الدفاع والأمن

الاتحاد الدفاعي.. “ناتو أوروبي” بدون واشنطن


  • 5 أغسطس 2024

شارك الموضوع

يشكك الكثيرون في الرؤية التي قدمتها رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين لتحويل الاتحاد الأوروبي إلى “اتحاد دفاعي”، وهي الرؤية التي طرحتها ضمن برنامجها السياسي لسنواتها الخمس المقبلة بوصفها رئيسة للمفوضية الأوروبية، عندما قالت في 18 يوليو (تموز) الماضي: “سيتركز عملنا في السنوات الخمس المقبلة على بناء اتحاد دفاعي أوروبي حقيقي، والدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي ستبقى دائمًا مسؤولة عن قواتها في مسائل الدفاع، وفي مسائل نشرها، ولكن هناك الكثير الذي يمكن لأوروبا القيام به لدعم الجهود وتنسيقها لتعزيز القاعدة الصناعية العسكرية، والابتكار، والسوق الموحدة”.

ومع أن فون دير لاين كانت وزيرة للدفاع في ألمانيا قبل أن تصبح رئيسة للمفوضية الأوروبية عام 2019، وتدرك أسباب فشل كل المشروعات الدفاعية الأوروبية التي سبق طرحها، فإنها تراهن على المستجدات الجديدة بعد العملية الروسية الخاصة في أوكرانيا، واحتمال عودة الجمهوريين بقيادة دونالد ترمب مرة أخرى إلى البيت الأبيض في 5 نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، وما يحمله ترمب من رؤية عدائية ضد تصاعد الالتزامات العسكرية الأمريكية لحماية الدول الأوروبية، وقدرة واشنطن خلال السنوات الثلاث الأخيرة على إشاعة أجواء التوتر، وسباقات التسلح التقليدي والنووي، فضلًا عن إشادة فون دير لاين بمعدلات انفاق الأوروبيين الجديدة على الدفاع، التي وصلت- بحسب هيئة الدفاع الأوروبية- إلى نحو 260 مليار دولار عام 2023، ويتوقع أن تصل إلى أكثر من 320 مليار دولار بنهاية العام الجاري، وأن هناك 6 دول أوروبية وصلت نسبة إنفاقها على الشؤون الدفاعية إلى 10%، ودولة مثل السويد زادت مشترياتها الدفاعية بنسبة 30 % عام 2023، مقارنة بعام 2022، وفق وكالة الدفاع الأوروبية.

لكن ما تطرحه فون دير لاين يواجه سلسلة من التحديات والعقبات، تتمثل في مدى قدرة الأوروبيين على الدفاع عن أنفسهم بدون واشنطن؟ وما الأطراف التي تخشاها فون دير لاين إذا كان 29 دولة من إجمالي 32 دولة في حلف دول شمال الأطلسي (الناتو) هي دول أوروبية ؟ وهل هذا يعني تخارج دول “الاتحاد الدفاعي الأوروبي الجديد” من حلف “الناتو”؟ وكيف لهذه الرؤية الجديدة أن تتكامل مع “الناتو” كما تقول رئيسة المفوضية الأوروبية؟

بيئة جديدة

تجادل فون دير لاين بأن البيئة السياسية والعسكرية والأمنية في أوروبا في الوقت الحالي مهيأة لقبول تشكيل “ناتو أوروبي” بدون الولايات المتحدة الأمريكية، وتعتقد أن هناك قبولًا عامًا للأعمدة الرئيسة التي تقوم عليها فكرة “الاتحاد الدفاعي الأوروبي” من خلال مجموعة من الأدوات، منها “الشراء الجماعي” للأسلحة، بشرط أن يكون الشراء من “الشركات الأوروبية فقط “، وتنفيد “إستراتيجية الصناعات العسكرية الأوروبية” لضمان بقاء الأسلحة الأوروبية الجديدة في الخدمة لأطول فترة ممكنة، والتغلب على مشكلة “عدم التوافق” بين الأسلحة التي تنتمي إلى مدارس عسكرية مختلفة في دول الاتحاد الأوروبي، و”توحيد السلاح” من النوع الواحد لدى كل جيوش دول الاتحاد الأوروبي. ومن أجل ذلك؛ وضع الاتحاد الأوروبي 1.5 مليار يورو جديدة لمساعدة الصناعات العسكرية الأوروبية على “التكيف” مع الأخطار العسكرية الجديدة، مع رسم “هدف طموح” يقوم على شراء 40 % من الأسلحة والذخيرة التي تحتاج إليها جيوش الاتحاد الأوروبي من شركات السلاح الأوروبية بحلول عام 2030، ويعتمد المؤمنون بفكرة  “الناتو الأوروبي” على مجموعة من المستجدات، وهي:

1- إرادة سياسية جديدة

تراهن المفوضية الأوروبية على أن الدول الأوروبية بات لها “إرادة سياسية مختلفة” عما كان عليه الأمر في الماضي بفعل نجاح الولايات المتحدة في تسويق الخوف من روسيا، رغم إعلان موسكو- عشرات المرات- أنها لا تستهدف أي دولة من دول الناتو، أو الدول الأوروبية الأخرى. وتجد رواية واشنطن بأن موسكو لن تتوقف عن أوكرانيا “آذانًا مصغية” لدى بعض الأوروبيين، خاصة الرواية التي تقول إن روسيا بدأت بالحرب مع جورجيا عام 2008، وشبه جزيرة القرم عام 2014، وشرق أوكرانيا وجنوبها عام 2022، ويعزز الاستقطاب الحاد على الساحة الأوروبية بين بريطانيا ودول الاتحاد الأوروبي من جانب، وروسيا من جانب آخر، تسويق الأفكار عن “الناتو الأوروبي” من وجهة نظر القادة الأوروبيين.

2- موارد مالية ضخمة

كانت الدول الأوروبية أقل استجابة للهدف الذي وضعه “حلف الناتو” منذ قمة ويلز عام 2014، والذي يلزم الدول الأعضاء بإنفاق نحو 2 % من الناتج القومي على الشؤون الدفاعية، وكانت عدم الاستجابة هذه وراء فشل كثير من التجارب في السابق، في حين يقول جوزيب بوريل، منسق الشؤون الدفاعية والخارجية للاتحاد الأوروبي، إن الوضع تغير تمامًا الآن، وباتت هناك أموال ضخمة جاهزة لتغيير “الصورة النمطية” عن التوجهات الدفاعية للاتحاد الأوروبي. وتشير الإحصاءات الأوروبية المختلفة أن 27 دولة في الاتحاد الأوروبي أنفقت نحو 100 مليار يورو منذ فبراير (شباط ) 2022 حتى يونيو (حزيران) 2023، أُنفِقَ نحو 80 % منها لشراء أسلحة من خارج الاتحاد الأوروبي، وحصلت شركات أمريكية، مثل لوكهيد مارتن، وريثيون تكنولوجيز، ونورثروب غرومان، على نحو 60 %، أي نحو 60 مليار يورو من الدول الأوروبية في أقل من 18 شهرًا، وهو ما يعزز شهية الشركات الأوروبية للحصول على هذه الأموال، ويدفع حكومات الاتحاد الأوروبي إلى الموافقة على تأسيس “الناتو الأوروبي”؛ لأن إنفاق مزيد من الأموال سوف يعود إلى المواطن الأوروبي في النهاية من خلال الضرائب التي تدفعها شركات السلاح الأوروبية.

ومع ذلك كله، نجح الاتحاد الأوروبي في توفير مزيد من الأموال للصناعات الدفاعية منذ أن أقر في مارس (آذار) 2022 “عمليات استحواذ قصيرة الأجل على خطوط إنتاج سلاح وذخيرة”، بمبلغ 500 مليار يورو؛ لتعزيز القاعدة الصناعية الدفاعية للاتحاد الأوروبي، وخلق مزيد من الثقة في الصناعات العسكرية للشركات الأوروبية.

3- تطبيق للبوصلة

يدعي المسئولون الأوروبيون أن تحويل الاتحاد الأوروبي إلى “اتحاد دفاعي” هو ترجمة على أرض الواقع لخطة سبق أن أقرها زعماء الاتحاد الأوروبي في يونيو (حزيران) 2021، يطلق عليها “البوصلة الإستراتيجية للأمن والدفاع”، وهي في الأساس “وثيقة توجيهية” لسياسة الأمن والدفاع للاتحاد الأوروبي حتى عام 2031، وعقدت فون دير لاين وجوزيب بوريل سلسلة من الاجتماعات قالا فيها إن تحول الاتحاد الأوروبي نحو “اتحاد دفاعي” يتفق تمامًا مع “البوصلة الإستراتيجية للأمن والدفاع”، التي قامت على تحقيق “الاستقلالية الأوروبية الإستراتيجية” في أربعة مجالات رئيسة؛ هي إدارة الأزمات، والقدرة على الصمود، والقدرات الدفاعية، والشراكات الأمنية.

شكوك كثيرة

أمام كل هذه المستجدات التي تراهن عليها قيادات الاتحاد الأوروبي للتحول نحو “اتحاد دفاعي”، هناك كثير من الشكوك بشأن نجاح هذا التحول؛ لأسباب كثيرة، منها:

أولًا: سوابق فاشلة

يصعب حصر المبادرات والأفكار الدفاعية والعسكرية التي فشلت، والتي تحدث عنها قادة الاتحاد الأوروبي منذ عام 2014؛ إذ سبق للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الحديث عن “الجيش الأوروبي” الموحد في ديسمبر (كانون الأول) عام 2018، ثم ماتت الفكرة. وحتى اليوم، لم تخرج إلى النور “قوة التدخل السريع الأوروبي” التي تم التوافق عليها في 21 مارس (آذار) عام 2022. كما أن الفشل الذريع كان عنوان عمليتي “صوفيا” عام 2015، و”إريني” في 31 مارس (آذار) 2020، فضلًا عن التعثر الواضح لعملية “درع السماء” التي أعلنها المستشار الألماني أولاف شولتز في أكتوبر (تشرين الأول) 2022، والاعتراض عليها من جانب عدد كبير من الدول الأوروبية.

ثانيًا: مشتريات السلاح الأوروبية

هناك خلافات عميقة بين دول الاتحاد الأوروبي بشأن شراء الأسلحة الأوروبية. ورغم دعم دول مثل فرنسا وإيطاليا وهولندا وإسبانيا لهذه الطرح، فإن هناك دولًا أوروبية كبيرة، مثل ألمانيا والنمسا والنرويج والدنمارك، لا تحبذ أن تكون كل مشتريات السلاح أوروبية، وظهر هذا الخلاف بقوة من قبل عندما دعت ألمانيا إلى شراء منظومات دفاعية أمريكية وإسرائيلية ضمن “درع السماء الأوروبية”، لكن إيطاليا وفرنسا وبولندا اعترضت عليها، وهناك دول أوروبية بات السلاح الأمريكي الجديد يشكل عصب التسليح لديها، وعملية “التوافق” مع الأسلحة الأوروبية تحتاج إلى وقت وأموال ضخمة تشبه التحول من الأسلحة السوفيتية إلى الأسلحة الغربية بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، وما يزال كثير من الأوروبيين لا يثقون بالسلاح الأوروبي، فدول مثل فنلندا والسويد سبق لها شراء طائرات “أف- 35” الأمريكية، لكنها رفضت أكثر من مرة أن تشتري طائرات “يورو فايتر” الأوروبية.

ثالثًا: أهداف غير واقعية

منذ طرح فكرة “الاتحاد الدفاعي” الأوروبي الشهر الماضي بدأت الشكوك تدور بشأن هذه الرؤية، وسبب هذه الشكوك أن الاتحاد الأوروبي لم ينجح في تحقيق الأهداف التي رسمها لنفسه في فترات سابقة، منها فشل الوصول إلى إنتاج “مليون قطعة ذخيرة” لأوكرانيا خلال الفترة من مارس (آذار) 2023 حتى مارس (آذار) 2024، ويسأل الجميع كيف للاتحاد الأوروبي أن تصنع أسلحة تشكل 40 % من احتياجات جيوشه عام 2030 مع أنه ما زال عند مستوى 18 % فقط، وسبق لدول الاتحاد الأوروبي أن وضعت هدف الوصول بالتصنيع العسكري إلى 35 % عام 2007، ولم يتحقق هذا الهدف على مدار 16 عامًا لاحقة، فكيف يمكن الوصول إلى إنتاج 40 % عام 2030، و60 % عام 2035 من احتياجات الجيوش الأوروبية، مع إدراك حقيقة إضافية تقول إن مخازن السلاح الأوروبية باتت فارغة بسبب إرسال تلك الأسلحة والذخيرة إلى أوكرانيا.

رابعًا: الشكوك بين الأجنحة

بعيدًا عن الخلافات التقليدية بين فرنسا وبولندا وإيطاليا من ناحية، وألمانيا والنرويج والدنمارك وهولندا من ناحية أخرى، بشأن ملفات التسليح في أوروبا، فإن تحول الاتحاد الأوروبي إلى “اتحاد دفاعي”، أو “ناتو أوروبي”، لا يمكن أن تقبله دول “الجناح الشرقي” في الاتحاد الأوروبي، خاصةً دولًا مثل بولندا والمجر والتشيك وسلوفاكيا وبلغاريا ورومانيا وليتوانيا ولاتفيا وإستونيا؛ لأن هذه الدول تبني علاقاتها الدفاعية الجديدة على الولايات المتحدة والسلاح الأمريكي، وليس على أوروبا والأسلحة الأوروبية، كما أن هذه الدول وقّعت بالفعل على شراء السلاح الأمريكي بعقود طويلة الأجل تصل إلى عام 2035، وهو ما يعني أن هذه الدول بالفعل هي خارج “الناتو الأوروبي” الذي تتحدث عنه القيادات الأوروبية الحالية.

خامسًا: التخارج من “الناتو”

رغم تأكيد قيادة الاتحاد الأوروبي أن التحول نحو “الاتحاد الدفاعي” سوف يتكامل مع حلف دول شمال الأطلسي (الناتو)، فإن الواقع يقول إن هذا الطرح يعني عدم ثقة بـ”حلف الناتو”، وتراجعًا عن كل الوثائق والاتفاقيات بين حلف “الناتو” والاتحاد الأوروبي، ومنها الإعلان المشترك الذي تم التوقيع عليه في يوليو (تموز) 2018، الذي يقول إن الاتحاد الأوروبي وحلف “الناتو” اتفقا على “رؤية مشتركة” لمواجهة التهديدات الأمنية المشتركة؛ ولذلك هناك سؤال مُلح تطرحه الآن بعض المؤسسات الأوروبية: كيف للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، وفي الوقت نفسه أعضاء في “الناتو” أن تلبي الاحتياجات المالية والدفاعية للناتو الذي تقوده واشنطن، والذي يضم 32 دولة، و”الناتو الأوروبي” الذي تريد القيادات الأوروبية الجديدة تدشينه وتأسيسه؟

ساسًا: غضب واشنطن

هذه الدعوة الجديدة إلى تدشين “اتحاد دفاعي أوروبي” سوف تقود إلى تعميق الفجوة بين أوروبا والولايات المتحدة؛ لأنها تعبر عن عدم الثقة بقيادة واشنطن وقدرتها على الحفاظ على الأمن في أوروبا، وأن الدول الأوروبية لا تريد “ناتو أوروبيًّا بدون واشنطن” فحسب؛ بل إن الدعوة إلى شراء الأسلحة من الشركات الأوروبية فقط موجهة بالأساس ضد الشركات الأمريكية التي حصلت على نحو 300 مليار دولار مبيعات سلاح وذخيرة منذ عام 2022، كما أن “الاستقلالية الدفاعية” الأوروبية تعني تراجع نفوذ واشنطن على الأوروبيين، وهذا أمر يصعب على واشنطن قبوله، سواء بقيادة الديمقراطيين، أو الجمهوريين.

روسيا والبديل الآمن

المؤكد أن “الناتو الأوروبي” لن يحقق الأمن والسلام في أوروبا، لكن في مقابل الأفكار الأمريكية والأوروبية لتجييش الجيوش ضد روسيا، طرح وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر رؤية تقوم على “التعاون مع موسكو بدلًا من الحرب معها”، وقال مقولته الشهيرة: “روسيا كانت جزءًا رئيسًا من معادلة الأمن في أوروبا 400 عام”، وهو ما يطرح بديلًا حقيقيًّا للأمن الأوروبي والعالمي، يقوم على التعاون مع روسيا، واحترام مصالحها، دون مزيد من إنفاق التريليونات من اليوروهات على السلاح والذخيرة، وهو إنفاق لن يؤدي في النهاية إلا إلى مزيد من سباق التسلح، واستنزاف قدرات الشعوب ومقدراتها.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع