إستراتيجيات عسكرية

الآثار الإستراتيجية للتفاهمات الدفاعية الأمريكية- السعودية


  • 20 نوفمبر 2025

شارك الموضوع
i مصدر الصورة: foreignpolicy

يشكّل التوقيع الذي تمّ يوم الأربعاء 19 نوفمبر (تشرين الثاني) 2025، في البيت الأبيض، بين الرئيس دونالد ترمب وولي العهد الأمير محمد بن سلمان خطوة مفصلية، إذ تمثل معاهدة التعاون الدفاعي والأمني الإستراتيجي الأمريكية- السعودية، إطارًا شاملًا يعيد تعريف مستوى عمق العلاقة بين واشنطن والرياض واتجاهها. وبموجب هذه المعاهدة، حصلت المملكة رسميًا على صفة حليف رئيس من خارج الناتو (MNNA)، وهي صفة تُمنح للدول الأقرب إلى الولايات المتحدة دفاعيًا، وتتيح نقلًا مسرّعًا للتقنيات العسكرية المتقدمة، والأنظمة الحساسة، والتعاون البحثي الذي كان يتطلب سنوات للحصول على الموافقة.

وفي هذا السياق، يمثّل بدء المسار المتعلق باقتناء مقاتلة (F-35A) الخطوة الأكثر حساسية؛ فهو القرار الذي ستُبنى عليه الهندسة الكاملة للأنظمة المتفق عليها، كما أنه لحظة دخول أول دولة عربية إلى ميدان الجيل الخامس. ومن هذه اللحظة فصاعدًا، سيتشكل ميزان القوى العسكري في الشرق الأوسط حول هذا المتغير، وسيكون لما اتُّفق عليه أمس آثار متراكمة ستغير المشهد الإستراتيجي للمنطقة على مدى سنوات طويلة.

الحملة الإسرائيلية ودلالاتها الإستراتيجية

يعكس رد الفعل الإسرائيلي الحاد خلال الأيام الماضية إدراكًا واضحًا لمدى التحول الذي يجري، فقد أقدم رئيس الوزراء الإسرائيلي على تحرك مباشر وقوي لمنع عملية نقل المقاتلة أو فرض شروط سياسية عليها. تواصل مع كبار مسؤولي إدارة ترمب، وحشد حلفاء تقليديين، وضغط من خلال الكونغرس، بهدف واحد: لا (F-35A) للسعودية بدون اعتراف سعودي علني بإسرائيل. وقد رفض الرئيس ترمب هذا الطرح، وهو رفض ذو دلالة سياسية كبيرة بالنظر إلى ثقل الضغوط الإسرائيلية.

ولا ينبع القلق الإسرائيلي من اعتبارات عاطفية؛ بل من تقييم فني أعدّته الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية يحدد السعودية بوصفها الدولة الإقليمية الوحيدة القادرة -حجمًا وموارد وقدرات مؤسسية- على بناء بنية تفوّق جوي قد تُقوّض -مع الزمن- التفوق الجوي الإسرائيلي التاريخي.

إن الجمع بين مسار مقاتلة (F-35A)، والتوسع المقرر في (F-15EX)، والطبقات المتقدمة للدفاع الصاروخي -بما فيها “باتريوت باك- 3/ إم إس إي” (Patriot PAC-3/MSE)، و”ثاد” (THAAD)- إضافة إلى منصات الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع (ISR)، وأسراب “إم- كيو- 9 بي” (MQ-9B)، وتطوير شبكة القيادة والسيطرة والاتصالات والحواسيب والدفاع السيبراني، وأنظمة القتال والاستخبارات والمراقبة والاستطلاع (C6ISR)- جميعها تغيّر الحسابات الأساسية للقوة الجوية في الشرق الأوسط. وهذه قراءة تقنية بحتة من داخل المؤسسة الأمنية الإسرائيلية.

كما أن تمكين كل من السعودية وإسرائيل من تشغيل المقاتلة نفسها من الجيل الخامس يضع العلاقة الإستراتيجية في إطار جديد:

الولايات المتحدة لن تسمح بوجود بيئة قد تواجه فيها قوتان تعملان على منصات الجيل الخامس الأمريكية بعضهما عسكريًا؛ لما ينطوي عليه ذلك من مخاطر إستراتيجية، وتقنية عالية.

وهكذا تتحول (F-35A) إلى منصة قدرات، وإلى أداة استقرار هيكلي بين الحليفين المركزيين لواشنطن في المنطقة.

التكامل العملياتي وتشكّل القوة الجوية السعودية

لا تكمن قيمة مقاتلة (F-35A) في التخفي، أو دمج المستشعرات فحسب؛ بل في دورها بوصفها محورًا مركزيًّا لشبكة الدفاع الوطنية السعودية، فمع ترقية “بلوك 4” (Block 4) تصبح المقاتلة العقدة المركزية للمعالجة التشغيلية، حيث تتدفق إليها البيانات من كل المنظومات التالية:

  • منظومات باتريوت باك- 3 / إم إس إي (Patriot PAC-3/MSE).
  • منظومات ثاد (THAAD).
  • الطائرات بدون طيار “إم- كيو- 9 بي سي غارديان/ريبر” (MQ-9B SeaGuardian/Reaper).
  • مستشعرات الأسطول البحري.
  • أسطول الأواكس (AWACS).
  • الجيل الجديد من طائرات الإنذار المبكر والسيطرة الجوية (AEW).
  • شبكات الرادار الوطنية.
  • منظومات الأمن السيبراني.
  • منظومات الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع (ISR) الجوية والمرتفعة.

هذه التكاملية تمنح السعودية صورة جوية موحدة، وتُغلق فجوات استخبارية امتدت عقودًا، وتزيد زمن الإنذار الإستراتيجي. ويتوازى هذا مع مسار “إف- 15 إي إكس” (F-15EX) إلى جانب “إف- 15 إس إيه” (F-15SA) و”يوروفايتر تايفون” (Eurofighter Typhoon). وتمتلك السعودية أصلًا أكبر أسطول “إف-15” (F-15) خارج الولايات المتحدة، وأكبر أسطول تايفون خارج أوروبا.

وتُعدّ “تايفون” ركيزة الجيل 4.5 التي توفر دفاعًا جويًا عاليًا، وقدرات متعددة المهام تكمل الضربات الثقيلة التي تتحملها (F-15EX)، في حين تمنح (F-35A) التفوق الجوي وإدارة المعركة.

وبحكم حجم السعودية الجغرافي، ومسؤولياتها الإقليمية، تحتاج إلى أسطول يقارب 500 مقاتلة متقدمة من الجيلين 4.5 و5 -ضمن قوة جوية إجمالية تتجاوز 1500 طائرة- وهو حدٌّ أدنى لردع إقليمي فعال عبر مسارح متعددة. أما على الأرض، فيرفع اقتناء 300 دبابة “إم- 1 إيه 2 أبرامز” (M1A2 Abrams) إضافية العدد الإجمالي إلى نحو 1000 دبابة، وهو الحد الأدنى المطلوب للقدرات البرية الحاسمة. كما يشكّل أسطول “إم- كيو- 9 بي” (MQ-9B) غطاءً (ISR) مستمرًا على مدار الساعة، يغذي الصورة التشغيلية المشتركة. وتكتمل المنظومة من خلال تعزيز الدفاعات الجوية، وترقية الأواكس، وتعزيز الرادارات، وتأمين الاتصالات، وبناء مسار تدريبي طويل الأمد لتشكيل شبكة (C6ISR) وطنية متماسكة.

سيادة البرمجيات.. ملفات بيانات المهام وكود المصدر

لن تحقق المنظومات الجوية قيمتها الكاملة بدون سيادة برمجية، فـملفات بيانات المهام (Mission Data Files – MDFs) الخاصة بـ(F-35A) تمثل العقل العملياتي للطائرة: تحدد ما تراه، وكيف تقيّم التهديد، وكيف تتصرف، وهو المجال الأكثر حساسية في سياسات التصدير الأميركية.

تحتاج السعودية إلى:

  • مختبرات إعادة برمجة مشتركة.
  • تعاون مباشر في بناء مكتبات التهديد.
  • قدرة على تحديث الملفات وفق البيئة الإقليمية.

أما كود المصدر (Source Code) فلن تُنقل ملكيته بالكامل، لكن المثال الإسرائيلي يوضح ما يسمح به التفاوض، فقد حصلت إسرائيل على قدرة:

  • دمج أسلحة وطنية.
  • تعديل طبقات مهام.
  • مواءمة الأنظمة مع العقيدة القتالية الإسرائيلية.

وتبرز أهمية ذلك بعد الضربة الإسرائيلية على قطر، التي نُفذت بطائرة “إف- 15 آي” (F-15I) مزودة بصاروخ بالستي يُطلق من الجو (ALB)، انطلق من أجواء دولية فوق البحر الأحمر، في مسار شبه مداري، ثم انقض على الهدف بسرعة كبيرة، دون دخول الأجواء السعودية. وكان ذلك ممكنًا فقط بفضل صلاحيات برمجية إضافية حصلت عليها إسرائيل؛ ومن ثم تحتاج السعودية إلى ممرات سيادية مماثلة تسمح لها بـ:

  • دمج أسلحة وطنية.
  • تحديث المستشعرات.
  • تطوير روابط البيانات.
  • تعديل طبقات المهام.
  • تحديث الأنظمة وفق جدول وطني مستقل.

ومن دون ذلك، ستكون القيمة الاستراتيجية لهذه المنصات محدودة. ومعه، تتحقق السيادة التشغيلية الكاملة.

دور السعودية في المرحلة المقبلة

تؤسس اتفاقيات اليوم لبنية عسكرية تمكّن السعودية من أداء دورها الطبيعي: قوة الاستقرار المركزية في الشرق الأوسط. ومن هذا الموقع، تستطيع المملكة قيادة المسار الذي يحقق هدفين أساسيين لأي سلام دائم في المنطقة:

أولًا إنشاء دولة فلسطينية.

ثانيًا الاعتراف التدريجي بإسرائيل ضمن إطار يوفر لها نافذة دخول إلى العالمين العربي والإسلامي، ولا توجد دولة أخرى تمتلك الشرعية والوزن المؤسسي الكافي لتحقيق المسارين معًا.

وقد عبّر وزير الخزانة الأمريكي سكوت بيسنت، في مقابلة على فوكس نيوز (Fox News)، عن هذا التغيير بوضوح عندما قال: “السعودية هي الشريك العسكري الأول للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، الدولة التي تعتمد عليها واشنطن للحفاظ على استقرار المنطقة. ومع هذه القدرات الجديدة، يتعزز هذا الدور أكثر”.

إن تداعيات هذه التفاهمات الدفاعية ستُعيد تشكيل المشهد العسكري والسياسي والدبلوماسي للشرق الأوسط عقودًا مقبلة.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير


شارك الموضوع