
كشف وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في خطابه أمام مجلس الاتحاد (الغرفة الأعلى للبرلمان الروسي) عن مأزق أوروبا ونخبتها المعاصرة في العلاقة مع روسيا، ورسم كذلك حدود التسوية التي يمكن أن تقبل بها روسيا.
تصريحات كبير الدبلوماسيين الروس خلال “ساعة الحكومة” أمام أعضاء مجلس الشيوخ الروس، الأربعاء 10 ديسمبر (كانون الأول) 2025، لا يمكن بحال اعتبارها إحاطة دورية عن مسار السياسة الخارجية لروسيا وأولوياتها، فقد جاءت في بنيتها ومضمونها أقرب إلى إعلان متكامل لمعالم المرحلة المقبلة أو التالية من الصراع الروسي مع الغرب سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا.
أصغيت واستمعت -بعناية شديدة- إلى الخطاب الذي استغرق ساعة كاملة، وردود لافروف على أسئلة السيناتورات الروس، فوجدت الكلمات التي قالها شيخ الدبلوماسيين الروس، وترتيب الرسائل في خطابه، وتوزيعها بين واشنطن وأوروبا، فضلًا عن النظام المالي العالمي، وجدتها تكشف بوضوح أن موسكو والكرملين وبوتين لم يعودوا يتعاملون مع حرب أوكرانيا بوصفها أزمة قابلة للاحتواء السريع؛ وإنما بوصفها صراعًا ممتدًا يعاد فيه تشكيل قواعد الاشتباك بين هذه القوى على مستوى النظام الدولي القائم نفسه.
منذ الجملة الأولى تقريبًا، حسم الوزير الروسي أي جدل داخلي أو خارجي بشأن احتمالات مراجعة المسار حين أكد -بوضوح لا لبس فيه- أن السياسة الخارجية الروسية لا تخضع لأي إعادة نظر، وأن موسكو مستعدة للتعاون فقط مع من يقبل مبدأ الندية والاحترام المتبادل، والاحتكام إلى القانون الدولي.
وهذا الكلام عند قراءته قراءة تفسيرية يمكن اعتباره إعلانًا موجهًا إلى الداخل قبل الخارج، يقول فيه كبير المسؤولين الدبلوماسيين، المسؤول عن صياغة أولويات سياسة روسيا الخارجية وبلورتها، أن لا انتقال إلى سياسة مهادنة، ولا عودة إلى نماذج التبعية الاقتصادية أو الأمنية التي حكمت مرحلة التسعينيات المخزية والمهينة للعقل الجمعي الروسي، ولا حتى لتلك التي كانت في مرحلة بديات الألفية الجديدة.
روسيا، وفق منطق لافروف، حسبما فهمته، دخلت مرحلة تثبيت خيارها الإستراتيجي، لا اختباره.. حُسم الرهان أو القرار.
في المسار الأمريكي، بدا لافروف أكثر تمييزًا من ذي قبل بين واشنطن وبقية الغرب، أي إنه وضع واشنطن في كفة، وبقية الغرب في كفة أخرى. فإعلان الوزير الروسي أن موسكو وواشنطن اتفقتا على مواصلة العمل من أجل التسوية في أوكرانيا، بعد يوم واحد من اجتماعات زيلينسكي مع الأوروبيين في لندن وإعلانهم خطة مقابلة لخطة ترمب، هو إعلان ذو دلالة مهمة، بمعنى أن بوتين وترمب لا يريان الأوروبيين ولا خططهم، ولا يعتبرون بها. كما أن تقدير لافروف العلني لمساعي الرئيس الأمريكي دونالد ترمب إلى الحوار، ترافق مع توصيف لافت على لسان الدبلوماسي الروسي الأكبر لترمب بوصفه “الزعيم الغربي الوحيد الذي يفهم جذور الأزمة الأوكرانية”. وهذه العبارات لا يمكن اعتبارها -في رأيي- مجاملة دبلوماسية بقدر ما هي رسالة سياسية تستهدف أمرين في آن واحد؛ أولًا: الإقرار بإمكان وجود واستمرار نافذة حوار مع واشنطن خارج المزاج الأوروبي المتصلب. وثانيًا: محاولة إرباك وحدة الموقف الغربي من خلال إبراز التباينات الجلية داخل معسكره.
لكن إيجابية لافروف تجاه ترمب لم تكن مطلقة، حسب متابعتي لتسلسل كلامه، فسرعان ما قُيدت بجملة واحدة، لكن كاشفة “ترمب لا يرفع العقوبات علينا؛ بل يوسعها”، والاقتباس هنا من كلام لافروف، الذي يعود بذلك إلى منطق الواقعية الصلبة، بمعنى أن الخطاب السياسي الجيد من جانب ترمب لا يوازيه -حتى الآن- أي تحول فعلي في الأدوات الأمريكية. وبمعنى أدق، يقصد لافروف أن القناة السياسية نعم مفتوحة، لكن بنية الضغط لم تتغير، وهذا يعني -حسب فهمي الخاص طبعًا- أن موسكو تتعامل مع واشنطن على أساس إدارة الصراع لكيلا يخرج عن حدود معينة، لا على أساس شراكة نحو تسوية كبرى.
الحوار قائم، لكن دون ثمن سياسي متبادل. أما على الضفة الأوروبية، فجاء خطاب الوزير الروسي مختلفًا جذريًا. لافروف لم يكتفِ باتهام الأوروبيين بعرقلة التسوية، بل وصف قادة القارة العجوز بأنهم يعيشون حالة عمى سياسي ميؤوس منه نتيجة تمسكهم بوهم إمكانية هزيمة روسيا.
ألفاظ لافروف كانت حادة، والحدة هنا ليست لغوية فقط، بل ذات دلالة ترمي إلى نزع الشرعية السياسية عن أوروبا وقادتها كطرف عقلاني؛ ومن ثم تبطل إمكانية بناء حوار معها. فموسكو وفق هذا التصور لم تعد ترى في بروكسل الرسمية شريكًا محتملًا للحل، بل تراها طرفًا فاعلًا في تعطيل أي تسوية، وشريكًا مباشرًا في إطالة أمد الحرب من خلال الدعم العسكري الذي تعتزم الاستمرار فيه بواسطة سرقة الأصول الروسية المجمدة لدى دول الاتحاد الأوروبي، وكذلك عن طريق فرض مزيد من العقوبات على روسيا.
الأخطر في خطاب لافروف -من وجهة نظري- كان جمعه بين نفي نية روسيا الحرب مع أوروبا والتهديد الصريح للأوروبيين بالرد الروسي الجاهز على أي نشر لقوات أوروبية داخل أوكرانيا، وكذلك على أي مصادرة للأصول الروسية المجمدة، وهذه المعادلة المركبة التي صاغها شيخ الدبلوماسيين الروس بوضوح تعكس منطق الردع الكلاسيكي المعروف، بمعنى نعم، لا رغبة لدينا في وقوع حرب قارية شاملة، لكن في المقابل لن نتسامح مع تغيير قواعد اللعبة الميدانية، وأي وجود عسكري أوروبي على الأراضي الأوكرانية سوف يعامل في هذه الحالة بوصفه تدخلًا مباشرًا في الحرب، ولن ننخدع بكل ما يقال لنا من أنه سيكون في شكل مهمة رمزية، ولا أنه إجراء سياسي محدود الأثر. الصورة لدينا أوضح من شمس الظهيرة في بلد شرق أوسطي. وهنا تتضح نقطة مفصلية لموسكو والكرملين وبوتين، وهي أن روسيا لم تعد تتحدث عن عواقب بصيغ عمومية فضفاضة؛ بل عن رد جاهز، أي عن سيناريوهات عملياتية تعبوية رُسمت وأُعدت سلفًا.
إن هذا التحول من التحذير السياسي إلى إعلان الجهوزية الفعلية يدل على أن القيادة الروسية أصبحت ترى أن مرحلة اختبار النيات الأوروبية توشك على نهايتها، وأن أي مغامرة من هذا النوع ستقابل برد مباشر، مع كل ما يحمله ذلك من خطر انزلاق الصراع إلى مواجهة أوسع.
في الشق الاقتصادي، وضع وزير الخارجية الروسي الحرب في إطارها البنيوي حين قال إن روسيا قُطعت عن الدولار، ولم تتخلَ هي نفسها عنه، بل ما حدث هو أن الدولار استُخدَم سلاحًا سياسيًّا ضد روسيا، وأنها لهذا السبب باتت مضطرة إلى البحث عن بدائل، وهذه هي المرة الأولى -حسب متابعتي- التي يقدم فيها التوصيف التالي، بهذه الصراحة، وأمام المؤسسة التشريعية العليا: “الدولار لم يعد عملة عالمية محايدة في النظر الروسي؛ بل أداة ضغط واستهداف”. وهذا بالطبع يفسر التحول المتسارع في روسيا نحو إيجاد وابتكار أنظمة دفع بديلة، وتوقيع العقود والتعاقدات الدولية بالعملات الوطنية، وتوسيع الشراكات المالية خارج الإطار الغربي.
وإذا كان استبعاد الدولار يمثل الوجه المالي للصراع مع الغرب، فإن ملف الأصول هو وجهه السيادي المباشر؛ فتأكيد لافروف أن موسكو سترد على أي خطوة لمصادرة الأصول الروسية بإجراءات مقابلة يعني أن الصراع انتقل رسميًا من مرحلة تجميد الأصول إلى حرب الملكيات، وما أقصده هنا أن الرد الروسي سيكون بمصادرة أصول مملوكة للشركات الأوروبية داخل روسيا تتجاوز قيمتها حسب تقديرات محلية اطلعت عليها مؤخرًا 300 مليار دولار. الفارق هنا أن الأصول الروسية المجمدة في الغرب هي أصول سيادية مملوكة للبنك المركزي الروسي، أي للدولة الروسية، أما الأصول الغربية الموجودة في روسيا فهي أصول خاصة، مملوكة لشركات أوروبية كانت تعمل في روسيا قبل الحرب، وهذا سيفتح الباب أمام مقاضاة هذه الشركات حكوماتها لأنها تسببت في مصادرة أصولها في روسيا بسبب مصادرة الأصول الروسية، وهذا سيفتح بابًا أكثر تعقيدًا للأوروبيين أنفسهم، وسيكسر كل قواعد اللعبة؛ لأن الحديث في هذه الحالة لن يكون عن خسائر مالية متبادلة فقط، ولكن الأخطر عن كسر الثقة تمامًا بالنظام القانوني والمالي الغربي برمته، بما يفتح الباب أمام استهداف الاستثمارات الغربية، ليس فقط داخل روسيا كما أشرت أعلاه؛ بل في سائر فضاءات نفوذها كذلك.
وفي سياق مواز، يحمل حديث لافروف عن ضرورة إزالة الجذور الأساسية للأزمة الأوكرانية قبل أي تسوية رسالة واضحة وغير قابلة للنقاش بأن موسكو لا تقبل حلولًا مؤقتة على شاكلة وقف إطلاق نار هش، أو تجميد للصراع، وهو ما يسعى إليه الأوروبيون. والمقصود بإزالة الجذور -حسب فهمي للسردية الروسية الثابتة التي لا تتغير- هو إعادة تشكيل البيئة الأمنية التي نشأت بعد عام 2014، وإنهاء الدور البنيوي لحلف الناتو في أوكرانيا، فضلًا عن ضرورة معالجة ملف الهوية واللغة، والموقع الجيوسياسي لكييف.
بغير ذلك لا أعتقد أن الروس سيوافقون على أي تسوية؛ لأن أي حل سيكون -في نظر موسكو والكرملين وبوتين- مجرد استراحة محارب قبل جولة صراع جديدة.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير