يتضمن هذا المقال الحلقة الأخيرة من عرض كتاب “استعادة روسيا مكانة القطب الدولي”، وهو من تأليف عاطف معتمد عبد الحميد، ويتألف من 140 صفحة، وصادر عام 2009 عن الدار العربية للعلوم، ومركز الجزيرة للدراسات.
في البداية كانت الإشارة إلى الأقاليم والشعوب التي يوقعها قدرها الجغرافي إلى جوار قوى عالمية كبرى، فتكون أشبه بميدان للرماية، وساحة للقتال. ولروسيا منذ القدم عدة حدائق خلفية ممثلة دول البلطيق الثلاث (لاتفيا، ولتوانيا، وإستونيا)، ودول شرق أوروبا (أوكرانيا، وبيلاروس، ومولدافيا)، ودول القوقاز (جورجيا، وأرمينيا، وأذربيجان)، ودول آسيا الوسطى (تركمانستان، وقرغيزستان، وأوزبكستان، وطاجيكستان، وكازاخستان)، بالإضافة إلى أقاليم أخرى تضم أقاليم تتماس مع حديقة روسيا الخلفية، ممثلة في تركمانستان الشرقية (شينغيانج)، وأفغانستان، وباكستان، وكشمير، ومنطقة المشرق العربي، وإيران.
المبحث الأول: دوائر الأمن القومي
وجاء هذا المبحث للحديث عن تراجع الإمكانات الروسية التي تمكنها من مواجهة التغلغل الأوروبي والأمريكي، خاصة في حدائقها الخلفية، وفي أوروبا التي انضم معظم جمهورياتها السوفيتة السابقة إلى حلف الناتو، أو إلى الاتحاد الأوروبي نفسه، حتى إن بولندا- مقر حلف وارسو- أضحت إحدى دول الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو. كذلك في ظل السعي الأمريكي إلى القضاء على المتسببين في أحداث سبتمبر (أيلول) 2001، اندفعت الولايات المتحدة لتقيم قواعد عسكرية لها في دول آسيا الوسطى. والقوقاز كذلك لم يكن بعيدًا عن الوجود الأمريكي في ظل صراع روسي جورجي، ودعم أمريكي لأذربيجان في واحد من الأقاليم الجيوستراتيجية الخطيرة للأمن الروسي.
وقد أدى هذا التغلغل الأمريكي فيما كان حديقة خلفية لروسيا أن تحولت منطقة كاليننغراد، التي كانت تسعى روسيا إلى جعلها هونغ كونغ أوروبا عبر خطط التنمية الاقتصادية، توحويلها إلى مدينة قمار على غرار لاس فيغاس، أن أضحت ساحة للحرب الإلكترونية، ونصب الصواريخ المضادة للدرع الصاروخية التي ينشرها حلف الناتو في شرق أوروبا، ولمواجهة ذلك التجسس العسكري الذي تقوم به أمريكا على غرب روسيا حتى الأورال انطلاقًا من جمهوريات البلطيق.
وفي محاولة لكسر حدة الهجوم الأمريكي هذا، استطاعت روسيا أن تعيد ولاء جمهوريات آسيا الوسطى، وأن تدفع إليهم مقابل إخلاء القواعد العسكرية الأمريكية في بلادهم، كما حدث في قرغيزستان وأزبكستان، وإن لم يمنع ذلك روسيا من أن توفر الدعم اللوجستي للقوات الأمريكية في حربها في أفغانستان، ولكن ذلك يعني أن روسيا يمكنها أن تقبل باستخدام أمريكي لقواعدها العسكرية، ولكنها لا تقبل وجودًا عسكريًّا أمريكيًّا على تخومها مباشرة. كذلك اندفعت نحو البحر الكاريبي، ودول أمريكا اللاتينية، التي عانت كثيرًا بسبب أنها بمنزلة حديقة خلفية للولايات الأمريكية، مستغلة الرئيس الراحل شافيز، رئيس فنزويلا، وعداءه لها، بأن نشرت عددًا من القطع البحرية، ونشرت قوات جوية في مطار ليبيرتادور العسكري. ولكن يبدو أن هذا الوجود لم يستفز الولايات المتحدة، خاصة أن القوات البحرية قديمة، وقد تعرضت لحوادث أساءت لتاريخ السلاح الروسي وسمعته ومكانته.
ومن الواضح أن التوسع الأوروبي والأمريكي على حساب حدائق روسيا الخلفية كان أوضح وأكبر، حتى إن محاولات التجمع التي قادتها روسيا، والتكتل الإقليمي، مثل تكتل شنغهاي، لم يحقق طموحات روسيا، خاصة أن روسيا قد أخذته في طريق عسكري، في حين أن الصين تريد منه تحقيق طموحاتها التجارية والاقتصادية، ومستقبل الصين يقوم على التعاون والعلاقات الودية، وليس الصدامية، كما هي الحال مع روسيا؛ لذا فإنه يمكن القول إن الصين حققت أهدافها من هذا التجمع بحصولها على مصادر الطاقة وشرعية مزيد من الغزو التجاري، لكن لا يمكن إنكار أن الناتو قرب الصين من الهدف الروسي للتجمع، حيث باتت الصين وروسيا تتحدثان لغة أمنية مشتركة واحدة.
كان من الأفضل لروسيا بدلًا من التوغل نحو أمريكا اللاتينية لمحاولة الفكاك من الطوق الأمريكي حولها، أن تسعى إلى حلحلة المشكلات التي تقيمها في شرق أوروبا الذي خرج من من القبضة الروسية بالفعل، ولم يبق سوى أوكرانيا التي كادت تنضم إلى الاتحاد الأوروبي لولا الأزمة العسكرية التي أثارتها روسيا، واستيلاؤها على شبه جزيرة القرم، وميناء سيباستبول، والتهديد بتجزئة أوكرانيا إلى شرقية روسية، وغربية أوروبية، كذلك لعله من الأفضل لروسيا أن تحمي أنابيب النفط التي تعبر منطقة القوقاز بدلًا من أمريكا، وأن تتقدم لتلك الدول باعتبارها دولة صديقة لتزيل آثار المآسي التي كانت، سواء في العهد القيصري أو السوفيتي، وعلى دول تلك المنطقة البحث عن راية للتجمع لتحقيق أهداف تلك الشعوب، والبعد عن التهديد الروسي للأقليات المسلمة بالتهديد بالسحق. لقد فقدت روسيا الكثير في حديقتها الخلفية، وهو ما لا يمكن تعويضه بسهولة، بل إنها تتراجع بشدة عن أن تكون منافسًا مكافئًا للولايات المتحدة.
المبحث الثاني: تداعيات على العالم العربي
وأكد فيه المؤلف أن الاعتراف بجميل الاتحاد السوفيتي السياسي والاقتصادي والعسكري على بعض الدول العربية لا شك فيه، خاصة مصر وسوريا، وكان الدعم العسكري لمصر- خاصةً- من الأمور التي مكنتها من بناء جيشها الحديث، كما أن مشروعات التنمية، وفي مقدمتها السد العالي، تقف شاهدة على العون السوفيتي، لكن مع ذلك لم تسلم روسيا من التقصير؛ لكونها ثاني دولة تعترف بإسرائيل، وأن الأسلحة التي قدمتها للعرب كانت أسلحة دفاعية، وليست هجومية، ولكن لا يمكن إنكار أن الدول العربية، وليس الروس، هي من نكثت بالوعود، سواء بسبب الارتماء في الحضن الأمريكي طواعية، أو من خلال الشقاق والتنافر العربي بين دوله.
ومع تراجع الوجود الروسي في المنطقة العربية، وانهياره عام 1991، بدأت روسيا بالبحث عن حلول وسط في تعاملها مع دول المنطقة وقضاياه، وكان العرب يتوقعون أن تضطلع روسيا بدور في المنطقة كما كان في السابق، لكن التاريخ لا يكرر نفسه، وروسيا اليوم ليست الاتحاد السوفيتي في خمسينيات القرن الماضي وستينياته، فلم يكن لها شأن في الحصار العراقي، ولم تندد بمآسي غزة والفلسطينيين، بل إنها اعتبرت أن إسرائيل تدافع عن وجودها، بل إن إسرائيل قارنت موقفها بموقف روسيا في جورجيا.
وتجد روسيا نفسها فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية الإسرائيلية في موقف صعب، خاصة أن هناك مليون يهودي روسي يعيشون في إسرائيل، ولهم دور سياسي في تلك الدولة لا يمكن إغفاله. الأمر مربك ومحير، فكيف يفصل العرب بين الروس اليهود وهم يزايدون على اليمين المتطرف، وأصدقائهم الروس في روسيا، لكن يبدو أن العرب أنفسهم قدموا الحجة لروسيا، فكيف يطلب منها قطع علاقات مع دولة يقيم العرب معها علاقات سرية وعلنية. ويرى البعض أن موقف روسيا من إيران موقف جيد، خاصة أنها لا تنكر عليها قدراتها النووية؛ بل تدعمها في سبيل الحصول عليها، ناسين أن روسيا تدعم المذهب الشيعي في العالم الإسلامي على حساب السنة، وهذه المساندة ليست لصالح السنة، خاصة أن إيران لم يسمع لها صوت للتنديد بموقف روسيا من الشيشان.
لقد استطاعت روسيا أن تحقق بعض المكاسب السياسية في دول الخليج العربي من خلال التنديد بالإرهاب الذي ضرب دولة مثل السعودية، وهو ما جعل إعلام تلك الدول يتراجع عن لغته التي ندد من خلالها بالهمجية الروسية ضد الشيشان والإقليات المسلمة في القوقاز، حتى إن مصطلحات من قبيل “الإبادة الجماعية” و” التطهير العرقي” تراجعت، ولم يعد لها استخدام.
إن تجربة روسيا ثرية وناجحة في كيفية التعامل مع هذا الكم الكبير من التعددية الإثنية والدينية والثقافية في تلك المساحة الضخمة الشاسعة بمواردها الكبيرة، وما زالت قادرة على جمع جميع تلك الخيوط في قبضة واحدة، فهل يمكن أن يستفيد العرب من تلك التجربة؟ هل يمكن أن يستلهم العرب النموذج الروسي في ذلك الوئام الديني بين تلك المذاهب والديانات المتعددة في تحقيقه على أرض الواقع في لبنان والعراق والسودان؟ قد تكون اللغة الروسية والثقافة الروسية حائلًا يمنع انتقال هذه التجربة، ولكن من الممكن أن تستغل روسيا (روسيا اليوم النسخة العربية، وكذلك وكالة ريا نوفستي العربية) في الوصول إلى سكان العالم العربي، كما أن الاختراقات الروسية في مجال الطب من الممكن أن تسهم في بناء جسر من الثقة بين العالمين الروسي والعربي.
الخاتمة: الحاجة إلى رأس ثالث
أكد المؤلف في هذه الخاتمة أن التغيير، وقيام الدول وانهيارها من سنن الكون، وأن خريطة العالم ملأى بمراكز نووية كانت تشكل دولًا عظمى، وأقطابًا بارزة في السيطرة على العالم على مر التاريخ، ولكن الموقف في روسيا الآن، التي كانت أحد تلك الأقطاب في النصف الثاني من القرن العشرين، لا يمكن التكهن به؛ هل ستنتهي روسيا إلى أن تكون مجرد دولة إقليمية ذات وزن، أم يمكنها أن تستعيد هيمنتها بوصفها قطبًا دوليًّا إلى جوار الولايات المتحدة الأمريكية. ومع أن جميع المبررات والحجج يمكنها أن تحمل الصواب والخطأ، فإن القطع بمستقبل روسيا غير ممكن.
لا يمكن إنكار أن روسيا تمتلك مقومات الدول العظمى من مساحة، وموارد معدنية، ومصادر للطاقة، وسكان يمتازون بخصائص جيدة من التعليم والثقافة، فضلًا عما أسماه بعضهم باسم “الباسيونارنست”، أو “الولع بالسيطرة على العالم”، وهذا الواقع قد يستمد من الدور التاريخي الذي قامت به روسيا في القضاء على النازية، أو من خلال الكنيسة الأرثوكسية ومكانتها العالمية، وهو ما يظهر في إطلاق اسم “روما الثالثة” على موسكو، أو من خلال الدول التنويري الذي قام به الروس في آسيا الوسطى، وتحويل سكانها من المرحلة البدوية ودولة القبيلة إلى الدولة الحديثة.
يمكن لروسيا استعادة مكانة القطب الدولي من خلال عدم الاستدراج نحو سباق تسلح مع الغرب، والحفاظ على وحدتها الفيدرالية، ومحاولة التغلب على حالة التطويق الغربي لها في جمهورياتها السوفيتية السابقة، والسعي إلى تطوير قدراتها العسكرية بما يسمح لها بحرب محدودة، كما حدث في جورجيا، والسعي كذلك إلى تطوير تكنولوجياتها لفتح أسواق جديدة خاصة في الخليج العربي، وكذلك خدمة ما بعد البيع، ومحاولة استعادة الدور السوفيتي فيما كان يقدمه من سلاح دون مقابل لدول العالم الثالث، وتطوير نهجها إلى مرحلة النيوكولينيالية كما قامت بذلك الدول الغربية، وحاجتها الرئيسة إلى رأس ثالث، فإذا كان العلم الروسي يحمل رأسين أحدهما ينظر إلى الشرق، والآخر إلى الغرب، فإن روسيا اليوم بحاجة إلى رأس ينظر نحو الجنوب، خاصة أن دول هذا الاتجاه لا تحمل ضغينة تجاه روسيا، سواء في إفريقيا أو أمريكا اللاتينية، ويمكن لروسيا أن تحقق اختراقًا في هذا الاتجاه. قد تكون هذه فرصة روسيا الوحيدة، وإن كانت أقرب إلى فرص الخيال السياسي.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.