
مرَّ العالم خلال العقدين الماضيين بتحولات عميقة في طبيعة التهديدات الإرهابية؛ فبينما كانت الأساليب التقليدية (التفجيرات والخطف والهجمات الميدانية) هي المسيطرة سابقًا، نشهد اليوم ما يمكن تسميته “الإرهاب الجديد”، المرتبط ارتباطًا وثيقًا بالتكنولوجيا المتقدمة، والفضاء الرقمي. لقد فتح انتشار الإنترنت والهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي أبوابًا واسعة أمام التنظيمات المتطرفة، حتى بات بإمكانها استهداف جمهور عالمي، وإلهام متعاطفين عبر قارات بعيدة، دون الحاجة إلى سيطرة جغرافية. وتعد التقنيات الحديثة نافذةً لتضخيم هذا التأثير. ويُشار إلى أن ما يُسمّى بالإرهاب الجديد لا يعني ولادة أيديولوجيا جديدة، بقدر ما يشير إلى الأساليب والتقنيات الناشئة التي يستخدمها المتطرفون. فالميزة الجوهرية في هذه المرحلة هي القدرة على شنّ هجمات، أو نشر أفكار، من خلال الفضاء الرقمي على نحو واسع، دون الاعتماد على قواعد ميدانية تقليدية؛ ومن ثم فإن هذه التقنيات تفتح ثغرات في دفاعات الدول التقليدية، مما يستلزم إعادة تقييم إستراتيجيات مواجهة الإرهاب ضد المنظمات العابرة للحدود.
في هذا العصر الرقمي الجديد، لا يقتصر دور الذكاء الاصطناعي على الاستخدامات المدنية والتجارية، فقد أصبح سلاحًا ذا حدين؛ فالتكنولوجيا نفسها التي تساعد على ازدهار الاقتصاد والطب والتعليم يمكن أن تسخر أيضًا لخدمة الإرهاب والتطرف في العالم. وبينما تسعى الدول إلى تطوير أدوات مكافحة الإرهاب الرقمية لضمان أمنها، يجد المتطرفون أنفسهم في سباق مع الزمن لاكتشاف طرق جديدة لاستغلال اختراقات الذكاء الاصطناعي. يرى كثير من الخبراء أن دخول الذكاء الاصطناعي المتطور في أيدي التنظيمات المتطرفة يمثل نقطة تحول فارقة؛ فكلما ازدادت قوة التكنولوجيا، بات من الصعب مواكبتها ومكافحتها باستخدام الأساليب التقليدية وحدها.
لم يكن داعش بمعزلٍ عن هذه الظاهرة الجديدة. بعد سنوات من خسارته مناطق واسعة في سوريا والعراق، بدأ التنظيم بإعادة تشكيل نفسه على غرار شبكة عالمية لا مركزية أكثر منه دولة تقليدية. لقد تبنى داعش نموذجًا تنظيميًا هجينًا يجمع بين قيادة مركزية تُوفر التوجيه الأيديولوجي والإعلامي، وفروع إقليمية مستقلة نسبيًا تدير عملياتها الخاصة. ومع تكامله في الفضاء الإلكتروني، حوّل التنظيم تركيزه إلى ما يشبه الخلافة الافتراضية، معتمدًا على حملات إعلامية رقمية متجددة. وبهذا الأسلوب صار داعش أقرب إلى شبكة عالمية لا مركزية من كونه دولة قائمة بذاتها، حيث تتركز المهام الإعلامية والأيديولوجية لدى القيادة المركزية، في حين تنفّذ الولايات فروعه العمليات محليًا.
إن داعش، الذي عُرف بقدرته على التكيّف مع التقنيات الحديثة، كان سريعًا في تبني أدوات متقدمة لتوسيع نفوذه عبر الإنترنت، ففي ظل الهزائم الميدانية، بنى التنظيم وجوده الرقمي على نطاق عريض، مستفيدًا من انخفاض التكلفة، وإمكانية الانتشار اللا مركزي للتكنولوجيا، فقد استمر داعش في إنتاج محتوى دعائي ضخم حتى بعد سقوط مشروع الخلافة عام 2019، مضاعفًا ذلك بلسان حال فروعه التي عملت بنشاط في مناطق مثل إفريقيا وآسيا الوسطى. على سبيل المثال، بادرت خلايا تابعة لداعش في العراق أو الصومال إلى إنتاج مقاطع فيديو ذات طابع سينمائي، وتوليد صور ورسوم ثلاثية الأبعاد تروّج لأفكاره، مع بث محتوى دعائي عالي الجودة بلغات متعددة. كما استغل التنظيم منصات التواصل الاجتماعي، وتطبيقات التراسل المشفر بذكاء؛ فأنشأ حسابات تفاعلية على تطبيقات كثيرة، وتواصل مع أتباعه من خلال منتديات مغلقة وقنوات خاصة. وقد وجد داعش في هذا الفضاء الرقمي سوقًا مفتوحةً لاستقطاب المقاتلين، وجمع الدعم المالي: استخدم العملات الرقمية للتحويل وجمع التبرعات، مستغلًا طبيعة الإنترنت المظلم لإخفاء تحركاته المالية.
أحد أبرز مظاهر الإرهاب الرقمي الجديد يكمن في قدرة التنظيمات المتطرفة على توظيف الذكاء الاصطناعي التوليدي في صناعة المحتوى والدعاية، فالتقنيات الحديثة أصبحت قادرةً على إنشاء نصوص وصور ومقاطع فيديو متقنة بسرعة فائقة، وبجودة احترافية. وقد مكن ذلك داعش من إنتاج رسائل متطرفة على نحو أسرع وأكثر تأثيرًا؛ ففي عام 2024، ظهر تنظيم داعش إعلاميًا في مقاطع فيديو تُقدّمها شخصيات إخبارية اصطناعية بالكامل، أي مذيعون وهميون مولّدون بالذكاء الاصطناعي؛ بهدف عرض أنشطة التنظيم الزائفة، وترويج أفكاره. كما لجأ التنظيم إلى تزييف محتوى مألوف؛ فوُجدت حالات عُدِّلَت فيها مشاهد مأخوذة من برامج كرتونية شهيرة ليظهر بطلاها يؤديان نشيدًا متطرفًا، باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في تركيب الفيديو والصوت. تُظهر هذه الأمثلة مدى براعة داعش في تكييف الوسائل الإعلامية الغربية لخدمة غايته.
وباستخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي، بات بإمكان داعش تنويع رسائله تنويعًا كبيرًا ودقيقًا كما لم يكن سابقًا. فمن الممكن توليد نصوص دعائية تلقائيًا، ثم تحويلها إلى صور، أو فيديوهات، أو تسجيلات صوتية عالية الجودة وتوزيعها بسرعة على منصات التواصل الاجتماعي. وهذه القدرة الكبيرة على “الإنتاج الذكي” تعني أن التنظيم بإمكانه تحديث رسائله وتكييفها حسب المستجدات والأحداث في الوقت الفعلي، مما يزيد صعوبة رصد محتواه وإزالته قبل انتشاره.
إلى جانب الدعاية، يعمل داعش على استغلال الذكاء الاصطناعي في التخطيط للهجمات الإرهابية الحقيقية، فالذكاء الاصطناعي يتيح اليوم تحليل كميات ضخمة من البيانات بسرعة، مما يساعد الإرهابيين على صنع قرارات دقيقة وسريعة، فمثلًا يمكن للتنظيم استخدام برامج ذكية لدراسة خرائط المدن، وشبكات النقل، وأوقات الذروة الأمنية لتحديد أفضل النقاط لتنفيذ هجوم، أو لتجنب الكمائن. وتشير دلائل إلى أن عناصر متطرفة بدأت بالفعل بتجربة نماذج ذكاء اصطناعي في تصميم أسلحة متفجرة جديدة، أو مواد كيميائية مسممة بفاعلية أكبر.
بالإضافة إلى ذلك، يتجلى البعد السيبراني لهذه العمليات، فداعش لا يكتفي بالهجمات الميدانية فحسب؛ بل يمتد إلى المجال الإلكتروني أيضًا. وفي الماضي لجأت جماعات متطرفة إلى برمجيات خبيثة تقليدية، أما اليوم فيمكنهم تطوير برامج خبيثة ذكية (malware) تستخدم تقنيات الذكاء الاصطناعي لاختراق بنى تحتية حيوية. فمن الممكن أن يخترق داعش شبكات الحواسيب في مستشفيات، أو محطات طاقة، عن طريق برمجيات مدعومة بتعلم آلي لشلّ الأنظمة، أو يستخدم قدرات الذكاء الاصطناعي في إصدار تعليمات برمجية تتجاوز الحواجز الأمنية. وعلى صعيد المركبات والطائرات المسيرة، استُخدمت في السابق طائرات من دون طيار بسيطة محملة بالمتفجرات، ولكن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يجعل هذه الطائرات أكثر استقلالية ودقة، فتصبح قادرة على التحليق الذاتي، وتغيير مساراتها وتحديد أهدافها تلقائيًا. والسيناريو نفسه ينطبق على السيارات الذاتية القيادة؛ إذ يلوح في الأفق إمكانية تحويل سيارة ذكية إلى عبوة انتحارية ذاتية الإرشاد.
ربما يكون الأخطر هو دخول ما يعرف بـالذكاء الاصطناعي الوكيل (Agentic AI) حيز التنفيذ في العالم، فحتى الآن كان التنظيم يحتاج إلى شبكات بشرية كبيرة لإدارة أنشطة التواصل والتخطيط، لكن مع ظهور وكلاء أذكياء مستقلين، قد تتضاعف كفاءة داعش على نحو كبير؛ ففي المستقبل القريب، يمكننا تخيل برنامج ذكاء اصطناعي مستقلًا يُكلف بمهام متسلسلة: البحث عبر الإنترنت عن مواقع تصنيع المواد المدمرة، وطلب قطع إلكترونية أو كيميائية من الأسواق المفتوحة، وترتيب نقلها من خلال أنظمة لوجستية أو بريدية، وربما حتى جدولة هجمات باستخدام الطائرات المسيَّرة، أو المركبات الذاتية. هذا السيناريو ليس خياليًا أو بعيدًا؛ بل هناك حديث عن إمكانية تكليف أنظمة ذكاء اصطناعي مستقلة بأتمتة مهام كهذه بالكامل دون تدخل بشري مباشر. من خصائص هذه الأنظمة أن بإمكانها التكيف والتعلّم الذاتي استجابةً لبيانات جديدة، وظروف ميدانية متغيرة؛ وبذلك يمكن لتنظيم داعش –عن طريق هؤلاء الوكلاء- أن يطوّر إستراتيجيات هجومية متطورة بسرعة تامة؛ مما يجعل ملاحقته ومكافحته تحديًا فائق الصعوبة.
تشمل مجالات استغلال داعش للتقنيات المتقدمة أمورًا كثيرة، منها:
دعاية وإعلام مدعوم بالذكاء الاصطناعي: إنتاج مقاطع فيديو وصور مدعومة بصوت وصورة اصطناعية عالية الجودة، تُسهل إقناع الجمهور المستهدف، واختراق نظم المراقبة عن طريق الإنترنت.
تجنيد تفاعلي: استخدام روبوتات محادثة (chatbots) تعتمد على الذكاء الاصطناعي للتواصل مع أفراد ضعفاء أو متعاطفين، وبناء علاقات ثقة عن طريق الإنترنت قبل نقلهم إلى عمليات تجنيد ميدانية.
تخطيط هجمات ذكي: تحليل بيانات الخرائط، وشبكات النقل، وأوقات الذروة الأمنية باستخدام نماذج الذكاء الاصطناعي؛ لتحديد النقاط الضعيفة الأكثر فعالية للهجوم، وتنسيق أفضل المسارات.
جمع الذخائر واللوازم آليًا: توظيف وكلاء أذكياء للبحث وشراء المواد الكيميائية والإلكترونية اللازمة لصنع العبوات الناسفة عبر الإنترنت، ثم تنظيم لوجستيات نقلها عن طريق نقاط مواصلات خفية.
هجمات سيبرانية معقدة: تطوير برمجيات خبيثة مدعومة بالذكاء الاصطناعي لاختراق أنظمة التحكم الصناعية، وشبكات المعلومات الحيوية (المستشفيات، ومحطات الكهرباء، والمرافق العامة)؛ بغرض تعطيل البنى التحتية، وتعظيم الخسائر.
لطالما كانت التقنيات الحديثة فرصة استغلال لدى التنظيمات المتطرفة؛ ففي أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات، استغلّ تنظيم القاعدة بدايات الإنترنت لنشر فكره في منتديات غير خاضعة للرقابة، ثم جاء عصر الأشرطة المصورة والأقراص المدمجة، حيث مثّل استخدام الكاسيت وأشرطة الفيديو وسيلة مركزية لنشر الأفكار المتطرفة عالميًا بتكلفة منخفضة نسبيًا. وعندما ظهر تنظيم داعش عام 2014، أخضعت وسائل الإعلام الرقمية نفسها بالكامل لحملته الدعائية؛ فقد نشرت التنظيم فيديوهات إعدامات وتصفيات على الإنترنت، إلى جانب أفلام دعائية سينمائية عالية الإنتاج تروّج لانتصارات مزعومة.
وفي ظل سقوط “الخلافة” عام 2019، لم تتوقف هذه الديناميكية؛ بل استمر داعش في تكثيف الحضور الإعلامي، فقد زاد التنظيم إنتاج المحتوى بجميع الصيغ واللغات، بما في ذلك إطلاق منصات تواصل، وملفات رقمية متعددة، مستفيدًا من انخفاض تكاليف النشر الرقمية، وانعدام المركزية. كما بذل فرع “داعش خراسان” وغيره جهدًا لتعظيم هذا التأثير؛ فتصدرت مؤسساته (مثل مجلة “صوت خراسان” التابعة له) الحديث عن أخطار الذكاء الاصطناعي وفرصه، مما يدل على ارتفاع وعي التنظيم بهذه التكنولوجيا. ومن الأمثلة اللافتة على هذا التطور إطلاق مبادرة “حصاد الأخبار”، وهي سلسلة مقاطع فيديو إخبارية أنتجها التنظيم بالكامل بالذكاء الاصطناعي، وقدمتها وجوه صحفية اصطناعية؛ بهدف سرد أخبار زائفة عن نشاط التنظيم الدولي.
وفي السياق نفسه، يستمر التنظيم في استخدام الأساليب المألوفة بذكاء، مثل هجمات الطائرات المسيّرة (درونز) البسيطة ضد قواعد عسكرية ومدنية، فقد شهدنا خلايا داعش تزود طائرات صغيرة بمتفجرات، ومع تقدم الذكاء الاصطناعي يصبح بإمكان هذه الطائرات أداء مهام أكثر تعقيدًا واستقلالية. كما دخل داعش عالم الحرب الإلكترونية؛ فقد ظهرت تقارير عن خلايا قرصنة تابعة للتنظيم تشن هجمات سيبرانية، مثل استخدام برامج خبيثة لابتزاز بيانات حساسة (مثل ما يعرف بـ(Ransomware) ومطالبة ضحاياها بفدية مالية. ويظهر تنظيم داعش حاليًا اهتمامًا بالتمويل الرقمي أيضًا؛ إذ يجمع التبرعات عن طريق العملات المشفرة، ويحولها من خلال شبكات الإنترنت المظلم، مما يزيد صعوبة تعقب موارد التنظيم.
يمكن اختصار تهديدات داعش في ظل الذكاء الاصطناعي في جانبين رئيسين؛ الخطر الأول يكمن في تكثيف نطاق الدعاية والتجنيد وتوسيعه، فالذكاء الاصطناعي التوليدي يمكّن التنظيم من إنتاج محتوى دعائي عالي الجودة بسرعة فائقة، فالمسلسلات الإخبارية الزائفة، والصور والفيديوهات المركّبة تنتشر بجهد ضئيل، بل تُصمَّم لتستهدف مجتمعات بعينها بدقة (من حيث اللغة أو الميول). وقدرة داعش على تنويع هذه الرسائل باستمرار وزيادتها يصعّب اكتشافها وإزالتها من الإنترنت قبل أن يصل تأثيرها. ويعد التوزيع الواسع على شبكات التواصل الاجتماعي خطوة إضافية، إذ تنتشر مواد داعش على نحو فيروسي أحيانًا، ما يجعلها تصل إلى جمهور أكبر وأيسر من أي وقت مضى.
أما الخطر الثاني، فهو الأتمتة التكنولوجية للعمليات الإرهابية، فمع تسارع دمج الذكاء الاصطناعي في أعمال داعش، قد ينتقل التنظيم من مجرد استخدامه في الدعاية إلى تطبيقاته العملياتية الصرفة، فكلما أصبح بإمكان داعش أتمتة مراحل من الأعمال الإرهابية -مثل التخطيط، وجمع المعلومات، وتأمين المستلزمات اللوجستية- قلت الحاجة إلى التنظيم الميداني التقليدي؛ ونتيجة لذلك، قد تصبح الهجمات المُعدة بالذكاء الاصطناعي أسرع وأكثر دقة، وأقل اعتمادية على عشرات الأشخاص. ومع ظهور “الوكلاء الأذكياء”، تصبح الإمكانية قائمة لتكليف برامج مستقلة بإعداد عمليات هجومية معقدة، مما يجعل التصدي لها أصعب بكثير؛ فالمهمة التي كان يستلزم تنفيذها مئات الساعات البشرية قد تُنجز في دقائق؛ ومن ثم يظهر تهديد مزدوج: أوله توسيع الدعاية والتجنيد، وثانيه تحويل هذه الأدوات إلى جزء من خطط الهجوم.
يستجلب هذا المشهد تحديات أمنية وسياسية معقدة، فالدول قد تجد نفسها عاجزة أحيانًا عن ملاحقة الرسائل الرقمية الزائفة قبل انتشاره. وفي الوقت نفسه، يعمل توسع داعش في العمليات الملموسة بذكاء اصطناعي على تقويض الإجراءات الأمنية التقليدية. كما ستواجه الحكومات معضلة حقيقية في الموازنة بين تعزيز الأمن القومي ومراقبة التقنيات الجديدة من جهة، والحفاظ على الحريات الرقمية وخصوصية الأفراد من جهة أخرى. أي تشدد أمني مفرط قد يثير انتقادات بشأن التعدي على الحريات العامة، مما قد يمنح التنظيمات المتطرفة ذريعة لاستغلال سخط الجمهور على القيود الأمنية لتجنيد عناصر إضافية.
لمواجهة هذا السيناريو المعقد، لا بد من اعتماد نهج متعدد المستويات يتضمن جوانب تقنية وسياسية واجتماعية. من الإجراءات المهمة:
تُظهر المعطيات أن استخدام داعش للتقنيات الحديثة والذكاء الاصطناعي يمثل نقلة نوعية في مسار التهديدات الإرهابية، وليس مجرد امتداد لأساليب دعائية قديمة. التنظيم الذي فقد أراضيه الميدانية يحاول تعويض ذلك من خلال الفضاء الرقمي اللا مركزي وبالأدوات الجديدة المنخفضة التكلفة. وقد أصبح الذكاء الاصطناعي عنصرًا متناميًا في بنيته الدعائية والتشغيلية، لا أداة تجريبية مؤقتة.
يتضح من هذا التحول أخطارًا مزدوجة: من جهة، تكثيف الدعاية والتجنيد، حيث يسمح الذكاء الاصطناعي التوليدي بإنتاج محتوى متطرف عالي الجودة ومتعدد اللغات يستهدف فئات محددة بدقة، مما يصعب اكتشافه وإزالته. ومن جهة أخرى، أتمتة العمليات الإرهابية، عن طريق ما يعرف بـ”الذكاء الاصطناعي الوكيل” الذي قد يقلل الحاجة إلى المقاتلين التقليديين، ويؤدي إلى هجمات أكثر تعقيدًا وأقل توقعًا. فعلى سبيل المثال، قد تُكلف أنظمة ذكية بمسح الإنترنت بحثًا عن الأسلحة أو المواد المتفجرة، وترتيب وصولها، واستهداف الأهداف بدقة فائقة.
من المتوقع أن تتعمّق هذه الاتجاهات مع اتساع الفجوة بين سرعة تطور التكنولوجيا وفاعلية إجراءات المواجهة، فالجماعات المتطرفة غالبًا ما تتحرك في “المناطق الرمادية” القانونية، وتستغل غياب الأطر التنظيمية الصارمة للتجريب دون رقيب، خاصة عبر الحدود. كما أن تزايد الأزمات العالمية (الحروب، والاضطرابات الاقتصادية، والهجرة) قد يوفر بيئات خصبة للتجنيد عن طريق الوعد الوهمي بالانتماء أو الانتقام الموجه بالتقنيات الحديثة.
خلاصة القول: إن الذكاء الاصطناعي يفتح أمام التنظيمات المتطرفة جبهة جديدة منخفضة التكلفة وعالية التأثير؛ ما يفرض على الدول تبني إستراتيجيات استباقية شاملة. يجب أن تجمع هذه الإستراتيجيات بين التطوير التكنولوجي لمكافحة الإرهاب، والتعاون الدولي لتبادل المعلومات، وملاحقة الجناة عبر الحدود، والمعالجة الفكرية والاجتماعية لمنع استقطاب العناصر الجديدة. وبتضافر هذه الجهود يكون بالإمكان منع تحوّل أدوات الذكاء الاصطناعي إلى عامل حاسم يغلب كفة التنظيمات الإرهابية في تهديدات المستقبل.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير