لماذا رفضت الهند الانضمام إلى التحالف الدفاعي الذي دعت إليه الولايات المتحدة للتعامل مع التهديدات الأمنية الناتجة عن الهجمات العسكرية البحرية التي تشنها ميليشيا الحوثي في اليمن على سفن التجارة الدولية في المضايق البحرية الإستراتيجية في المحيط الهندي- البحر الأحمر- قناة السويس؟ يمكن القول إن الهند لا تُريد توسيع الصراع في الشرق الأوسط، حيث يمثل الخليج العربي المصدر الأول للطاقة، والسوق الأكبر للعمالة الهندية، وسوقًا استهلاكية كبيرة للبضائع، وقد تؤدي سياسة التحالفات إلى زيادة التوترات العسكرية؛ لذا تحاول نيودلهي خلق نمط سياسي واقعي يعتمد على الدبلوماسية العسكرية في الحفاظ على مصالحها، دون أن تتورط في مواجهات مُباشرة كبيرة مع الأزمات المُزمنة، مثل تداعيات القضية الفلسطينية.
وتدرك الهند أن واشنطن غير راغبة في شن أي عمليات عسكرية كبيرة، وستفضل التفاوض مع إيران بشأن التأثير والضغط على جماعة الحوثي لتهدئة الموقف؛ لذا أثار وزير الشؤون الخارجية الهندي س. جيشانكار، مع نظيره الإيراني، في الزيارة الأخيرة التي قام بها إلى إيران، قضية هجمات جماعة الحوثي اليمنية على سفن الشحن الدولية، وسلط الضوء على أن “الوضع المشحون” “ليس في صالح أي طرف”. وبحسب بيان صحفي صادر عن وزارة الخارجية الأمريكية، قبل الزيارة، أجرى جايشانكار اتصالًا هاتفيًّا مع وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، حيث أعرب الجانبان عن “مخاوف مشتركة بشأن هجمات الحوثيين المتهورة في جنوب البحر الأحمر، وخليج عدن”.
في البداية، من المهم أن نفهم العوامل التي تقف وراء هجمات الحوثيين. ومع أن هدفهم المعلن هو التعبير عن دعم غزة، فإن الحرب في غزة في نظر الحوثيين ليست أكثر من لحظة مناسبة لاكتساب شرعيتهم محليًّا وإقليميًّا، حيث يتم التشكيك في شرعيتهم، ويواجهون منذ أغسطس (آب) 2023 احتجاجات بسبب فشلهم في الحُكم في المناطق التي يسيطرون عليها في اليمن. ورد الحوثيون على الاحتجاجات بالاعتقالات، أو “التحقيقات”؛ مما أدى إلى تفاقم الاستياء بين المواطنين؛ لذلك، وبالاعتماد على أفكار نظرية الحرب التحويلية، ليس من المبالغة افتراض أن الهجمات تأتي كمحاولة لصرف الانتباه عن الوضع السياسي الداخلي.
وبينما لا يمكن اعتبار الحوثيين “وكيلًا ” لإيران- كما هي الحال مع حزب الله في لبنان- فإن استخدامهم للسلاح الإيراني يظهر أكثر مِن أي وقت مضى في تلك الهجمات، حيث قدمت طهران الدعم المادي والتدريب لتنفيذ الهجمات المعقدة بالطائرات بدون طيار، والصواريخ المضادة للسفن في البحر الأحمر. وفي خضم هجمات الحوثيين، أرسلت إيران سفينة حربية إلى البحر الأحمر؛ استعراضًا للقوة. وبينما نفت طهران- مرارًا وتكرارًا- أي تورط لها في هجمات البحر الأحمر، فإنها كانت من بين الدول الأولى التي أدانت- بشدة- الضربات الأمريكية البريطانية في اليمن، ووصفتها بأنها “تعسفية”، وتنتهك القانون الدولي.
ستمتنع إيران عن أي تدخل نشط في الأزمة الأمنية في المضايق البحرية المهمة في البحر الأحمر- قناة السويس، لكنها ستستمر في رفض، وربما عرقلة، أي محاولات غربية محتملة لحل المشكلة، وهذا يقوض فعالية أي عمل عسكري غربي. ومن خلال هجماتهما على الحوثيين، حاولت واشنطن ولندن إرسال رسالة مفادها أنهما مستعدتان عسكريًّا لاتخاذ أي إجراء لحماية التدفق الحر للتجارة، لكن الواقع هو أن الحوثيين لا يزال لديهم القدرة على تنفيذ الهجمات. ويواصل الحوثيون هجماتهم، ومنها تلك الضربة الصاروخية التي أصابت سفينة مملوكة للولايات المتحدة.
حقق الحوثيون من خلال الهجمات البحرية ضربة مزدوجة؛ فقد حققوا- أولًا- هدفهم المتمثل في صرف انتباه المواطنين عن القضايا المحلية الملحة، بل إنهم خرجوا الآن إلى الشوارع للاحتجاج على الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، وثانيًا: أصبحت المطالبات الدولية للتفاوض مع الحوثي أكثر إلحاحًا، فالتداعيات العالمية للهجمات الحوثية على السفن البحرية الدولية في البحر الأحمر واضحة. ومع تغيير شركات الشحن على مستوى العالم مسارها بعيدًا عن طريق البحر الأحمر- وهو الطريق التجاري الأقصر والأكثر كفاءة للسفن التي تنتقل من آسيا إلى أوروبا- فمن المرجح أن تؤثر تكاليف الشحن المتزايدة في أسعار الطاقة، والتضخم. وفي عالم تحكمه العولمة، لا يوجد بلد في مأمن من هذه الحوادث الجيوسياسية، مهما كانت بعيدة.
كان الحوثيون يهاجمون السفن التي لها صلات مباشرة بإسرائيل، ومع ذلك، فإن الهجمات الأخيرة طالت سفن الدول التي رأوا أنها “تقدم الدعم” لإسرائيل. في 19 نوفمبر (تشرين الثاني)، اختطف المتمردون الحوثيون سفينة شحن إسرائيلية في البحر الأحمر؛ “للتعبير عن التضامن مع غزة”، ومنذ ذلك الحين، تعرضت عشرات السفن للهجوم. وفي أعقاب الهجمات المستمرة والمتكررة التي شنها الحوثيون، وبعد شهر بالضبط، أعلنت الولايات المتحدة “تحالفًا دفاعيًّا” لتوفير الحركة الآمنة للسفن في البحر الأحمر. وبحسب ما ورد، انضمت نحو 20 دولة إلى التحالف، لكن عددًا منها فضل عدم إعلان مُشاركته.
في 12 يناير (كانون الثاني) شنت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة- بدعم من أستراليا، والبحرين، وكندا، وهولندا- ضربات عسكرية لأول مرة على أهداف الحوثيين. وفي وقت لاحق، واصلت الولايات المتحدة ضرباتها الانتقامية، وأعادت إدراج الحوثيين على قائمة “الإرهاب”، وهي تدعو الآن إلى “استجابة عالمية” للتعامل مع الأزمة.
وحافظت الهند رسميًّا على موقف محايد بشأن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، لكن الهجوم الحوثي على سفينة تجارية متجهة نحو ولاية جوجارات الهندية شكّل اعتداءً مباشرًا على مصالحها، كما تعرضت سفينة (MV Chem Pluto) لهجوم بقذيفة أطلقها الحوثيون. وبعد يوم واحد فقط، تعرضت سفينة ترفع علم الجابون، على متنها طاقم هندي، لهجوم بطائرة بدون طيار في اتجاه واحد على بعد 200 ميل بحري فقط من الساحل الهندي.
ومع ذلك، امتنعت الهند عن الانضمام إلى التحالف الدفاعي المتعدد الجنسيات، على الرغم من دعوة الولايات المتحدة، لكن البحرية الهندية نشرت قطعًا بحرية متطورة، منها طائرات مراقبة بدون طيار، وطائرات دوريات، ودوريات بحرية، وسفن مدمرة للصواريخ الموجهة، وفرقاطات، في واحدة من أكبر المناورات في بحر العرب في السنوات الأخيرة، ونفذت البحرية الهندية مناورة معقدة شملت عمليات حاملتين، ونسّقت نشر أكثر من 35 طائرة في بحر العرب.
في ضوء موقف الهند المؤيد لإسرائيل، ومع اشتداد الأزمة في غزة، لم تسارع نيودلهي إلى الانخراط في “التحالف الأمني الذي تقوده الولايات المتحدة”؛ حتى لا تخسر ميزات موقفها التقليدي بعدم الانحياز. ومع أنها تأثرت تأثرًا مباشرًا بالهجمات، وزادت وجودها العسكري البحري في المنطقة، فإنها امتنعت عن المشاركة في أي ضربات عسكرية ضد جماعة الحوثي في اليمن. ويمكن اعتبار هذا إشارة إلى رغبة نيودلهي في بذل مزيد من الجهد على الصعيد الدبلوماسي، بما في ذلك العمل مع الولايات المتحدة ودول أخرى؛ لتوفير استجابة فعالة، وخاصة في ضوء تطلعاتها إلى أن تصبح رجل الأمن القوي في المحيط الهندي؛ لذا تعكس استجابة الهند المحسوبة- إلى حد ما- تقييمًا دقيقًا للوضع المتطور، مما يتيح لنيودلهي الوقت والمساحة للرد بطريقة تسمح لها بتعظيم مصالحها الخاصة، لتصبح أزمة البحر الأحمر تذكيرًا بأن المرونة العملية هي سمة من سمات النهج السياسي الهندي تجاه الشرق الأوسط.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.