ترك التوتّر السياسي بين روسيا والغرب أثره في استثمار موارد القطب الشمالي، حتى زعم بعض المحللين أنها “حرب باردة جديدة”، بل حرب اقتصادية بامتياز، والهدف اليوم لم يعد السباق على التسلّح كما كانت الحال في القرن الماضي؛ بل أصبح النصر لمن يصل أولًا إلى مخزونات الأرض الطبيعية.
تسعى موسكو إلى تأكيد سيطرة عسكرية لها صدى سياسي، تُعدّ أحد أوجه الحرب الباردة الجديدة، وضمانةً للأمن القومي. وإنّ لمسرح العمليات الحربية في منطقة القطب الشمالي أهمية جغرافية، وعسكرية إستراتيجية، إذ تؤدّي قوات الأسطول الشمالي والهادي، وقوات الدفاع الجوي دورًا رئيسًا في ضمان الأمن العسكري لروسيا الاتحادية.
لعلّ هذا النشاط الروسي في الشمال، يأتي ردًّا على زحف نفوذ الحلف الأطلسي في المنطقة، ففي مارس (آذار) 2015، أعلن وزير الدفاع الروسي أنّ روسيا تواجه تهديدًا متزايدًا من حلف شمال الأطلسي، وأنّ الحكومة الروسية سوف تستثمر 20 تريليون روبل لإعادة فتح قواعدها وتحديثها بحلول عام 2020.
نيات روسيا واضحة، فهي تطالب بالجرف القاري الذي تعدّه جزءًا من أراضيها. بعد الأزمة الأوكرانية، لم تتراجع روسيا أو تنكفئ في محاولة فرض سيطرتها على مناطقها في القطب، وقد يعوّل الغربيون على التراجع الاقتصادي الروسي لإضعاف موقف روسيا في التفاوض على المحيط المتجمد الشمالي، أو ينتظرون حلّ مشكلة أوكرانيا قبل الشروع في أيّ خطوة أو ردّ فعل بما يتعلّق بمنطقة المحيط المتجمد الشمالي.
تسعى روسيا عسكريًّا وفنيًّا إلى إحكام سيطرتها على نفط القطب الشمالي، رغم ما أعلنته وزارة الدفاع الروسية من أنّ روسيا “لا تعسكر القطب الشمالي”، بل تستعد للرد على “مجموعة واسعة من التهديدات المحتملة، تستدعي ضرورة وجودها العسكري الدائم”، وأن الحضور في القطب الشماليّ هو مسألة أمن قومي لروسيا؛ نظرًا إلى أنّ مسؤولين غربيين بحثوا في عامي 2009 و2010 في واشنطن وبروكسل وأوتاوا، وغيرها من العواصم، خطط زيادة النشاط العسكري في منطقة القطب الشماليّ، وذلك تحت غطاء الطموحات الاقتصادية.
ذكر “ألكسندر جولتس Alexander Golts”، الخبير العسكري ونائب رئيس تحرير دورية “يچيدنيفني ݮورنال”، أنّ المنطقة القطبيّة تبدو – من وجهة نظر “بوتين”- مثل معجزة ومكان ينطلق منه ازدهار الأجيال الروسية المستقبليّة، وأضاف: “يعتقد بوتين أنّه إذا لم تُحكم روسيا سيطرتها على المنطقة، ستسعى دول أخرى إلى السيطرة عليها؛ لذا يجب الدفاع عنها” .
ويرى بوتين أنّ منطقة القطب الشماليّ لم تكن لروسيا، منطقة مصالح اقتصادية كبيرة فحسب، بل هي جزء مهم من أجزاء القدرة الدفاعيّة الوطنيّة، وأنّ روسيا لن تتخلّى عن القطب الشمالي، بل ستُنميه أكثر، وتحدّث عن خطة للتعاون بين الجانبين الروسي والأمريكي في هذا الشأن.
وتزايد الوجود العسكري في منطقة القطب الشمالي عام 2014، وفي الأول من ديسمبر (كانون الأول) من العام نفسه، باشرت القيادة الإستراتيجية الشمالية مهمتها لحماية منطقة القطب الشمالي ووسط روسيا من أيّ هجوم محتمل يأتي من الشمال، وقد أُشير إلى أنّ عام 2015 سيشهد انتشار وحدات من القوات الجوية وقوات الدفاع الجوي في منطقة القطب الشمالي الروسية، وستتبع هذه القوات، إضافةً إلى وحدات من القوات البحرية والجوية، لإمرة القيادة التي شُكِّلَت.
في عام 2015، بدأت روسيا بترميم المنشآت العسكريّة في “نوفايا زيمليا Novaya Zemlya” وتوسيعها، حيث وُضِعَت خطّة لنشر صواريخ مضادة للطائرات من طراز “إس-400 تريومْف” في أرخبيل نوفايا زيمليا، إضافةً إلى نصب بطارية من راجمات الصواريخ والقذائف المضادة للطائرات “بانتسير- إس1” في أحد المطارات في منطقة القطب الشمالي الروسية. وفي مارس (آذار) من العام نفسه، جرت تدريبات عسكريّة شارك فيها أكثر من 45.000 عنصر، لتنفيذ نحو 4000 من التمارين المقرّرة لعام 2015، وهو ما حمل المنافسين الآخرين على إجراء كثير من الأنشطة العسكريّة، منها التدريبات السنوية لعملية “نانوك” العسكرية في كندا، والمناورات المشتركة للفايكنغ النروجي، التي جرت في مارس (آذار) 2015، وهي الأكبر في تاريخ هذه القوة الجديدة.
إضافةً إلى ما تقدم، نقلت طائرات مروحية من طراز “مي 8″، و “مي 26″، في 2014، أكثر من 30 طنًّا من المواد والمعدّات إلى المطار العسكري “تيمب Temp”، حيث ينشط العمل في ترميمه وإعادة بنائه. وفي جزيرة كويتلي، إحدى جزر مجموعة نوفوسيبريك في المحيط المتجمد الشمالي، شقّ الطراد الصاروخي والسفن المرافقة له في سبتمبر (أيلول) من العام نفسه الطريق إلى تلك الجزر وسط الكتل الجليدية، مستعينةً بكاسحات الجليد.[1]
هذا وتمتلك روسيا أكبر أسطول لاختراق الجليد في العالم، فلديها 18 سفينة، سبع منها تعمل على الطاقة النووية، وهي تسعى إلى بناء كاسحات جليد جديدة تعمل على الطاقة النووية، ويقدّر الخبراء أن روسيا تحتاج إلى بناء ما بين 6 إلى 10 كاسحات جليد نووية في السنوات الـ20 المقبلة للحفاظ على وجودها العملياتي في المناطق التي تدّعي ملكيتها لها في القطب الشمالي. كذلك أنشأت روسيا مركزًا لبناء سفنٍ مجهّزة للتنقيب عن النفط في سيفردوفينسك، ومن المقرر الانتهاء من هذا المشروع مع نهاية العام الحالي، حيث ستكون الأولى من نوعها في العالم.
بما أنّ القطب الشمالي يقع في محيط متجمد سيصبح فيما بعد محيطًا مائيًّا، فقد تكلّل هذا السعي الروسي الإستراتيجي إلى التسلّح في القطب الشمالي بعقيدةٍ مستحدثة للبحرية الروسية، تضع نصب عينيها حماية مصالح روسيا في المنطقة، عبّر عنها قائد سلاح البحرية الأميرال فيكتور تشيركوف أمام مجلس البحرية في الحكومة الروسية. ولأهميّتها، سيراقب الروس القارة البعيدة عبر قمرين اصطناعيين، هما “أركتيكا- إم 1” و”أركتيكا- إم 2″؛ بهدف رصد بيئتها ومناخها المتغيّر.
ولا يُستبعد أن تصبح منطقة المحيط المتجمد الشمالي حلبةً مستقبليةً لتصادمٍ حادٍّ بين مصالح إستراتيجيّة لدولٍ عدة، على رأسها روسيا والولايات المتحدة، وهذا ما دفع بعض المراقبين الروس والغربيين إلى عدم استبعاد تطوّر الخلاف بشأن ثروات القطب المتجمد الشمالي إلى صراعٍ مسلّح “غير نووي”، استنادًا إلى تحذيرات روسيا المتكررة للدول الأخرى المطلّة على القطب الشمالي من مغبّة منعها من الوصول إلى مكامن الثروات الطبيعية، واستنادًا إلى نشاط الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها في مواجهة المصالح الروسية في تلك المنطقة.
لكن من المستبعد اندلاع حربٍ على المدى القريب؛ وذلك لعدة أسباب، أهمّها أنّ الأمر محكوم بقوانين دوليّة، وأطر قانونيّة من شأنها الإسهام في الوصول إلى تسوية سلميّة ومُرضية للأطراف كافةً؛ لذا فإنّ خروج طرفٍ ما عن هذه الأطر، وعدم الالتزام بها، يمكن مواجهته عن طريق اللجوء إلى التحكيم الدولي، كما أن الولايات المتحدة لا يمكنها دخول صراع مع الروس دون جاهزيتها والاستعانة بالدول.
تشتمل إستراتيجية روسيا في القطب الشمالي، التي أعلنتها عام 2013، على مزيج مماثل من الأولويات الأمنية والاقتصادية، مثل الإستراتيجيات الأمريكية والكندية. ولديها ثلاث أولويات رئيسة، وهي المخاوف الأمنية، والنمو الاقتصادي- في المقام الأول في قطاع الطاقة- والاستخدام التجاري والسيطرة على طريق الشحن في طريق بحر الشمال (NSR).
(1) الاعتبارات الأمنية
تحظى المصالح الأمنية باهتمام بالغ من موسكو، إذ تهدف القدرات العسكرية الروسية في القطب الشمالي إلى “مواجهة الضغوط غير العسكرية”، وكذلك “صد العدوان” ضد الاتحاد الروسي، وقد أصبح هذا الهدف أسهل بفضل الأسطول الشمالي الروسي، المتمركز في شبه جزيرة كولا، الذي يُعد “أكبر أسطول شمالي روسي”، وأقوى عنصر في البحرية الروسية، ويضيف الأسطول الشمالي أيضًا سفنًا جديدة لتعزيز قدراته، ومنها الغواصة من فئة بوري ألكسندر نيفسكي في عام 2013، والغواصة من فئة يَسين سيفيرودفينسك، عام 2014.
وفي الآونة الأخيرة، أعلنت روسيا أنها ستعيد فتح خمسة مطارات في القطب الشمالي تم التخلي عنها في أوائل التسعينيات. وتخطط روسيا أيضًا لإنشاء لواءين في القطب الشمالي خصيصًا للخدمة في المنطقة.
(2) النفط والغاز
تعد احتياطيات القطب الشمالي محورًا أساسيًّا لشركة النفط الضخمة المملوكة للدولة “روسنفت”، وكذلك لشركة “نوفاتيك”، أكبر شركة طاقة خاصة في روسيا، ومع ذلك، تفتقر الشركات الروسية إلى التكنولوجيا اللازمة لاستغلال موارد الطاقة البحرية هذه، وخاصة تلك الواقعة تحت سطح البحر؛ ومن ثم تعتمد على الشركات الغربية لتوفير المعرفة التقنية المطلوبة، ونتيجة لذلك، شكلت روسنفت شراكة استثمارية إستراتيجية مع إكسون موبيل- ومقرها الولايات المتحدة- في الحقول البحرية في القطب الشمالي، في حين أنشأت نوفاتيك شراكة مماثلة مع توتال الفرنسية لتطوير صادرات الغاز الطبيعي السائل من شبه جزيرة يامال في أقصى شمال روسيا، وتعرضت هذه الشراكات التجارية للتوقف بعد العقوبات الغربية على روسيا في أعقاب الحرب في أوكرانيا عام 2022، مما فتح الباب أمام دخول الصين في الدعم اللوجستي والمالي لاستمرار العمل في هذه الحقول.
(3) طرق التجارة
يُعد الاهتمام الروسي الرئيس الثالث في القطب الشمالي هو الاستخدام التجاري، والسيطرة على الطريق البحري الشمالي (NSR)، إذ تريد روسيا فتح هذا الطريق للشحن لتسهيل صادراتها من النفط والغاز الطبيعي المسال، وتعزيز صناعة النقل البحري، وربما تطوير الصناعات الكثيفة الاستهلاك للطاقة في أقصى شمال روسيا لتصديرها إلى الشرق الأقصى.
تهدف إستراتيجية روسيا في القطب الشمالي لعام 2013 إلى تخفيف حدة مصالحها السياسية الواقعية في الأمن العسكري، والنفط والغاز، والسيطرة على منطقة البحر الشمالي، مع التركيز بدلًا من ذلك على كثير من الأولويات الأخرى التي يمكن أن تشكل الأساس للتعاون الدولي، وهذه الأهداف بشكل كامل هي:
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.
