نستكمل في هذا المقال عرض كتاب “استعادة روسيا مكانة القطب الدولي”، وهو من تأليف عاطف معتمد عبد الحميد، ويتألف من 140 صفحة، وصادر عام 2009 عن الدار العربية للعلوم، ومركز الجزيرة للدراسات.
بدأ بمقدمة صغيرة عن صيحة “الروس قادمون” التي اكتسبت صيتها بشكل خاص في القضاء على النازية في الحرب العالمية الثانية، وتبوُّء الجيش الروسي مكانة جيدة ومرموقة فترة طويلة حتى السقوط على يد المجاهدين في أفغانستان، وانسحابه المرير عام 1989، مما انعكس على تراجع مكانة الجيش بسبب خفض ميزانيته على يد ميخائيل غورباتشوف، وهو ما أدى إلى محاولة انقلاب فاشلة عام 1991، لم تؤدِّ إلا إلى زيادة مأساة الجيش الروسي، خاصة مع تفكك الدولة وانهيارها، وهزيمته في حرب الشيشان الأولى، وإرغامه على تقليص قدراته النووية، ومشاهدته للتمدد حلف الناتو على أراضٍ كانت خطوطًا حمراء من قبل، وانتظاره المساعدات من قبل ألمانيا، وتفشي الرشى والسرقة والفساد في الجيش، والسعي إلى محاولات القضاء على تلك المظاهر.
المبحث الأول: الحاجة إلى الإصلاح
يبدأ المؤلف في هذا المبحث بالإشارة إلى محاولات روسيا لتعويض الفجوة بينها وبين العالم الغربي في قدراته وإمكاناته العسكرية، حيث سعت روسيا بقوة إلى إصلاح قواتها العسكرية، سواء من خلال تخفيض عدد أفراد الجيش من 3 ملايين إلى نصف هذا الرقم، والدمج بين التجنيد الإجباري والاحتراف، ومحاولة تعويض الأسلحة القديمة، وتوفير أخرى حديثة، وقد ظهرت بوادر هذا التحسن مع حرب الشيشان الثانية، ولكن حربها مع جورجيا جعلتها ترى الفارق بين الجيشين، وأن الجيش الجورجي بأسلحته الأمريكية والإسرائيلية حقق قفزة نوعية في إمكاناته وقدراته.
وبين رأيين بأن هذا الإصلاح هو رد فعل على توغل الناتو في أوروبا الشرقية والدرع الصاروخية بحجة تهديدات إيرانية، انجرفت روسيا في سباق عسكري وصل إلى ادعاء قدرات نووية وصاروخية لم تشاهد من قبل، ورأي آخر يرى أن هذا الإصلاح ما هو إلا تعويض للفترة الزمنية الطويلة التي أدت إلى انكفاء لقدرات روسيا وإمكاناتها العسكرية، وهو ما أدى إلى صدام بين المؤسستين السياسية والعسكرية، خاصة أن الإصلاح يعني مزيدًا من إحالة الجنرالات والضباط إلى التقاعد، وهو ما ظهر بقوة في إقالة الرئيس ميدفيديف عام 2009 مدير المخابرات العسكرية لرفضه تلك العمليات، ومع ذلك فإن روسيا مواصلة سعيها في الإصلاح برفع ميزانية برنامج التسليح من 25 مليار دولار إلى 150 مليار دولار، لكن هذا التطوير مرتهن بمدخولات روسيا الدولارية من عوائد النفط والغاز.
المبحث الثاني: تجارب في كل اتجاه
وفيه عبّر المؤلف عن رغبة روسيا في استعادة مكانتها بوصفها قوة عظمى من خلال كثير من الميادين، يأتي ميدان المحيط القطبي بثرواته وإمكاناته النفطية واحدًا منها في ظل صراع مع دول النرويج، وكندا، والولايات المتحدة، وآيسلندا، والدنمارك، وعدم اتفاق على تقاسم المنطقة الاقتصادية، وكان وصول البعثة الروسية إلى عمق المحيط القطبي، وقطعها 4000 كم، وغرسها العلم الروسي هناك، دليلًا على سبق وإمكانات علمية روسية، واعتُبر إنجازًا يضارع وصول الإنسان إلى سطح القمر.
وفي ميدان آخر، حاولت روسيا تعويض فترة الاهتزاز التي على إثرها فقدت جزءًا كبيرًا من رصيدها في مجال الفضاء، فعادت روسيا بقوة من خلال مواظبتها على إطلاق مركبات الأبحاث إلى المحطة الدولية، بل إن سفن الشحن الروسية أضحت هي المستخدمة- على نحو رئيس- في نقل المؤن والمعدات إلى محطة الفضاء الدولية. وفي عام2001، اخترعت روسيا مجالًا فضائيًّا جديدًا، وهو السياحة الفضائية، التي تحولت تدريجيًّا إلى أمر يتنافس فيه الأثرياء على مستوى العالم.
وفي ميدان آخر تعبر فيه عن قوتها العالمية، خرجت قطعها البحرية لمقاومة القرصنة في مياه البحر العربي، وخليج عدن، وقبضت على كثير من القراصنة، مدعية أن الأموال التي يجنونها يساعدون بها المتمردين في حروب القوقاز، وبذلك وجدت لنفسها مبررًا للوجود في تلك المياه الدفيئة، بعد فترة انقطاع طويلة. كذلك قدمت لها سوريا ميناءي طرسوس واللاذقية لتنفتح أمامها مياه البحر المتوسط خروجًا من ضيق مياه البحر الأسود، وكان هناك تكهنات بأن يُسمح لها بالوجود البحري، وقواعد عسكرية في اليمن وليبيا، ولكن ربما ترجئ الأحداث الملتهبة في تلك الدول في الوقت الحالي تلك التوجهات.
المبحث الثالث: العودة إلى سوق السلاح
وفيه إشارة قوية لرغبة روسيا في تعويض ما فاتها من مدخولات ضخمة من خلال عوائد تصدير السلاح إلى كثير من مناطق الصراع، والمثير للضحك أن روسيا تعتمد على قدرات الولايات المتحدة التي تزكي الصراعات وتؤججها لتشارك في تصدير الأسلحة إلى تلك الأطراف المتنازعة، وتأتي آسيا، والعالم العربي، ودول إفريقيا وأمريكا اللاتينية- على الترتيب- أسواقًا للسلاح الروسي، الذي وجد طريقه من خلال معارض الأسلحة التي يشارك فيها للتعبير عن قدراته وإمكاناته، خاصة أسلحة المعدات الجوية، والدفاع الجوي، ويمثلان ثلاثة أرباع ما تصدره روسيا، وتحتل روسيا المركز الثاني بعد الولايات المتحدة بصادرات تقدر بنحو من 7 إلى 9 مليارات دولار، وهو وإن مثَّلَ نصف ما تصدر به صاحبة المركز الأول، فإن هناك إحصاءات تشير إلى تقدم مبيعات روسيا، وتراجع مبيعات الولايات المتحدة.
المبحث الرابع: حرب بلا بارود
نجح المؤلف في هذا المبحث في إظهار أهمية موارد روسيا الاقتصادية الممثلة في النفط والغاز، ومدى قدرة روسيا على استخدام تلك الموارد ورقةَ ضغطٍ وسلاحًا قويًّا لصالح العودة الروسية إلى الأجواء العالمية، وتحقيقها من خلالهما مصدرًا ضخمًا للدخل. وتأتي روسيا ثاني دول العالم من حيث تصدير النفط بعد السعودية، أو أولى الدول خارج منظمة أوبك، كما أنها أكبر مخزون للغاز في العالم، وقد استطاعت روسيا أن تلعب بحاجة أوروبا إلى مصادر طاقتها، وتمكنت من تحقيق هيمنة وتحكم على مستقبل أوروبا الاقتصادي، وهو ما أعاد كثيرًا من مصطلحات الحرب الباردة، مثل “تركيع أوروبا”، و”حرب الهيمنة”، و”حرب أنابيب الغاز”، ويرجع ذلك إلى أن روسيا تعد مصدرًا لنحو 30 % من احتياجات أوروبا للطاقة، ومن المتوقع أن ترتفع تلك النسبة إلى 70 % في عام 2030، وتتفاوت حاجة دول أوربوا إلى مصادر الطاقة الروسية بين ألمانيا بنسبة 32 %، وبولندا بنسبة 65 %، ودول شرق أوروبا بنسبة تتراوح بين 90 و95 %.
وقد حققت روسيا فتحًا علميًّا من خلال تسييل الغاز بتحويله عن طريق التبريد من الحالة الغازية إلى الحالة السائلة، والعمل على تصديره إلى دول شرق آسيا، وكذلك سعيها إلى بناء ما يعرف بـ”أوبك الغاز” مع كل من قطر وإيران، خاصة أن ثلاثتهم يملكون 65 % من احتياطي الغاز العالمي. كذلك تسعى روسيا إلى السيطرة على غاز دول وسط آسيا من خلال التحكم في تصدير غاز تلك الدول ونفطها عبر شبكة الأنابيب الروسية التي تصل إلى أوروبا، وهو ما تمكنت من خلاله أن تتحكم في المشروعات الأوروبية بمشاركة تركيا الساعية إلى تقليص الضغط والتحكم الروسي في مصادر الطاقة، من خلال تنويع أوروبا مورديها من الغاز والنفط، عن طريق إيصال نفط بحر قزوين وغازه من خلال شبكة أنابيب عابرة لتركيا، وهو ما جعل أوروبا ما زالت تحت الهيمنة الروسية، خاصة أن حرب روسيا في جورجيا استخدمتها وسيلةً لإيصال رسالة بأن مشروع أنابيب “نابوكو” غير آمن، وهو ما جعل أوروبا تفضل التعامل مع روسيا الأرثوذكسية ذي التاريخ القيصري على أن تتعامل مع تركيا المترجحة بين الإسلامية والعلمانية.
ومن نافلة القول بأن الدول ذات القدرات العسكرية والتاريخ السياسي الحاضر بقوة في المشهد العالمي يمكنها أن تستغل ثرواتها ومواردها بكفاءة كي تعيد بناء قدراتها كدولة لها إرادة سياسية واقتصادية، والتاريخ العربي ليس بعيدًا عن ذلك؛ فحينما كان العرب لديهم بعض من الإرادة السياسية تمكنوا من استغلال بترولهم ورقةَ ضغطٍ ضد الدول المساندة لإسرائيل في سبعينيات القرن الماضي، أما الآن فإن روسيا هي التي تلعب بتلك الورقة في الفضاء الجيوسياسي العالمي، وتسعي روسيا إلى تفويت فرص تحكم أوكرانيا وبيلاروس في شبكة أنابيب الطاقة العابرة لأراضيها، من خلال بناء خط أنابيب تيار الشمال وتيار الجنوب (دُشِّنَ الخط الأول في نوفمبر/ تشرين الثاني 2011، في حين ألغت روسيا الخط الثاني عام 2014 بسبب حرب القرم، والأزمة الأوكرانية، والعقوبات الاقتصادية التي فرضها الاتحاد الأوروبي على روسيا، واستبدلت به أنبوبًا يصل بالغاز إلى تركيا).
لقد حولت روسيا مصادر طاقتها إلى أكثر من سلعة تحتاج إليها أوروبا. وعلى الرغم من سعي أوروبا لتنويع مصادرها، سواء بالاعتماد على الغاز القطري والإيراني، أو غاز دول شمال إفريقيا، فما زالت روسيا تمتلك الاحتياطي الأكبر والآمن الذي يحقق لأوروبا الاستثمار الآمن في مشروعاتها الاقتصادية والصناعية، فضلًا عن القرب والجوار الجغرافي الذي يمكّن نقل نفط روسيا وغازها على نحو أسرع مما عليه المصادر الأخرى، وهو ما يجعل أمد الحرب بين الطرفين طويلة وقائمة، كما هو مشاهد حاليًا من عقوبات اقتصادية على روسيا بسبب أزمة أوكرانيا، ورد روسيا على تلك العقوبات بإلغاء مشروع أنابيب التيار الجنوبي.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.