هناك اتفاق بين المؤرخين وكبار الإستراتيجيين أن فرض العقوبات السياسية والاقتصادية والعسكرية، والاتفاقيات “غير العادلة”، يمكن أن يأتي بنتائج عكسية، خاصة إذا فُرضت هذه العقوبات أو الاتفاقيات “غير العادلة” تحت سلاح التهديد أو الابتزاز، وخير نموذج لهذه الخطيئة هو “معاهدة فرساي”، التي فرضها الحلفاء على ألمانيا بعد نهاية الحرب العالمية الأولى في 9 يونيو (حزيران) 1919، وكانت البنود المجحفة فيها الأساس السياسي والدعائي الذي ارتكز عليه الحزب النازي الألماني في تضليل الجماهير وخداعهم وحشدهم لصالحه في انتخابات 1933، وهو ما قاد في النهاية إلى نشوب الحرب العالمية الثانية التي راح ضحيتها نحو 70 مليون شخص.
كثير من الأوروبيين تذكروا “معاهدة فرساي” فور علمهم بالتفاصيل والشروط المجحفة التي وضعها الرئيس الأمريكي دونالد ترمب في “الاتفاق التجاري” الذي وقعته رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين مع الرئيس ترمب، في منتجع تيرنبيري في إسكتلندا، الأحد الماضي، ويسمح للولايات المتحدة بفرض رسوم جمركية تُقدّر بـ15% على الواردات القادمة من 27 دولة في الاتحاد الأوروبي، وهو ما دعا بعض الوزراء والنخب السياسية الأوروبية إلى وصف يوم توقيع الاتفاق بأنه “يوم أسود” لأوروبا، وأنه اتفاق ظالم ومجحف بحق الاقتصادات الأوروبية، وفي مقدمتها الاقتصاد الألماني، حيث عارض كثير من الوزراء الفرنسيين، واتحاد الصناعات الألمانية، هذا الاتفاق الذي فرض على أوروبا شراء الغاز الأمريكي المسال بنحو 750 مليار دولار بدلًا من الغاز الروسي، وفرض “استسلامًا أوروبيًّا كاملًا” للولايات المتحدة فيما يتعلق بالاستثمارات وشراء السلاح الأمريكي، وعمق تبعية القارة العجوز لصانع القرار في البيت الأبيض عقودًا قادمة، وحرم أوروبا “فرصة تاريخية للاستقلال الإستراتيجي” بعد التزام الدول الأوروبية -وفق هذا الاتفاق- باستثمار 600 مليار دولار في الاقتصاد الأمريكي، تضاف إلى نحو 5.9 تريليون دولار استثمارات أوروبية في الوقت الحالي، وأكثر من ذلك فإن هذا الاتفاق يجهض كل الخطط الأوروبية للاستقلال في مجال الأسلحة، وينهي الخطة التي اعتمدتها المفوضية الأوروبية، والتي كانت تهدف إلى استثمار مليارات الدولارات في بناء مصانع جديدة للسلاح والذخيرة عندما اشترط ترمب في هذا الاتفاق شراء الأوروبيين الأسلحة والذخيرة من الولايات المتحدة بأرقام قياسية، وكل ذلك دفع المستشار الألماني فريدريش ميرتس إلى القول “على الرغم من قدرة الاتحاد الأوروبي على حماية مصالحه الأساسية، فإنه كان سيرحب بمزيد من تخفيف القيود على التجارة عبر الأطلسي”. فهل يمثل هذا الاتفاق “معاهدة فرساي جديدة” فرضها ترمب على الاتحاد الأوروبي الذي يعاني هشاشة وضعفًا غير مسبوقين؟ أم أن هذا الاتفاق هو فقط “اتفاق الضرورة” الذي منع نشوب حرب تجارية بين ضفتي الأطلسي؟ وما أوراق الأوروبيين إذا ما أرادوا التخلص من قيود هذه الاتفاقية في المستقبل؟ وهل كان بإمكان الاتحاد الأوروبي الذي يعد أكبر تكتل تجاري في العالم أن يحصل على شروط أفضل؟
يرى كثير من الأوروبيين أن المفوضية الأوروبية والقادة الأوروبيين سلكوا “إستراتيجية خاطئة” مع ترمب -الذي قال إن الاتحاد الأوروبي تأسس لخداع الولايات المتحدة، وأنه أكثر فظاظة من الصين- ووقع هذا الخطأ نتيجة عدم انضمام الأوروبيين مبكرًا في 10 أبريل (نيسان) الماضي إلى الصين وكندا اللتين قررتا فرض “عقوبات ردعية ومضادة” للرسوم الجمركية التي فرضها الرئيس ترمب، وأن اتخاذ أوروبا مسارًا لينًا ومتساهلًا مع البيت الأبيض أدى إلى النتيجة التي تقول “من لا يتعاون يشنق منفردًا”.
ومع أن الاتحاد الأوروبي طرح طرحًا عادلًا بتخفيض عجز تجارة السلع مع الولايات المتحدة البالغ نحو 233 مليارًا عن طريق شراء مزيد من الغاز الطبيعي المسال والأسلحة، فإن الرئيس ترمب واصل الضغط حتى الحصول على ما يريده، وما حصل عليه أكثر بكثير من العقود التجارية، بل يتعلق بقضايا سياسية وجيو-إستراتيجية طويلة المدى، أخذت مسارات كثيرة، منها:
أولًا- الغاز الأمريكي بدلًا من الروسي
أصرت الولايات المتحدة على شراء الاتحاد الأوروبي أكبر كمية من الغاز الأمريكي المسال، يصل سعرها في الوقت الحالي إلى نحو 750 مليار دولار خلال 3 سنوات. وبعيدًا عن كون الغاز الأمريكي المسال باهظ الثمن، وكان سببًا في ارتفاع التضخم لمستويات قياسية عامي 2022 و2023، فهناك خسارة جيوسياسية أخرى لأوروبا؛ لأن معنى هذا عدم عودة الأوروبيين إلى شراء الغاز الروسي الرخيص حتى بعد نهاية الحرب في أوكرانيا، فتاريخيًّا، كان الرخاء الأوروبي، وجاذبية الصناعات الأوروبية وتنافسيتها، يعتمدان على الغاز الروسي الرخيص الذي كان يأتي عن طريق خطوط الأنابيب، مثل خط “نورد ستريم الأول”، و”خط يامال”، وكان مقررًا في عام 2021 أن يبدأ العمل بخط “نورد ستريم الثاني”، الذي كان يفترض أن ينقل 55 مليار متر مكعب من الغاز الروسي إلى أوروبا مثل “نورد ستريم الأول”، وفُجِّر الخطان في سبتمبر (أيلول) 2022، وكل هذا سوف يرفع مستويات التضخم في أوروبا، وينقل الاعتماد الأوروبي على الغاز الروسي إلى “التبعية الكاملة” في مجال الغاز والطاقة إلى الولايات المتحدة التي رفضت في عهد الرئيس السابق جو بايدن تخفيض أسعار الغاز عام 2023 عندما وصل إلى أسعار قياسية بحجة أن الحكومة الأمريكية لا تتحكم في أسعار الغاز المسال الذي يصدره القطاع الخاص الأمريكي وليس الحكومة، وهذا يعني خسارة أوروبا ضلعًا رئيسًا في مثلث الرخاء الأوروبي الذي كان يتشكل أيضًا من سلسلة الوصول إلى الأسواق الصينية الضخمة، وتوفير الحماية لأوروبا من جانب الجيش الأمريكي، لكن ربما أخطر ما يخشاه الأوروبيون في هذا الاتفاق هو انتقال المصانع والشركات الأوروبية من أوروبا إلى الولايات المتحدة، ليس فقط في ظل الأسعار المرتفعة للغاز الأمريكي المسال، بل أيضًا بسبب قانون الضرائب الأمريكي الجديد الذي يخفض الضرائب على نحو قياسي على الشركات التي تعمل في الأراضي الأمريكية، وفي حالة وقوع هذا السيناريو فإن هذا معناه نهاية الرخاء والازدهار اللذين تمتع بهما الاتحاد الأوروبي خلال العقود الماضية.
ثانيًا- تعميق الاعتمادية
منذ إعلان نجاح دونالد ترمب في العودة إلى البيت الأبيض في 5 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي قامت أوروبا بخطوات كثيرة بهدف تحقيق ما تسميه “الاستقلال الإستراتيجي” عن الولايات المتحدة، ووضعت من أجل ذلك نحو تريليون يورو لتعزيز جيوشها، وشراء السلاح، وإعادة التجنيد الإجباري، والتنسيق الفرنسي البريطاني في مجال الأسلحة النووية التكتيكية، وشهد عام 2024 بالفعل تعاقد 13 دولة في الاتحاد الأوروبي على شراء طائرات الجيل الخامس الأمريكية “إف- 35″، وهو ما رفع حصة الولايات المتحدة الأمريكية من صادرات السلاح العالمية إلى نحو 43% العام الماضي، وتؤكد المراجعة الدقيقة لمشتريات السلاح الأوروبية أن الأسلحة الأمريكية شكلت نحو ثلثي المشتريات الأوروبية من السلاح، وحاليًا هناك نحو 500 طائرة عسكرية أمريكية قيد الطلب من الدول الأوروبية، ورغم كل ذلك فإن الضغوط على الأوروبيين سوف تزداد لشراء مزيد من السلاح الأمريكي لثلاثة أسباب: الأول أن غالبية الدول الأوروبية أعضاء في حلف شمال الأطلسي (الناتو) الذي تعهد أمام ترمب بإنفاق نحو 5% من الناتج القومي بحلول 2035 على شراء السلاح والذخيرة حتى تظل الولايات المتحدة في الحلف. السبب الثاني أن هذا الاتفاق نصّ بوضوح على شراء مزيد من السلاح الأمريكي حتى لا ترتفع الرسوم الجمركية على الواردات الأوروبية مرة أخرى إلى 30%. ثالثًا- تتحكم الولايات المتحدة في الأسلحة الأوروبية؛ لأن البنتاغون يستطيع التحكم في الطائرات مثلًا عن بعد، وهو ما يعني أن أي دولة تشتري طائرات أو أسلحة أمريكية سوف تظل تعتمد على الدعم الفني والتقني الأمريكي، وكل هذا يشكل ضغطًا إضافيًّا على الميزانيات الأوروبية، ويقلل الإنفاق الاجتماعي والصحي الذي تمتعت به دول الاتحاد طوال العقود الخمسة الماضية.
ثالثًا- تراجع إستراتيجي
يرى كثير من الأوروبيين أن الاتفاق يعد “تراجعًا إستراتيجيًّا” رضخ فيه الاتحاد الأوروبي لشروط ترمب الاقتصادية والسياسية والعسكرية حتى لا تفرض واشنطن رسومًا جمركية تصل إلى 30% بداية من أغسطس (آب) المقبل، وهو ما سيقود إلى الحد من استقلاليته في صياغة سياساته التجارية والدفاعية مستقبلًا، وأن الاتحاد الأوروبي كان يمكنه أن يتوصل إلى اتفاق أفضل لو تمتع مفاوضوه بحكمة سياسية أفضل.
رابعًا- ضخ الاستثمارات
لم يكتفِ الاتفاق بشراء الأوروبيين للغاز والسلاح الأمريكيين، ودفع 15% على صادراتهم إلى الولايات المتحدة؛ بل نصّ الاتفاق على استثمار أوروبا 600 مليار دولار جديدة في الاقتصاد الأمريكي، وهذا يشكل ضغطًا إضافيًّا على أوروبا التي سوف تضطر إلى إنفاق 600 مليار دولار كان يمكن استثمارها في الاقتصادات الأوروبية، خاصة لدى دول شرق أوروبا وجنوبها، التي تعاني ضغوطًا اقتصادية شديدة منذ الحرب في أوكرانيا.
المؤكد أن الاتفاق الأمريكي الأوروبي أوقف حربًا تجارية كان يمكن أن تندلع على جانبي الأطلسي، لكن الواضح من ردود الفعل الأوروبية أن تنفيذ هذا الاتفاق لن يغيّر مكان أوروبا على الخريطة الاقتصادية العالمية فحسب؛ بل قد يؤدي إلى خروج بعض الدول من الاتحاد الأوروبي على غرار بريطانيا في 31 يناير (كانون الثاني) 2020.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.