تقدير موقف

الاقتصاد الباكستاني وأزمة الديون الخارجية


  • 4 أغسطس 2024

شارك الموضوع

بعد انتخابات فبراير (شباط) 2024، واجهت الحكومة الباكستانية مهمة حاسمة تمثلت في إعادة جدولة مدفوعات ديونها الخارجية التي بلغت (124.5) مليار دولار أمريكي، أي ما يُعادل (42 ٪) من الناتج المحلي الإجمالي، وفي ظل فشل الاقتصاد في توفير عوائد تُغطي الديون المستحقة، بدأت إسلام آباد التفاوض مع المؤسسات المتعددة الأطراف، والبنوك والمنظمات المالية الأجنبية. ومِن المتوقع أن تلجأ باكستان إلى الصين للحصول على تنازلات، في ضوء مساهمتها في الديون من خلال مبادرة الحزام والطريق.

تبدو التزامات الدين الخارجي الباكستاني متواضعة، وليست مرتفعة بالمعايير الدولية، لكن عائدات النقد الأجنبي السنوية للبلاد من الصادرات لا تكفي لدفع ثمن الواردات. وخلال الفترة من عام  2022 إلى عام 2023، بلغ عجز الحساب الجاري الباكستاني (30.5) مليار دولار أميركي، باستثناء التحويلات المالية، وتمت تغطية ما يقرب من (90) في المئة من هذا العجز من خلال تحويلات الباكستانيين العاملين في الخارج، والباقي من خلال الاقتراض.

تعوق المشكلات المحلية زيادة عائدات التصدير، لا سيما مِن المنسوجات التي تعد ركيزة أساسية للنقد الأجنبي للاقتصاد الباكستاني، لكن عام 2024 شهد إغلاقًا واسعًا للمصانع ومعامل النسيج الباكستانية بسبب ارتفاع أسعار الكهرباء؛ مما قلل قدرتها على الإنتاج للتصدير، بالإضافة إلى أزمة السوق الموازية لأسعار الصرف؛ مما يضر بالقطاع المصرفي الرسمي، مع أن الحكومة شنت حملة أمنية واسعة على سماسرة العملة غير القانونيين في محاولة لاستقرار سعر الصرف الرسمي للروبية مقابل الدولار الأمريكي، ولكن هذا لم يشجع المغتربين الباكستانيين على إعادة إرسال أموالهم من خلال القنوات الرسمية.

وقد حدد البيان ربع السنوي الأخير للبنك المركزي الباكستاني أن ما يقرب من (99.1) مليار دولار أمريكي من أصل ديون بلغت (128.1) مليار دولار أمريكي هي ديون حكومية، منها (37.1) مليار دولار للمؤسسات المتعددة الأطراف، كالبنك الدولي، وبنك التنمية الآسيوي. وهذه الديون عادة ما تكون طويلة الأجل وميسّرة، وهي منخفضة الفائدة، وقابلة للسداد على مدى (15) إلى (30) عامًا. وتدين الحكومة الباكستانية بمبلغ إضافي قدره (7.8) مليار دولار لصندوق النقد الدولي.

لكن الحكومة الباكستانية بدأت باقتراض ديون جديدة بشروط غير ميسرة، وقد اتخذت هذه الديون عمومًا شكل بيع صكوك- وهي شهادة مالية إسلامية- وسندات اليورو- وهي أداة دين بالعملة الأجنبية. ويبلغ حجم الدين الجديد (7.8) مليار دولار أمريكي، ومن المستحق سداده على فترات مختلفة تتراوح بين 5 و10 و30 عامًا، ولكن بأسعار فائدة مرتفعة. وهناك أيضًا التزامات بالعملة الأجنبية نتيجة للترتيبات مع بنوك المملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، والصين. وفي السنوات الأخيرة وافقت بكين على مساعدة باكستان بإيداع بعض أموالها في البنك المركزي الباكستاني، فضلًا عن بعض عمليات المبادلة، وتخصيصات حقوق السحب الخاصة، بما يعادل (11.7) مليار دولار أمريكي.

أما البنوك الباكستانية والمؤسسات الخاصة، فهي مدينة بنحو (18.1) مليار دولار أمريكي، وهذا يعني أن من أصل (37.9) مليار دولار أمريكي من الديون الخارجية المستحقة على الحكومة الباكستانية، يوجد (6.1) مليار دولار أمريكي عبارة عن “قروض تجارية” غير محددة، و(26.1) مليار دولار أمريكي عبارة عن “قروض ثنائية”. ولا يُعرف الكثير عن “القروض الثنائية”، ربما قدّم كثيرًا منها مؤسسات مالية صينية لتمويل المشروعات التي قامت بها شركات صينية في باكستان كجزء من مبادرة الحزام والطريق الصينية. كانت هذه المشروعات جزءًا من برنامج البنية التحتية للممر الاقتصادي الصيني الباكستاني الثنائي منذ عام 2014.

ويُظهِر مؤشر الاستثمار العالمي للصين أن باكستان تلقت استثمارات من شركات صينية بقيمة (16) مليار دولار أمريكي، وعقود عمل بقيمة (51.2) مليار دولار أمريكي في الفترة من عام 2005 إلى عام 2023. وربما تكون باكستان أكبر دولة تستضيف مشروعات مبادرة الحزام والطريق في العالم، ومن المتوقع أن تبلغ قيمة مشروع الممر الاقتصادي بين الصين وباكستان (62) مليار دولار أمريكي، لكن ما زالت التفاصيل المالية لمشروع الممر الاقتصادي بين الصين وباكستان غير واضحة، ما يعني أن إجمالي الديون التراكمية المستحقة على باكستان للصين خلال الفترة من عام 2000 إلى عام 2021 بلغ 67.2 مليار دولار أمريكي، لكن باكستان- مثل كثير من البلدان الأخرى المتلقية للمساعدات الصينية- لا تبلغ عن هذه الأموال بوصفها ديونًا؛ بل تعتبرها استثمارًا أجنبيًّا مباشرًا ممولًا في هيئة قروض للشركات المملوكة للصين، أو الشركات الفرعية التي تبني وتمتلك وتدير مشروعات البنية الأساسية في البلدان المتلقية.

وفي حالة باكستان، فإن كثيرًا من هذه الشركات الصينية تستثمر القروض في إنتاج الطاقة، ثم بيعها للحكومة الباكستانية التي توزعها عبر شبكاتها المحلية المملوكة للدولة. ولقد أدى هذا النمط الاقتصادي إلى عدم تسجيل ديون جديدة على الحكومة التي تتحمل مسؤولية مشتركة عن أرباح منتجي الطاقة في القطاع الخاص، حيث تتسلم الحكومة مقابل الكهرباء بالروبية الباكستانية، لكنها ملزمة بتسديد ثمنها بالعملة الأجنبية.

ونجحت باكستان في تقليل قيمة ديونها التراكمية للبنك الدولي البالغة (45.9) مليار دولار أمريكي، فيما أكد تقدير صندوق النقد الدولي أن خدمة الدين الباكستاني بلغت (25) مليار دولار أمريكي في الفترة من  2023 إلى 2024، ويتوقع البنك المركزي الباكستاني اقتراض (11.3) مليار دولار أمريكي في الفترة الزمنية نفسها. وتتوقع ميزانية الحكومة الباكستانية لعام 2024، جمع 1.5 مليار دولار أمريكي من مبيعات الصكوك والسندات الأوروبية، و(4.6) مليار دولار أمريكي من القروض التجارية الجديدة، ولكن هذا ليس كافيًا في استمرار عجز الميزان التجاري، وسيتعين على الحكومة الباكستانية أن تبدأ مفاوضات لإعادة جدولة جزء من الديون الخارجية المستحقة خلال عام 2024 كمسألة عاجلة. ومن المرجح أن تكون الصين جزءًا رئيسًا من هذا الجهد.

وعلى الرغم من الصعوبات الحالية التي يواجهها الاقتصاد الصيني المُتباطئ، لكن من غير المتوقع أن تواجه إسلام آباد أي مشكلة مع بكين في تمديد أجل الديون المستحقة لها؛ وذلك لأهمية باكستان في الإستراتيجية الصينية الاقتصادية والعسكرية في منطق جنوب آسيا، خصوصًا أن بكين أعادت هيكلة ديون سريلانكا نهاية عام 2023؛ ومن ثم ترى الحكومة الباكستانية أملًا في تجاوز أزمتها الاقتصادية، وإعادة تدوير الاقتصاد بالاعتماد على تحالفاتها السياسة المهمة في جنوب آسيا.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع