يتجه الرئيس الأمريكي دونالد ترمب إلى اعتماد “مقاربة عسكرية وأمنية” جديدة لمنطقة الشرق الأوسط، تركز على معنى ومفهوم “تحديد الخطر، وبناء قدرات الردع” التي تتناسب فقط مع حجم الخطر دون تفريط أو إفراط. كما تهدف هذه المقاربة إلى تقييم التهديدات وفق القدرات التكنولوجية الجديدة، وقدرات الدول المعنية والصديقة والحليفة على التعاون والمشاركة، وتحمل المسؤولية و”تقاسم الأعباء”. وبعد تحديد المخاطر وتقسيم الأعباء، تأتي مرحلة تحديد الدور الذي يجب أن تقوم به القوات الأمريكية، والدور الذي تقوم به القوات الحليفة والصديقة، بما يقلل من الاعتماد على الحشود الكبيرة من الجنود والعتاد الأمريكي. يقوم على وضع هذه الإستراتيجية الجديدة صديق الرئيس ترمب، والقائد الجديد للمنطقة المركزية الأمريكية الأميرال براد كوبر، وهي المنطقة الممتدة من شرق المتوسط إلى كازاخستان، ومن سلطنة عُمان إلى لبنان. والأميرال براد كوبر معروف عنه الخطط العملية والمبتكرة وقليلة التكلفة منذ أن كان قائدًا للأسطول الخامس، ونائبًا لقائد المنطقة المركزية، وهو ما يتوافق تمامًا مع منهج وأسلوب ورؤية الرئيس دونالد ترمب الذي يسعى إلى تقليل التكاليف العسكرية، ومنح دور أكبر للحلفاء. يطلق الأميرال كوبر على هذه الخطة “الإطار” أو SCOPE.
وتختلف إستراتيجية “الإطار” اختلافًا كاملًا عن المنهج الذي كان يتبعه الجنرال إريك كوريلا، القائد السابق للقيادة المركزية الأمريكية، الذي كان يؤمن باستخدام “حشد عسكري كبير في زمن قتالي صغير”، لكن النهج السابق يراه الرئيس ترمب مُكلفًا جدًّا، ويستنزف القدرات العسكرية الأمريكية. وأصبح الرئيس ترمب مقتنعًا تمامًا بضرورة تغيير هذه الإستراتيجية بعد عدم النجاح الكامل في قصف الحوثيين الذي استخدمت فيه الولايات المتحدة حاملات طائرات، وطائرات “بي 2” من قاعدة دييغو غارسا في المحيط الهندي، وفي النهاية اتفق ترمب مع الحوثيين على وقف الهجمات دون أن تترك أثرًا واضحًا على قدرات الحوثيين. والشكوك نفسها تحوم حول حرب الـ12 يومًا بين إسرائيل وإيران، التي كانت كل القوات الأمريكية في الشرق الأوسط مستنفرة، وفي أعلى درجات استعداداتها. كل ذلك يدفع الرئيس ترمب والأميرال كوبر إلى تغيير الإستراتيجية في الشرق الأوسط،
لكن هذا التوجه الجديد أصاب بعض دول الشرق الأوسط “بالقلق”، خصوصًا تلك الدول التي بها قواعد عسكرية أمريكية، وتعتمد على الردع الأمريكي، وتخشى من أن يؤدي سحب أو تقليل نشر القوات والأصول العسكرية الأمريكية في المنطقة إلى تشجيع الميليشيات، وجماعات العنف السياسي، والتنظيمات الإرهابية للعودة من جديد، حيث تنشر الولايات المتحدة نحو 42 ألف جندي، وعشرات القواعد العسكرية العلنية والسرية في إقليم الشرق الأوسط، بعد أن كان هذا العدد يصل إلى نحو 170 ألف جندي خلال فترة الحرب الأمريكية على الإرهاب بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001.
وهناك فريق آخر يرى في هذه الخطوة الأمريكية “فرصة كبيرة” لاعتماد دول المنطقة على قدراتها العسكرية الذاتية، والتعاون بصيغة جديدة مع الجيش الأمريكي، كما يجري الآن في العراق، حيث قرر الرئيس ترمب سحب القوات الأمريكية عاجلًا من قاعدتي “عين الأسد” و”فيكتوريا” هذا الشهر، مع أن الاتفاقية الأمنية العراقية الأمريكية تنتهي نهاية شهر سبتمبر (أيلول) المقبل. وقرر ترمب نقل الجنود والأصول العسكرية بعيدًا عن تلك القواعد العراقية. وقبل تقديم إستراتيجية “الإطار” على نحو نهائي للرئيس ترمب، سوف يزور الأميرال كوبر الدول التي بها الآلاف من القوات الأمريكية لتقييم الوضع على الأرض. فما الأهداف الحقيقية وراء إستراتيجية “الإطار”؟ وهل يتعلق الأمر فقط “بتقليل النفقات وتقاسم الأعباء”؟ وما علاقة كل من روسيا والصين بالخطة التي تقتصر فقط على الشرق الأوسط؟
جميع المؤشرات تقول إن الدوافع وراء الإستراتيجية العسكرية الأمريكية لا تتعلق بـ”المكان والمكانة” اللذين يحظى بهما الشرق الأوسط في سلم الأولويات الأمريكية، الذي يقدر القيمة الجيوسياسية والاقتصادية للشرق الأوسط على النحو التالي:
أولًا- أمن الطاقة
الرئيس ترمب له مصالح كبيرة وعظيمة في الشرق الأوسط، فالاستثمارات التي اتفق عليها خلال جولته الخليجية في شهر مايو (أيار) الماضي تؤكد الشراكة الطويلة المدى بين الولايات المتحدة ودول الخليج التي ينتشر بها نحو 30 ألف جندي أمريكي. والرئيس ترمب مؤمن بقوة بالدور الحيوي الذي تقوم به منطقة الخليج في “أمن الطاقة العالمي”؛ ففي عام 2023، بلغت صادرات النفط الخام لدول مجلس التعاون الخليجي نحو 12.4 مليون برميل يوميًّا، وهي تمثل نحو 28.2% من إجمالي الصادرات العالمية للنفط الخام، في حين بلغت صادرات المشتقات النفطية 1.518.6 مليون برميل، مستحوذة على 13.4% من الصادرات العالمية في العام نفسه، وأي خلل في إنتاج أو إمدادات الطاقة سوف يرفع التضخم الداخلي في الولايات المتحدة الأمريكية، وهو أمر لا يتحمله الرئيس ترمب، الذي وعد قاعدته الانتخابية بتخفيض التضخم، وتقليل أسعار المحروقات؛ وبهذا يتمسك الرئيس ترمب برؤيته التي تخالف رأي الديمقراطيين الذين كانوا يروجون منذ عام 2011 لتراجع قيمة النفط والغاز العربي بعد أن أصبحت الولايات المتحدة مصدرًا صافيًا للطاقة عام 2018، فضلًا عن أن استدامة وضمان إنتاج النفط وتصديره هما اللذان يمكنان الدول الخليجية التي زارها ترمب في مايو (أيار) الماضي، وهي السعودية والإمارات وقطر، من الوفاء بالتزاماتها الاستثمارية والتجارية التي تعاقدت عليها مع الرئيس الأمريكي خلال جولته الخليجية.
ثانيًا- مكانة جيوسياسية
لا يمكن للولايات المتحدة أن تتخلى عن منطقة بالغة الأهمية من الناحية الجيوسياسية؛ فمن وجهة نظر البنتاغون، لا يمكن للولايات المتحدة أن تترك الشرق الأوسط للنفوذ الصيني والروسي، وكل التقديرات التي تحدث عنها الأميرال كوبر تقول إن الشرق الأوسط والمنطقة العربية جزء رئيس من الخطط الطويلة المدى للوجود الأمريكي في المنطقة.
ثالثًا- سلاسل الإمداد
أكدت الحرب الروسية الأوكرانية، وقبلها جائحة كورونا، الأهمية الحيوية لمنطقة الشرق الأوسط التي بها مضيقا هرمز وباب المندب وقناة السويس؛ ولهذا لا يمكن أن يخاطر الرئيس ترمب أو يسمح بأي خلل في معادلة الأمن الإقليمي التي استقرت عليها المعادلات العسكرية والأمنية طوال العقود الماضية.
رابعًا- أمن إسرائيل
رغم النجاحات التي تدعي إسرائيل تحقيقها على جبهات لبنان وسوريا وإيران فإن هذه النجاحات أكدت “الاعتمادية الإسرائيلية الكاملة” على الولايات المتحدة الأمريكية، حيث كانت تل أبيب تعتمد كليًّا على السلاح والذخيرة الأمريكية، وكذلك الاستخبارات والمعلومات القادمة من أجهزة المخابرات الأمريكية. وأكدت هذه الحروب حاجة إسرائيل إلى بقاء القوات الأمريكية في المنطقة، وهذا يؤكد خطأ رؤية الديمقراطيين الذين اعتقدوا أن إسرائيل باتت تهيمن على المنطقة منذ أحداث ما يسمى بـ”الربيع العربي”، وليست في حاجة إلى دعم واشنطن؛ ولهذا روج الديمقراطيون -وفي مقدمتهم الرئيس باراك أوباما، ووزيرة خارجيته هيلاري كلينتون، والرئيس جو بايدن ونائبته كامالا هاريس- لما يسمى بـ”الاستدارة شرقًا”، أي ترك الشرق الأوسط والاهتمام أكثر بشرق آسيا وجنوب شرقها.
التدقيق في رؤية الرئيس ترمب العسكرية الجديدة تجاه الشرق الأوسط يكشف أن هناك دوافع وأسبابًا أخرى، منها:
أولًا- تقاسم الأعباء
مصطلح “تقاسم الأعباء” كررته إدارة الرئيس ترمب في ملفات دولية كثيرة. فعلى سبيل المثال، رفعت دول حلف شمال الأطلسي “الناتو” مساهماتها الدفاعية إلى نحو 5% بحلول عام 2035 من منطلق “تقاسم الأعباء” بعد شكوى الرئيس ترمب بأن الولايات المتحدة تنفق نحو 3.7% من الناتج القومي على الشؤون الدفاعية، ووضعت في الميزانية الدفاعية لعام 2025- 2026 نحو تريليون دولار للجيش الأمريكي. وكرر الرئيس ترمب الأمر نفسه بالنسبة لحلفاء واشنطن في آسيا مثل اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا، وهي دول رفعت إنفاقها العسكري على نحو غير مسبوق من أجل تحقيق مبدأ “تقاسم الأعباء” مع الولايات المتحدة الأمريكية. فعلى سبيل المثال، وصل الإنفاق الدفاعي السنوي الياباني إلى نحو 55 مليار دولار، وهو إنفاق قياسي لدولة كانت تعتمد كليًّا -حتى وقت قريب- على نحو 50 ألف جندي أمريكي.
ثانيًا- مشكلات التجنيد
يعاني الجيش الأمريكي مشكلات في التعاقد مع مجندين جدد، فخلال السنوات الأربع الماضية لم يزد معدل الاستجابة للتجنيد الطوعي على 60% من الأهداف التي وضعتها وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون). وحاليًا ينتشر في العالم نحو 220 ألف جندي أمريكي، منهم نحو 100 ألف في أوروبا، ونحو 50 ألفًا في اليابان، و29 ألفًا في كوريا الجنوبية. ويسعى الرئيس ترمب إلى تخفيف الحشد العسكري الأمريكي خارج الأراضي الأمريكية اعتمادًا على رؤية تدعو إلى “حصر النطاق الذي يمتد فيه الخطر مع النظر في قدرات الدولة التي يعنيها الخطر، ثم تقيّم الولايات المتحدة الدور المطلوب من قواتها العسكرية”. وتحقيق هذا الأمر سوف يساعد الولايات المتحدة على تقديم دعم عسكري أكثر تركيزًا وفاعلية، بحسب رؤية البنتاغون ولجان القوات المسلحة في الكونغرس بمجلسيه النواب والشيوخ.
ثالثًا- احتواء الخطر الصيني
مع الآمال التي تلوح بوقف الحرب الروسية الأوكرانية، ووقف الحروب في الشرق الأوسط، تسعى الولايات المتحدة إلى التركيز على ما تسميه “الخطر الصيني”، فلا تزال واشنطن ترى في الصين الدولة التي تتحدى أمريكا سياسيًّا واقتصاديًّا على المستوى الدولي من أمريكا الجنوبية وإفريقيا إلى غرب المحيط الهادئ وجنوبه.
رابعًا- تسويق السلاح الأمريكي
تسهم خطط الرئيس ترمب الجديدة في تسويق السلاح والذخيرة الأمريكية على نحو لم يسبقه أحد في التاريخ. ففي أوروبا، ونتيجة للتعديلات في السياسة الدفاعية الخارجية الأمريكية، طلبت الدول الأوروبية وحدها نحو 500 طائرة عسكرية. ويوم 25 أغسطس (آب) الجاري أُعلن نشر أكبر عدد من طائرات الشبح “إف 35” لدى حلفاء واشنطن الآسيويين، منها على سبيل المثال نشر هذه الطائرات في “قاعدة إيواكوني الجوية” اليابانية التي تضم أسطولًا من طائرات “إف-35″، وسوف تستقبل قاعدة ماساوا باليابان 48 مقاتلة من طراز “إف-35” لتحل محل 36 مقاتلة من طراز “إف 15″؛ وبهذا تملك اليابان أكبر أسطول أجنبي لمقاتلات “إف-35” في آسيا بعد أن طلبت الحكومة الحالية 147 مقاتلة من الطراز نفسه، وهو سيناريو تكرر مع كوريا الجنوبية التي طلبت 60 مقاتلة من “إف-35″، تسلمت منها 40 حتى الآن، وتتمركز جميعها في قاعدة تشونغجو، وتخطط سيول لإنشاء قاعدة ثانية.
المؤكد أن الولايات المتحدة تراعي مصالحها أولًا عندما تعيد هيكلة نشر قواتها في الخارج؛ ففي الثمانينيات، نشرت حشدًا عسكريًا كثيفًا لحماية منابع النفط الخليجية، واستمر هذا النهج في عهد الرئيس جورج بوش الابن، وتراجعت عن حشد حاملتي طائرات في الشرق الأوسط خلال عهد الرئيس باراك أوباما، في حين أنها في الأشهر الأولى من الولاية الثانية للرئيس ترمب تبنت نظرية “الحشد السريع”، وهي نقل القوات إلى منطقة النزاع عند الضرورة بسرعة عن طريق الجو، والأساطيل الأمريكية المنتشرة في العالم.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.