يستعد رئيس الوزراء ناريندرا مودي لفترة ثالثة على التوالي في السلطة، مما يجعله ثاني رئيس وزراء هندي يفعل ذلك بعد زعيم حزب المؤتمر جواهر لال نهرو عام 1962، بعدما تمكن حزب بهاراتيا جاناتا الحاكم بزعامة مودي وحلفائه من تأمين أغلبية قدرها 283 مقعدًا في البرلمان الهندي الذي يضم 543 مقعدًا. وبموجب النظام الانتخابي الهندي، يستطيع الحزب أو التحالف الذي يفوز بأكثر من 272 مقعدًا تشكيل الحكومة. فشل حزب بهاراتيا جاناتا (BJP) في تحقيق أغلبية برلمانية صريحة، لتؤكد نتيجة الانتخابات الهندية- من جديد- الطبيعة التي لا يمكن التنبؤ بها للسياسة الهندية.
لسنوات كثيرة، رفع حزب بهاراتيا جاناتا شعار “في النهاية، مودي سيأتي”، وعبرت العبارة عن دعم القواعد الحزبية لمودي، خاصة في أعقاب المأساة الوطنية، والاستجابة الحكومية اللاحقة للحروب مع باكستان. لكن مع اقتراب موعد انتخابات عام 2024، رُفع شعار جديد هو “هذه المرة، أكثر من 400 مقعد”. لقد تصور الحزب أن الانتخابات ليست منافسة بقدر ما هي تصويت للشعبية. ومع أن نتيجة الانتخابات تمثل هزيمة لشعار الحزب، فإنها أعادت تأكيد مؤهلات الهند الديمقراطية. وخلافًا للاتهامات بأن حكومة مودي لولاية ثالثة ستكون بمنزلة موت للديمقراطية الهندية، فقد أظهرت الانتخابات أن الديمقراطية تظل قوية، ولا يمكن التلاعب بها بسهولة في بلد كبير ومتنوع مثل الهند.
الآن، سيكون حزب بهاراتيا جاناتا أكثر اعتمادًا على شركاء في الائتلاف الحكومي، لكنه يبقى أقوى حزب في البرلمان الهندي بعد أن كان قوة هامشية في السياسة الهندية عقودًا من الزمن، وأثبت حزب بهاراتيا جاناتا نفسه على أنه قوة لا يستهان بها. ومن ناحية أخرى، فاز حزب المؤتمر المعارض، الذي قاد أغلب الحكومات في تاريخ الهند بعد الاستقلال، بأقل من نصف المقاعد التي حصل عليها حزب بهاراتيا جاناتا بلا حلفاء. ربما يكون عالم السياسة الهندية متقلبًا، لكن حزب بهاراتيا جاناتا بزعامة مودي موجود ليبقى.
عملت المعارضة الهندية على نزع الشرعية عن المؤهلات الديمقراطية لحزب بهاراتيا جاناتا، ونشرت شائعات عن إمكانية التلاعب بآلات التصويت الإلكترونية، لا سيما في المناطق الريفية النائية. لقد كانت خطوة ذكية وقوية من المعارضة دفعت حزب بهاراتيا جاناتا مضطرًا إلى الدفاع أكثر من غيره عن نزاهة العملية الانتخابية، وطمأنة السكان، ومحاولة امتصاص الخسارة الناتجة عن احتجاجات المزارعين، التي وجدت طريقها في نهاية المطاف إلى صندوق الاقتراع لتُكبد حزب بهاراتيا جاناتا بعضًا من أكبر خسائره في ولايات هاريانا، وراجستان، وأوتار براديش، التي تأثرت بالاحتجاجات.
تنظر المعارضة إلى النتائج في ولاية أوتار براديش، الولاية الأكثر اكتظاظا بالسكان في الهند، والتي لها أهمية استثنائية في الانتخابات الهندية لامتلاكها 80 مقعدًا برلمانيًا بوصفها هزيمة لحزب بهاراتيا جاناتا، حيث حصل الحزب على 33 مقعدًا فقط، في حين حصل على 71 و62 مقعدًا في عامي 2014 و2019 على التوالي، مما ساعد على صعود الحزب إلى السلطة في دلهي. كما خسر الحزب في دائرة فايز آباد، حيث افتتح مودي معبد رام في أيوديا في وقت سابق من هذا العام، وهو ما يُنظر إليه على أنه محور حملة حزب بهاراتيا جاناتا. لكن حزب بهاراتيا جاناتا حقق نجاحًا استثنائيًّا في ولاية كيرالا الجنوبية التي تُعد منذ فترة طويلة معقلًا لليسار، لا سيما أن التركيبة السكانية للولاية (الهندوس 55 %، المسلمون 27 %، المسيحيون 18 %) معقدة جدًّا، ما يعني أن الحزب استطاع على الأقل حصد أصوات المسيحيين، وليس فقط الهندوس.
على صعيد آخر، كانت المرأة الهندية تاريخيًّا تصوت لحزب المؤتمر المُعارض، ولكن في الانتخابات الماضية بسبب المعرفة السياسية، ومعرفة القراءة والكتابة، والتحشيد الإعلامي، أعادت توجيه أصواتها إلى حزب بهاراتيا جاناتا، ومنح 46 % من الناخبات الهنديات، البالغ عددهن 472 مليونًا، أصواتهن للتحالف الذي يقوده حزب بهاراتيا جاناتا في الانتخابات، والسبب: خطط مودي للرعاية الاجتماعية، التي ركزت على رفاهية المرأة، بما في ذلك الدعم المادي، والفوائد المنزلية، مثل غاز الطهي المجاني، والمياه المنقولة عبر الأنابيب، والصرف الصحي.
هذا يعني أن الرغبة في الحديث عن هزيمة أو فوز للمعارضة تتجاهل أن خطاب هندوتفا الذي يتبناه حزب بهاراتيا جاناتا ما زال قائمًا، وأنه بدأ بجذب مؤيديين أساسيين من ديانات أخرى غير الهندوسية، وأن هذا قد يعني استمرار الحزب في متابعة سياساته الأكثر إثارة للجدل، التي تعتمد على الهوية الدينية والجندرية، ويتضمن ذلك الجهود الرامية إلى تنفيذ قانون مدني موحد، يستلزم مجموعة واحدة من قوانين الأحوال الشخصية تتجاوز الطوائف الدينية، علمًا أن السيطرة المطلقة لمودي لم تمكنه من تمرير قانون المواطنة، واحتواء حركة المزارعين، لا سيما أن الأخيرة اختارت الشوارع موقعًا لممارسة الضغط الديمقراطي بدلًا من الأحزاب السياسية، أو البرلمان، أو حتى مراكز الاقتراع. وبهذا المعنى فإن ما بدأنا نشهده في الهند عبارة عن عملية ديمقراطية معقدة ما بين المؤسسات المُنتخبة وبحث المواطنين عن مواقع بديلة وغير رسمية لممارسة الضغط الديمقراطي من أجل مساءلة الحكومة.
على المستوى الإجرائي، أثبت الديمقراطية الهندية أنها على قيد الحياة، على عكس الادعاءات المحلية والدولية، حيث لم تشهد عمليات فرز الأصوات شكاوى بشأن تزوير الأصوات أو التلاعب بها مقارنة بالانتخابات السابقة. كما أكد القضاء الهندي استقلاله خلال الدورة الانتخابية. وفي منتصف فبراير (شباط)، قضت المحكمة بأن السندات الانتخابية “وسيلة لجمع التبرعات” غير دستورية؛ لأنها تمنح ميزة غير عادلة للحزب الحاكم بهاراتيا جاناتا، ثم منحت كفالة مؤقتة لأرفيند كيجريوال، زعيم حزب آم أدمي، الذي ألقي القبض عليه في مارس (آذار) بتهمة الكسب غير المشروع، مما سمح له بالقيام بحملته الانتخابية، وانتُخِب أمريتبال سينغ، وهو زعيم انفصالي للسيخ يدعو إلى إنشاء وطن منفصل للسيخ يُعرف باسم خالستان، ومعتقل منذ العام الماضي في ولاية البنجاب، انتُخب نائبًا في البرلمان، وفاز الشيخ عبد الرشيد، المسجون بتهمة تمويل الإرهاب، وهو زعيم من كشمير الخاضعة للإدارة الهندية في منطقة الهيمالايا المتنازع عليها، بمقعد برلماني بأكثر من 200 ألف صوت، لتعكس هذه النتائج أن حزب بهاراتيا جاناتا حافظ على استمرار وجود درجة من الضوابط والتوازنات في مؤسسات الهند.
سياسيًّا، تعهد حزب بهاراتيا جاناتا بجعل الهند دولة متقدمة بحلول عام 2047؛ ومن ثم فإن إحدى أولويات السياسة الرئيسة للحكومة الجديدة ستكون خلق بيئة أكثر تمكينًا للاستثمار الأجنبي، وتحويل البلاد إلى مركز تصنيع عالمي موثوق به. ومن منظور السياسة الخارجية، سيتطلب هذا إحراز تقدم في كثير من مفاوضات التجارة الحرة الجارية، بما في ذلك مع المملكة المتحدة. ومن المتوقع استمرار سياسة مودي الأكثر حزمًا، والمدفوعة أيديولوجيًّا، والترويج للهند كدولة حضارية. ومع أن هذا كان بلاغيًّا جزئيًّا، مثل الإشارة إلى الهند باسم “بهارات”، والإشارة إلى البلاد بصفات مثل “معلم العالم”، و”صديق العالم”، فإنها جهود جوهرية لجعل الهند قوة جسر بين الغرب والجنوب العالمي، لا سيما خلال رئاسة الهند لمجموعة العشرين، عندما ساعدت على تسهيل عضوية الاتحاد الإفريقي.
أخيرًا، ينتظر الجميع ماذا سيحدث، وهذا سيعتمد على كيفية تعامل حزب بهاراتيا جاناتا مع الواقع الجديد، حيث لا يزال أكبر حزب منفرد في الهند، ومن المرجح أن يشكل التحالف الوطني الديمقراطي (NDA) الحكومة بقيادة ناريندرا مودي، الذي منذ أيامه في ولاية غوجارات حتى صعوده السريع إلى السلطة عام 2014، كانت المركزية السياسية جوهر نموذج الحكم الذي وضعه، وليس هناك ما يشير إلى أنه سيتغير الآن، لا سيما أن حزب المؤتمر العريق لم يتمكن من تقديم ميلاد جديد له، وقد فشل ائتلاف المعارضة- الذي يطلق عليه اختصارًا (INDIA) (التحالف الوطني للتنمية والشمول الهندي)- في تشكيل جبهة موحدة وسط كثير من الانشقاقات، وعدم وجود توافق في الآراء بشأن ترتيبات تقاسم المقاعد في البرلمان في عدة ولايات.
وكُل ما سبق يشكل أسئلة حاسمة للمضي قُدمًا في الحكم، فهل سيستمر حزب بهاراتيا جاناتا في السير على طريق المركزية السياسية التي شهدناها منذ عام 2014، أم أنه سيعي الحدود التي وضعها الناخب الهندي له، لا سيما فيما يتعلق بقضايا الفقر والاختلال الطبقي، وانعدام المساواة، ومشكلات الزراعة؟ وإذا اختار تجاهل هذه الرسالة، فسوف تنفتح مواقع جديدة للمعارضة الداخلية والخارجية، ولكن لا شك أن مودي وحزبه سيكتبان- لسنوات مقبلة- فصلًا جديدًا من تاريخ الهند الديمقراطي.
ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.