لتوفير إطار قانوني وجدول زمني لإدارة المرحلة الانتقالية الواجب أن تفضي إلى ترتيب دائم في سوريا، صدر إعلان دستوري ينظم هذه المرحلة، وصفه الرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع بأنه “بداية تاريخ جديد للبلاد”. وتضمن الإعلان مقدمة و53 مادة، وحدد المرحلة الانتقالية بخمس سنوات، ونصّ في مادته الثانية على الفصل بين السلطات الثلاث؛ التشريعية والتنفيذية والقضائية. غير أن هذه المادة عارضتها مواد أخرى في الإعلان، أعطت رئيس الجمهورية حق تعيين أعضاء السلطة التشريعية والمحكمة الدستورية العليا.
وخلافًا للعادة باقتصار بنود الإعلانات الدستورية على الأحكام الضرورية لإدارة المرحلة الانتقالية، وتنظيم عمل السلطات خلالها، مع تجنّب التطرق إلى القضايا الكبرى أو إلى كل ما هو خلافي، كان الإعلان الدستوري السوري بمنزلة دستور مختصر أو مصغّر، تناول -بطريقة انتقائية- بعض القضايا المتعلقة بهوية الدولة، وفلسفة بنائها، وشكل نظامها السياسي، التي تحتاج إلى توافق وطني من القوى السياسية والمجتمعية، من خلال نقاشات تفضي إلى تكريس ما يسمى “العقد الاجتماعي”.
وعليه، أثارت الوثيقة موجة من الاستياء وعدم الرضا لدى شريحة وازنة من السوريين، انتقد خلالها مجلس سوريا الديمقراطية -المظلة السياسية لقوات “قسد“– الإعلان، ورفضه، بعد أيام من اتفاقه مع حكومة دمشق، القاضي بالاندماج في مؤسسات الدولة السورية، مع تأكيد وحدة أراضي سوريا، ورفض تقسيمها. كما أعلن شيخ عقل الموحدين الدروز، حكمت الهجري، رفض الإعلان، واصفًا إياه بغير المنطقي.
بجانبهما، أبدت شخصيات سورية كثيرة رفضها الإعلان الدستوري؛ نتيجة تخوفها من إعادة تكريس الاستبداد وحكم الفرد؛ نظرًا إلى السلطات الواسعة التي منحتها الوثيقة لرئيس الجمهورية، مع غياب الرقابة والمحاسبة له أو للسلطة التنفيذية من السلطتين التشريعية والقضائية، مما يئد أي محاولة جدية لوظيفتهما المفترضة بالرقابة والمساءلة، أو لاستقلالهما، إلى جانب تلاشي مسألة توازن السلطات المعهودة في الدساتير العصرية في الإعلان المذكور، حيث جمعت الوثيقة الدستورية المؤقتة السلطات التنفيذية للدولة بيد الرئيس، من خلال اختيار وتعيين نواب الرئيس أعضاء الحكومة (م 31-35) ومجلس الأمن القومي (القرار الرئاسي رقم 5) وأعضاء المحكمة الدستورية العليا (م 47)، إلى جانب تعيين ثلث أعضاء مجلس الشعب، واختيار اللجنة التي ستعين الثلثين الآخرين (م 24). وفي ظل غياب أي إشارة لإصدار قانون جديد للسلطة القضائية، وبالاستناد إلى المادة الـ51 من الإعلان المذكور، سيرأس رئيس الجمهورية (ينوب عنه وزير العدل) مجلس القضاء الأعلى، وذلك وفق المادة الـ65 من قانون السلطة القضائية الصادر بالمرسوم التشريعي رقم 98 لعام 1961، والمعدلة بالمرسوم التشريعي رقم 24 لعام 1966.
وعلى الرغم من حجب الوثيقة لسلطة التشريع عن رئيس الجمهورية، وتقييد سلطته -إلى حد ما- بإعلان حالة الطوارئ بموجب الفقرة الثانية من المادة الـ41، فإنها منحته حق الاعتراض على القوانين بموجب الفقرة الثانية من المادة الـ39؛ مما يرفع نسبة الموافقة عليها تاليًا إلى الثلثين في مجلس يمتلك حق تعيين ثلثه مباشرة، ويعين الثلثين الآخرين بطريقة غير مباشرة، من خلال اختيار اللجنة المركزية التي ستشكل لجانًا فرعية تتولى اختيار الأعضاء (م 24). كما منحته المادة الـ36 سلطة إصدار لوائح تنظيمية وتنفيذية، ولوائح الضبط، وأوامر قرارات رئاسية (مثالها القرار الرئاسي بتشكيل مجلس الأمن القومي) دون رقابة عليها من السلطتين التشريعية والقضائية، مع إمكانية تعطيل المعاهدات الدولية الناشئة، من خلال إعطائه سلطة التوقيع “النهائي” عليها بموجب المادة الـ37، فيما جرت الأعراف الدستورية والدولية على أن يكون توقيع ممثل الدولة مبدئيًّا، وتصديق السلطة التشريعية عليها هو النهائي. كما سقط عن الوثيقة سلطة إقرار الحسابات الختامية من جانب السلطة التشريعية (الفقرة ث من المادة الـ30)، المقترنة دائمًا مع إقرار الموازنة العامة، وهو التقرير الذي تقدمه السلطة التنفيذية عن آلية الموازنة العامة وكيفية صرفها.
ومع سحب سلطة حل البرلمان من يد الرئيس، فإن الإعلان لم يعطِ البرلمان حق محاسبة أو مساءلة الرئيس أو السلطة التنفيذية. كما أن تحديد مدة البرلمان بنصف مدة المرحلة الانتقالية يزيد صلاحيات الرئيس على البرلمان. وبالنظر إلى تشظي الواقع السياسي السوري، سيعجز مجلس الشعب عن صياغة أجندة متماسكة منفصلة عن أجندة الرئيس، حسب مركز مالكوم– كير كارنيغي. كما أن السلطات الواسعة الممنوحة للرئيس بموجب الوثيقة مناسبة لتكريس الملكية، وليس للانتقال الديمقراطي، حسب Syria in Transition. مشيرًا إلى أن الأحكام الجديرة بالثناء ظاهريًّا في الإعلان ليست سوى ستار دخان لاحتكار السلطة في يد رئيس المرحلة الانتقالية، أحمد الشرع.
وفي تبرير غياب أي مساءلة للرئيس بموجب الإعلان الدستوري، رُدّت المسألة إلى اعتماد النظام الرئاسي والفصل الصارم بين السلطات، كما هي الحال في النظام الرئاسي الأمريكي، وهو تبرير يجانبه الصواب؛ نتيجة غياب ضوابط النظام الأمريكي ومحدداته عن الحالة السورية، سواء من خلال انتخاب الرئيس ونائبه، بجانب شراكة الوزراء للرئيس في الحملة الانتخابية، أو من خلال برلمان منتخب يملك صلاحيات تقييد الرئيس عند حدوده، أو عبر إخضاع التعيينات الوظيفية العليا لمصادقة الكونغرس (مجلس الشيوخ)، وتجاوز مدة ولاية أعضاء المحكمة الدستورية لمدة ولاية الرئيس؛ مما يحرم بعض الرؤساء من تعيين أعضاء المحكمة القادمين من مصادر تعيين مختلفة. إضافة إلى وجود سلطات تشريعية وتنفيذية للولايات تقصر سلطات الرئيس على المستوى الفيدرالي فقط، إلى جانب نظام قضائي فيدرالي ومحلي يحد من تجاوز الرئيس صلاحياته، مع سلطة للكونغرس بالعزل الجنائي للرئيس، يُلوَّح باستخدامها عادة لاعتبارات سياسية.
وعلى الرغم من تضمن الإعلان الدستوري لمواد جيدة، مثل الاعتراف بالحقوق اللغوية لمكونات الشعب السوري (ف3 م7) وسواها، فإن بعض هذه المواد ترك معلقًا بيد السلطة التنفيذية، فيما عارض بعضها الآخر أو قيدتها مواد أخرى، حيث أُخضعت ممارسة الحقوق الواردة في باب الحقوق والحريات (م 12-23) لضوابط فضفاضة ذات قابلية واسعة للتأويل، وفق المادة الـ23. كذلك لم تحدد المادة الـ(14) مدة محددة لإصدار قانون الأحزاب؛ مما يمنح السلطة التنفيذية تعطيل الحياة السياسية لأطول مدة ممكنة/ مطلوبة. وعلى الرغم من نص المادة العاشرة على أنّ ″المواطنون متساوون أمام القانون في الحقوق والواجبات، من دون تمييز بينهم في العرق أو الدين أو الجنس أو النسب”، مع اعتبار المادة الـ12 أن المعاهدات والمواثيق والاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان المصادق عليها جزءًا لا يتجزأ من الإعلان، فإنهما يتعارضان مع الفقرة الأولى من المادة الثالثة الخاصة بدين رئيس الدولة، وبكون الفقه الإسلامي المصدر الرئيس للتشريع، الذي جرت الدساتير السابقة على اعتباره مصدرًا من مصادر التشريع؛ مما قد يتيح تفسير أي تشريع مدني متعارض معه مخالف للفقه الإسلامي؛ ومن ثم واجب الإلغاء.
كما سيؤدي إلغاء تشكيل المحاكم الاستثنائية إلى محاكمة مجرمي الحرب أمام محاكم الجنايات، وفي ذلك إهدار كبير لحقوق الضحايا. بجانب غياب أي تحديد أو ضبط لصلاحيات المحكمة الدستورية العليا، التي يفترض أن تشكل المرجعية القضائية الأعلى في البلاد. كما منح الرئيس تسمية أعضاء المحكمة (م 47)، التي تتمتع بخصوصية عالية نظرًا إلى طبيعة مهامها، وأولاها الرقابة على دستورية القوانين وتفسيرها وتطبيقها، مع حق إلغاء القوانين المخالفة للدستور وما يترتّب عليها، إضافة إلى كونها الهيئة الوحيدة المخولة بمساءلة الرئيس ومحاسبته حال ارتكابه مخالفة للدستور؛ وعليه، لا يمكن ترك تنظيم صلاحياتها لقانون لاحق، إذ إن دورها الرقابي على دستورية القوانين يفترض تنظيمه في الإعلان، وإلا سيكون خاضعًا لتوجهات السلطة التنفيذية، بما يؤدي إلى التأثير في استقلاليتها.
كذلك غاب عن الوثيقة الحديث عن الديمقراطية، التي تواتر ذكرها في مختلف الدساتير السورية، وشكلت مطلب السوريين الأول منذ بداية ثورتهم، مع غياب أي ذكر “للسيادة الشعبية”، باعتبار أن الشعب المالك الحقيقي للسلطات في الدساتير الحديثة، وتصدر الأحكام القضائية باسمه. كما أن المادة الـ52 من الإعلان جعلته ساري المفعول حتى إقرار دستور دائم للبلاد، و”تنظيم انتخابات بموجبه”، دون تحديد الجهة التي ستتولى إقرار الدستور الدائم، إذ يفترض في الإعلان الدستوري تنظيم المرحلة الانتقالية وصولًا إلى انتخابات ينتج عنها لجنة تأسيسية أصلية تتولى إقرار دستور دائم للبلاد؛ مما يطرح التساؤل عن الجهة التي ستصدر هذا الدستور، وفق الإعلان؟ وهل سيكون بموجب استفتاء شعبي؟ أو من خلال لجنة تأسيسية أصلية؟ وهو ما لا يستقيم مع نص المادة الـ52، أم سيُكتفى بتشكيل لجنة لإعداده، من دون أن يكون لدى الشعب أي سلطة للموافقة أو الاعتراض عليه.
وختامًا يمكن القول إن الوثيقة الدستورية السورية المؤقتة حاولت أن تخطو باتجاه تأطير قانوني ينظم المرحلة الانتقالية في سوريا وفق ضوابط دستورية تعيد بناء السلطات في بلاد دمرتها الحرب بطريقة لا تؤدي إلى تغول إحداها على الأخرى، منعًا للاستبداد وعودة حكم الفرد، لكنها فشلت في ذلك، على الأقل وفق بنود الإعلان الدستوري، وذلك من خلال منح سلطات واسعة لرئيس السلطة التنفيذية دون مساءلة أو محاسبة له من السلطتين التشريعية والقضائية، بحجة الفصل الصارم بين السلطات، وهي حجة واهية وفقًا للوثيقة نفسها؛ حيث منحت الرئيس حق تشكيل السلطتين الأخيرتين.
وإلى جانب قصور بنود الإعلان الدستوري وتعارضها، تطرقت الوثيقة إلى مسائل انتقائية إشكالية، مثل تحديد طبيعة النظام السياسي، واسم الدولة (الجمهورية العربية السورية/ م 1)، ومصادر التشريع، بحجة ورودها في الدساتير السابقة، وهو ما يتنافى مع طبيعة الإعلان الدستوري الخاصة بتنظيم مراحل الانتقال السياسي فقط، دون التطرق إلى ما سواها من قضايا تحتاج إلى نقاشات سياسية ومجتمعية مطولة، تفضي إلى “العقد الاجتماعي” الجامع.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.