مقالات المركز

الانتخابات المحلية التركية.. ملامح المعركة الأخيرة لأردوغان


  • 29 مارس 2024

شارك الموضوع

لعل نتائج الانتخابات المحلية في تركيا التي ستُجري بعد أيام، ستشكل نقطة تحول رئيسة في مسار الديمقراطية التركية، وستمثل اختبارًا حقيقيًّا لجماهيرية الأحزاب الكبرى، ومؤشرًا على الاتجاه الذي قد تتبناه تركيا في المستقبل، خاصةً بعد تصريح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بأن انتخابات الأحد المقبل ستكون الأخيرة له وفقًا للدستور، وهو التصريح الذي أثار الجدل حول كونه مجرد حيلة لكسب أصوات المؤيدين وتعاطفهم، أم إستراتيجية جديدة لتعديلات دستورية وشيكة، لا سيما في ظل الحملة الشرسة التي ينتهجها حزب الشعب الجمهوري للحفاظ على المكسب الوحيد للمعارضة في أنقرة وإسطنبول منذ ما يقرب من ثلاثة عقود، لكن حسابات الفوز والخسارة تحددها عوامل معقدة.

خريطة المنافسة

ستبدأ عملية الاقتراع بين الأحزاب السياسية المشاركة، البالغ عددها 34 حزبًا، صباح يوم الأحد المقبل، وسيكون الأول من أبريل (نيسان) تاريخًا جديدًا على صعيد بلديات المقاطعات، خاصة إسطنبول التي دائمًا ما ينظر إليها بعين الأهمية، إلى جانب أنقرة العاصمة السياسية لتركيا، ليُحسم الصراع بين حزب العدالة والتنمية الحاكم، وحزب الشعب الجمهوري المعارض، وحزب الرفاه الجديد، وحزب السعادة ذي التوجه الإسلامي، وحزب النصر اليميني المتطرف، وبعض الأحزاب الصغيرة.

منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة قبل أكثر من عقدين، لم تكن الانتخابات المحلية تأخذ هذا القدر الكبير من الأهمية على مستوى السياسة العامة، لكن الحال تغيرت بعد انتخابات 2019، حينما فازت معارضة موحدة ببلديات ثلاث أهم مدن تركية؛ هي إسطنبول، وأنقرة، وإزمير، منهيةً سيطرة الحزب الحاكم على المدن التي استمرت نحو 25 عامًا.

ولكون من فاز بإسطنبول فاز بتركيا، ومن خسر إسطنبول خسر تركيا، المعادلة الوحيدة في كل الانتخابات المحلية التي شهدتها تركيا خلال العقود الماضية، يقاتل الآن حزب العدالة والتنمية الحاكم برئاسة أردوغان لاستعادة إرثه في إسطنبول؛ لذا رشح لهذا الهدف مراد كوروم، القادم من وزارة البيئة والتحضر العمراني. وفي المقابل، يسعى حزب الشعب الجمهوري، وهو أكبر أحزاب المعارضة، إلى تبديد آثار الخسارة التي تكبدها قبل أشهر في الانتخابات الرئاسية، ويعمل على كسب جولة انتصار ثانية، ليحظى بكرسي رئاسة البلدية، باسم أكرم إمام أوغلو، لكن ما بين هذين الاسمين كانت أحزاب عدة قد رشحت شخصيات لخوض المنافسة على كرسي عمدة إسطنبول.

لكن استطلاعات الرأي تشير إلى سباق متقارب في إسطنبول بين إمام أوغلو وكوروم، اللذين وعدا بمشروعات البنية التحتية لجعل المباني مقاومة للزلازل، وتخفيف الازدحام المروري المزمن في إسطنبول، في حين يرجح على نطاق عريض أن تحافظ المعارضة على سيطرتها على أنقرة، حيث لا يزال رئيس البلدية الحالي منصور يافاش، الذي اختير أيضًا مرشحًا رئاسيًّا مستقبليًّا، يحظى بشعبية كبيرة.

متغيرات السباق

تكمن استثنائية السباق الحالي في عدد من المتغيرات التي يمكنها تغيير مسار اللعبة الانتخابية في تركيا، يتمثل أبرزها في:

  • تدخل أردوغان: من دون ترك أي شيء للمصادفة، عقد أردوغان، على مدى الأشهر الماضية، تجمعات انتخابية في جميع أنحاء البلاد، وقام بحملات انتخابية نيابة عن المرشحين لمنصب رئيس البلدية، فاستعادة إسطنبول وأنقرة وتحقيق أداء قوي في صناديق الاقتراع من شأنه أن يزيد عزم أردوغان على تقديم دستور جديد قد يسمح له بالحكم بعد عام 2028 عندما تنتهي فترة ولايته الحالية؛ لأن أردوغان وحزب العدالة والتنمية لا يملكان حاليًا مقاعد كافية في البرلمان لسن دستور جديد، لكنّ فوزًا انتخابيًّا آخر قد يدفع بعض البرلمانيين المعارضين المحافظين إلى تغيير مواقفهم.
  • الفرصة الأخيرة للمعارضة: تفكك تحالف المعارضة المكون من ستة أحزاب، بقيادة حزب الشعب الجمهوري، عقب هزيمة مدمرة في الانتخابات الرئاسية العام الماضي، حيث أصيب أنصار التحالف بالإحباط بعد فشله في الإطاحة بأردوغان، على الرغم من الاضطرابات الاقتصادية، وتداعيات الزلزال الكارثي؛ لذا فإن قدرة حزب الشعب الجمهوري على التمسك بالمدن الكبرى التي استولى عليها قبل خمس سنوات من شأنها أن تساعد على تنشيط الحزب، والسماح له بتقديم نفسه بديلًا لحزب العدالة والتنمية الحاكم. وسعى حزب الشعب الجمهوري إلى تغيير قيادته بعد وقت قصير من الهزيمة الانتخابية، حيث يراهن رئيس الحزب الجديد، أوزجور أوزيل، على إثارة حماسة المؤيدين، واستغلال تلك الفرصة الاستثنائية، خاصة أن إمام أوغلو- مرشح الحزب- سيخوض الانتخابات المحلية دون دعم الحزب الرئيس المؤيد للأكراد في تركيا، ما يضعف شعبيته أمام مراد كوروم.
  • المال السياسي: كما هي الحال في الانتخابات السابقة، كان أردوغان يستغل مزايا وجوده في منصبه، وغالبًا ما يستفيد من موارد الدولة في أثناء الحملات الانتخابية، لا سيما أن نحو 90 % من وسائل الإعلام التركية في أيدي الحكومة أو مؤيديها؛ ما يمكّن الحزب الحاكم وحلفاءه، في حين يحرم المعارضة من الفرصة نفسها. ووفقًا لتصريحات المعارضة، خصصت هيئة الإذاعة والتليفزيون التركية (تي آر تي) 32 ساعة من البث للحزب الحاكم في أول 40 يومًا من الحملة الانتخابية، مقارنة بـ25 دقيقة للمنافسين، وأخطر من هذا، إصدار أردوغان تحذيرات مستترة للناخبين لدعم المرشحين المدعومين من الحزب الحاكم، حيث زاد الحد الأدنى للأجور بنسبة 49 %، على الرغم من الجهود التي تبذلها حكومته للسيطرة على التضخم المرتفع، ما يجعل لعبة الانتخابات في يد من يملك أكثر.
  • العامل الكردي: يشكل الأكراد نحو 17 % من سكان تركيا؛ ومن ثم يعد الصوت الكردي لاعبًا بارزًا في السياسة التركية، إذ أسهم الأكراد في وصول أكرم إمام أوغلو إلى بلدية إسطنبول في الانتخابات الماضية، لكونهم يشكلون ما يقدر بنحو 10 % من الناخبين في إسطنبول، ما يجعل أصواتهم يمكن أن تكون حاسمة في السباق على رئاسة البلدية هذه المرة أيضًا، لكن الخسارات المتتالية، والخلافات الكبيرة في حزب الشعب الجمهوري، دفعت الأحزاب الكردية إلى إعادة تقييم تحالفها معه، فأعلن حزب المساواة الشعبية والديمقراطية الكردي خوضه الانتخابات المحلية بمرشحيه، دون تحالف مع أي حزب آخر، وهو ما قد يسحب الأصوات الكردية من المعارضة، لكن أردوغان وضع خطة استباقية لمواجهة هذا التأثير الكردي؛ حيث أُقيل على مدار السنوات السابقة رؤساء البلديات المنتخبون من مناصبهم؛ بسبب صلاتهم المزعومة بالمسلحين الأكراد، واستُبدل بهم أمناء عينتهم الدولة.

توقعات المشهد

ترتبط سيناريوهات هذه الانتخابات بأهم محدد فيها، وهو ما يرتبط بفكرة غياب التحالفات مقابل إعلانات المنافسة الفردية؛ بغية اختبار كل حزب لمعدل شعبيته الحقيقية؛ ما دفع حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية إلى دخول الانتخابات بمرشحيهما الخاصين لإثبات مدى سيطرتهما على المشهد السياسي، في حين تمثل هدف الأحزاب الصغيرة في تركيا- في المقابل- في الكشف عن نسبة التأييد لها؛ لأنها لم تفعل ذلك منذ تأسيسها، وهو ما حفز دخولها في المنافسة منفردة.

ولعل ما رسخ فكرة المنافسة الفردية لدى أحزاب المعارضة أيضًا، المواقف الغامضة التي اتخذها حزب الشعب الجمهوري خلال الفترة الأخيرة، والتي دفعت أحزابًا كانت متحالفة معه إلى الابتعاد عنه، وخوض الانتخابات منفردة، ومع ذلك يبدو أن الانتخابات هذه المرة ليست هدف الأحزاب الصغيرة؛ بل إنها تتطلع إلى انتخابات 2028، وترى أنها كلما تمكنت من إظهار حجمها التمثيلي، تحولت إلى رقم صعب في المعادلة الانتخابية بعد أربع سنوات، فأحزاب المعارضة لم تعد تقبل التجانس في الانتخابات المحلية الحالية؛ لأسباب ترتبط بشدة بالهزيمة في انتخابات الرئاسة والبرلمان.

محصلة القول أن أصوات ملايين الناخبين في تركيا لرؤساء البلديات والإداريين في الانتخابات المحلية ستقيس شعبية الرئيس رجب طيب أردوغان، في الوقت الذي يحاول فيه حزبه الحاكم استعادة المدن الرئيسة التي خسرها قبل خمس سنوات. وعلى الجانب الآخر، فإن احتفاظ حزب الشعب الجمهوري ببلديات المدن الرئيسة من شأنه أن يساعد على تنشيط المعارضة التركية، التي أصبحت ممزقة ومحبطة بعد الهزيمة في الانتخابات الرئاسية التي جرت العام الماضي، بيد أن انتصار حزب أردوغان قد يدفع الزعيم التركي إلى متابعة تغييرات دستورية قد تسمح له بالحكم بعد انتهاء فترة ولايته الحالية؛ ومن ثم فلن تقتصر نتائج الانتخابات الحالية على معرفة رؤساء بلديات تركيا القادمين، ومن ستكون له السيطرة على مفاصل الدولة التركية؛ بل ستكشف لنا عن موعد نهاية الحقبة الأردوغانية.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع