تشهد جورجيا اليوم مرحلة حرجة من تاريخها السياسي، حيث جاءت نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة لتظهر فوز حزب “الحلم الجورجي” الحاكم بنسبة 54.08% من الأصوات، في حين حصل الائتلاف المعارض المؤيد لأوروبا على 37.58%. وبينما أعلن الحزب الحاكم انتصاره، رفضت المعارضة الاعتراف بالنتائج، واتهمت السلطات بتزوير الانتخابات؛ مما يعكس الانقسام السياسي العميق في البلاد. لفهم الأبعاد المختلفة لهذه الانتخابات، يجب النظر في السياق التاريخي لجورجيا، ودور الفاعلين الدوليين، مثل روسيا والغرب، وكذلك الديناميكيات الداخلية المؤدية إلى هذا الانقسام.
تاريخ جورجيا السياسي زاخر بالتقلبات والتحديات منذ استقلالها عن الاتحاد السوفيتي عام 1991. خلال تلك الفترة، كانت جورجيا تسعى إلى بناء دولة ديمقراطية مستقلة في ظل تحديات اقتصادية وأمنية كبيرة. فترة التسعينيات شهدت صراعات داخلية، بما في ذلك حروب انفصالية في أبخازيا، وأوسيتيا الجنوبية، دعمتها روسيا على نحو كبير؛ مما أدى إلى تفاقم العلاقات بين البلدين.
في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وبعد “ثورة الورود” في عام 2003، توجهت جورجيا بوضوح نحو الغرب تحت قيادة الرئيس ميخائيل ساكاشفيلي، حيث سعى إلى تعزيز العلاقات مع الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (الناتو)، لكن هذا التوجه الغربي أثار حفيظة روسيا؛ مما أدى إلى تصاعد التوترات، وبلغت ذروتها في الحرب الروسية الجورجية عام 2008، التي تركت أثرًا عميقًا في المشهد السياسي الجورجي، وأكدت أهمية روسيا بوصفها فاعلًا لا يمكن تجاهله في السياسة الداخلية لجورجيا.
لطالما كانت روسيا لاعبًا رئيسًا في السياسة الجورجية، وتعد الانتخابات الأخيرة تجسيدًا للصراع بين التوجهات الجورجية نحو الغرب، ونفوذ روسيا المتواصل في البلاد. حزب “الحلم الجورجي”، الذي أسسه الملياردير بيدزينا إيفانشفيلي، تبنى موقفًا متوازنًا -إلى حد ما- فيما يتعلق بالعلاقات مع روسيا، حيث اعتمد على إستراتيجية إبقاء البلاد خارج النزاع في أوكرانيا، وهو ما أكسبه تأييدًا من الناخبين الذين يسعون إلى الحفاظ على الاستقرار، وتجنب الدخول في مواجهات دولية.
بالإضافة إلى ذلك، فإن روسيا دعمت -على نحو غير مباشر- حزب “الحلم الجورجي” من خلال وسائل الإعلام الموالية لها، والتأثير في الاقتصاد الجورجي. التحفظ الروسي على تكامل جورجيا مع الاتحاد الأوروبي والناتو كان دائمًا واضحًا، ومع أن الحزب الحاكم يعلن رغبته في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، فإن سياساته توحي بتقارب أكثر مع روسيا؛ مما يضعه في مواجهة مباشرة مع المعارضة المؤيدة للغرب.
من جهة أخرى، يحظى الائتلاف المعارض المؤيد لأوروبا بدعم غربي قوي، إذ يرى الغرب جورجيا جزءًا من “المجال الأوروبي الأوسع” الذي يسعى إلى تعزيز الديمقراطية والاستقرار في المنطقة. الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة قدما دعمًا سياسيًّا واقتصاديًّا كبيرًا لجورجيا منذ استقلالها، لكن التقدم الذي أحرزته البلاد نحو تحقيق المعايير الأوروبية تباطأ في السنوات الأخيرة، لا سيما مع تصاعد الانتقادات بشأن ميل الحزب الحاكم إلى الحكم الاستبدادي.
كانت الانتخابات الأخيرة اختبارًا لعلاقات جورجيا مع الغرب، حيث أبدت كثير من الجهات الغربية مخاوفها بشأن نزاهة الانتخابات، وحرية الإعلام. منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، التي راقبت الانتخابات، أشارت إلى وجود مخالفات، وإلى أن البيئة السياسية في جورجيا أصبحت أقل شفافية. الغرب يرى أن تكامل جورجيا مع الاتحاد الأوروبي معلق بسبب عدم التزام الحزب الحاكم بالإصلاحات المطلوبة.
النتائج المتباينة بين الحزب الحاكم والمعارضة تعكس الانقسام السياسي العميق في جورجيا بين من يفضلون التقارب مع روسيا، ومن يرون أن مستقبل البلاد يكمن في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. حزب “الحلم الجورجي” يعتمد على خطاب الاستقرار والواقعية السياسية، مركِّزًا على عدم الدخول في صراعات تؤثر في الحياة اليومية للمواطنين، في حين ترى المعارضة أن هذا النهج يضعف سيادة جورجيا، ويعوق تحقيق أحلامها الأوروبية.
الانقسام بين المدن الكبرى والمناطق الريفية يؤدي أيضًا دورًا كبيرًا في هذه الانتخابات؛ ففي المدن الكبرى مثل تبليسي، تحظى المعارضة المؤيدة للغرب بشعبية أكبر، في حين يميل سكان المناطق الريفية إلى دعم الحزب الحاكم بسبب خطاب الاستقرار الذي يروج له الحزب. هذا الانقسام الجغرافي يعكس أيضًا اختلافات اقتصادية واجتماعية بين مختلف فئات المجتمع الجورجي، حيث يواجه سكان الريف تحديات اقتصادية أكبر، تجعلهم أكثر عرضة للتأثر بالخطاب الداعي إلى الاستقرار.
نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة تضع جورجيا في موقف حساس؛ فمن ناحية، يجب على الحزب الحاكم التعامل مع ضغط داخلي متزايد من المعارضة التي لا تعترف بالنتائج، وتتهمه بالتزوير، ومن ناحية أخرى، عليه التعامل مع المجتمع الدولي الذي يشكك في نزاهة العملية الانتخابية، ويدعو إلى احترام المعايير الديمقراطية. المعارضة تواجه تحديًا كبيرًا في توحيد صفوفها، وتقديم بديل واضح وواقعي يستطيع منافسة الحزب الحاكم على أرض الواقع.
التحدي الأكبر أمام جورجيا هو كيفية الموازنة بين توجهاتها الأوروبية وعلاقاتها مع روسيا. في ظل الظروف الدولية الحالية، وبخاصة الحرب في أوكرانيا، أصبحت الخيارات أكثر صعوبة، حيث تجد جورجيا نفسها مضطرة إلى اتخاذ مواقف دقيقة للحفاظ على استقلالها، وتجنب أي تصعيد قد يؤدي إلى زعزعة استقرارها الداخلي.
يؤدي الاقتصاد دورًا حيويًّا في تحديد توجهات الناخبين والسياسات الحكومية. جورجيا، التي تعتمد -على نحو كبير- على الاستثمارات الأجنبية، والمساعدات الدولية، تجد نفسها في وضع حساس بين تعزيز علاقاتها الاقتصادية مع الاتحاد الأوروبي والغرب، والحفاظ على علاقاتها التجارية مع روسيا. الاقتصاد الجورجي شهد نموًا ملحوظًا في السنوات الأخيرة، لكن التفاوت في توزيع الثروة بين المدن والمناطق الريفية لا يزال يمثل تحديًا كبيرًا.
الحزب الحاكم يركز على تحقيق استقرار اقتصادي، مستفيدًا من الاستثمارات الروسية والعلاقات الاقتصادية الوثيقة مع موسكو. من جهة أخرى، ترى المعارضة أن التكامل مع الاتحاد الأوروبي هو السبيل لتعزيز النمو الاقتصادي، وتحقيق التنمية المستدامة. الانقسام بين الرؤى الاقتصادية للحزبين يعكس الاختلاف في توجهاتهما السياسية، ويؤدي إلى انقسام في دعم الناخبين.
يضطلع الإعلام بدور كبير في تشكيل الرأي العام في جورجيا، حيث توجد وسائل إعلام موالية للحكومة، وأخرى موالية للمعارضة، وكل طرف يسعى إلى التأثير في الناخبين من خلال سرد روايته للأحداث. وسائل الإعلام الروسية تسهم أيضًا في تشكيل الصورة العامة للحزب الحاكم، وتقديمه على أنه خيار الاستقرار. من ناحية أخرى، تتعرض وسائل الإعلام المعارضة لضغوط وتقييدات تؤثر في قدرتها على تقديم وجهة نظر مختلفة.
التلاعب الإعلامي والرقابة هما من التحديات التي تواجه الإعلام المستقل في جورجيا، مما يعوق القدرة على تحقيق نقاش عام حر وشفاف. هذه البيئة الإعلامية تعزز حالة الاستقطاب، وتزيد صعوبة التوصل إلى تفاهمات بين الأطراف المختلفة.
العوامل الاجتماعية والثقافية تؤدي أيضًا دورًا مهمًّا في تحديد نتائج الانتخابات وتوجهات الناخبين. الثقافة السياسية في جورجيا تتميز بالانقسامات العميقة والتوجهات المتباينة بين الأجيال المختلفة. الشباب الجورجي، خاصةً في المدن الكبرى، يميل إلى التوجه نحو الغرب، ويرغب في تعزيز الديمقراطية والتكامل الأوروبي، في حين يميل كبار السن في المناطق الريفية إلى دعم الحزب الحاكم بسبب ارتباطهم القوي بالتقاليد، والخوف من التغيير الجذري.
يضطلع الدين أيضًا بدور في تشكيل التوجهات السياسية، حيث تتمتع الكنيسة الأرثوذكسية الجورجية بنفوذ كبير في المجتمع، وغالبًا ما تدعم سياسات الحزب الحاكم باعتبارها تعزز الهوية الوطنية، وتحمي القيم التقليدية، وهو ما يسهم في تعزيز قاعدة الحزب الحاكم بين الناخبين المحافظين.
كان للحرب في أوكرانيا تأثير كبير في السياسة الجورجية؛ حيث زادت مخاوف الناخبين بشأن احتمال تصعيد مشابه في بلادهم. استفاد حزب “الحلم الجورجي” من هذه المخاوف من خلال تبني سياسة الحياد، والسعي إلى الحفاظ على استقرار البلاد، وعدم الانخراط في النزاعات الدولية. هذا النهج أكسبه دعمًا من الفئات التي تخشى التورط في صراع مع روسيا.
في المقابل، ترى المعارضة أن الابتعاد عن النزاعات لا يعني التضحية بسيادة البلاد وتوجهها الأوروبي. الحرب في أوكرانيا أصبحت رمزًا للصراع بين الديمقراطية والتأثير الروسي، والمعارضة تسعى إلى استغلال هذا الرمز لتعبئة الناخبين ضد الحزب الحاكم.
على الرغم من فوز الحزب الحاكم في الانتخابات الأخيرة، فإن المشهد السياسي في جورجيا لا يزال غير مستقر؛ فقد تعهدت المعارضة بمواصلة النضال من أجل تحقيق الديمقراطية، والتكامل الأوروبي؛ وهو ما قد يؤدي إلى تزايد الاحتجاجات، والضغط على الحكومة. التحولات السياسية الممكنة تعتمد -على نحو كبير- على قدرة المعارضة على التوحد، وتقديم رؤية بديلة واضحة ومقنعة للناخبين.
من الممكن أيضًا أن تؤدي الضغوط الدولية دورًا في دفع الحزب الحاكم نحو تنفيذ إصلاحات سياسية. الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لديهما مصلحة في استقرار جورجيا وتوجهها نحو الديمقراطية، وقد يؤدي الضغط الدولي إلى تغييرات في السياسات الداخلية.
الخاتمة
الانتخابات الجورجية الأخيرة كشفت -بوضوح- عن حجم الانقسام السياسي داخل البلاد، وكذلك عن التأثير الكبير الذي تمارسه القوى الدولية، سواء من روسيا أو من الغرب. هذا الصراع بين التوجه نحو أوروبا والحفاظ على علاقات متينة مع روسيا يعكس واقعًا معقدًا تواجهه جورجيا منذ استقلالها، ويظهر أن الطريق نحو الديمقراطية والاستقرار لا يزال محفوفًا بالتحديات.
الاستقرار السياسي في جورجيا يعتمد -على نحو كبير- على قدرة الأطراف المختلفة على الحوار والتوصل إلى تفاهمات تضمن مستقبل البلاد. في ظل الظروف الحالية، يصبح من الضروري أن يكون هناك توازن حقيقي بين التوجهات المختلفة، وأن يتمكن السياسيون الجورجيون من إيجاد مسار يضمن استقلال البلاد، ويحافظ في الوقت نفسه على علاقاتها مع القوى الدولية. قد تكون الانتخابات انتهت، لكن الصراع من أجل مستقبل جورجيا لا يزال في بدايته، وما يحدث الآن سيحدد مسار البلاد لسنوات كثيرة مقبلة.
ما ورد في التقرير يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.