قومي يؤكد ضرورة الحفاظ على اللغة الأوكرانية، وترسيخ هوية مستقلة تمامًا عن الفضاء الروسي.
يتطلب حل هذا الجانب من الأزمة الاعتراف بالتنوع اللغوي والثقافي كثراء للدولة، وليس تهديدًا لوحدتها، فإقرار الحقوق اللغوية للناطقين بالروسية (أو أي أقلية أخرى)، في إطار دستور يحترم التعددية، قد يقلل النزعات الانفصالية. وبالمثل، فإن تعزيز قيم المواطنة المشتركة، وتحفيز البرامج الثقافية المشتركة بين المناطق الشرقية والغربية، قادران على رأب الصدع، وإبراز العناصر التي توحّد الشعب الأوكراني أكثر من تلك التي تفرقه. أما فيما يتعلق بالبعد الديني، خاصة مع الانقسام الكنسي الذي تصاعد بعد اعتراف بعض الكنائس الأرثوذكسية باستقلال الكنيسة الأوكرانية عن بطريركية موسكو، فينبغي العمل على نزع التسييس عن الشأن الديني، وتأكيد استقلال المؤسسات الدينية عن التجاذبات السياسية.
تبقى شبه جزيرة القرم محورًا صعبًا في أي معادلة تسووية؛ فروسيا تعدّها جزءًا من أراضيها بعد استفتاء 2014، الذي تراه كييف والمجتمع الدولي غير شرعي. بالمقابل، لا يمكن لأوكرانيا التنازل عن القرم؛ لأنها تمثل رمزًا وطنيًّا وإستراتيجيًّا؛ ومن ثم، فإن أي مفاوضات رسمية لوضع حد للحرب لن تكون مكتملة ما لم يُحسَم وضع القرم.
يمكن التفكير في حلول وسط، مثل: منح القرم وضعًا خاصًا تحت وصاية دولية لفترة انتقالية، أو تنظيم استفتاء جديد تحت رقابة أممية صارمة، ووفق معايير دولية متفق عليها، لكن روسيا قد ترفض مطلقًا فكرة فقدان القرم، فيما تصر أوكرانيا على استعادتها؛ لذا يظل هذا الملف مرشحًا لأن يكون العقبة الأخيرة والأكثر صعوبة أمام توقيع أي معاهدة سلام شامل.