مدخل
“تنظيم بلا أرض، ولكنه يتلون مع المتغيرات”، مع كل صراع يعود داعش من جديد ليتصدر المشهد، فمنذ بدء إسرائيل حربها على غزة، ثم لبنان، ثم الهجمات المتبادلة بينها وبين إيران وحلفائها في لبنان وسوريا والعراق واليمن، برز تنظيم الدولة الإسلامية محاولًا استغلال البيئة المضطربة في الإقليم لإعادة تنظيم صفوفه لخدمة أجندته التوسعية، ليخلق شبكة معقدة من المتطرفين على مستوى العالم.
وفي ضوء محاولات التنظيم إعادة التموضع بعد تراجع سيطرته وانتكاساته المتكررة في المنطقة على مدار السنوات القليلة الماضية، تضعنا قراءة النشاط العملياتي لتنظيم داعش في ظل الحرب الدائرة في الإقليم أمام عدة تكهنات بشأن مستقبل عملية إحياء التنظيم، وخريطة تشكيل ساحات لإرهاب داعش، وهل سيعتمد على الساحات التقليدية في سوريا والعراق، أم سيتجه إلى تصعيد عدائه من خلال استهداف إيران وإسرائيل مباشرة، أم سيتوسع في ساحات جديدة بوسط آسيا وجنوبها، أم يبتعد أكثر إلى القارة السمراء مستندًا إلى فروعه في معظم الدول الإفريقية؛ ليدشن خلافة إسلامية في ضوء الجهاد العالمي الذي يتبناه أبناء التنظيم.
لعل من أبرز المخاوف التي تثار من تداعيات الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة ولبنان هو عودة تنظيم داعش إلى العمل في عدة ساحات، في محاولة لاستعادة نفوذ التنظيم في المنطقة، إذ يكثف داعش عملياته الإرهابية، خاصة في سوريا والعراق، فمع أن الهجمات بلغت أدنى مستوياتها على الإطلاق في الربع الأخير من عام 2023، فإنها تضاعفت مع بداية هذا العام؛ ما يشير إلى نهج مختلف للتنظيم في إطار استغلال الوضع المشتعل في المنطقة، وتركيز الدول الغربية على دعم إسرائيل ضد إيران ومحور المقاومة.
ونتيجة لتنامي النشاط العملياتي لداعش منذ بداية الحرب الإسرائيلية، أعلنت الولايات المتحدة استهداف المعسكرات التابعة لداعش في الداخل السوري والعراقي، وذلك في إطار الرد على تزايد محاولات داعش الاستيلاء على مساحات شاسعة من الأراضي لبسط نفوذ التنظيم، غير أن تلك الخطط تتطلب قوة بشرية إضافية كبيرة، في حين أن عدد جنود داعش حاليًا نحو 2500 جندي في العراق، و900 آخرين في سوريا؛ ما يحفز التنظيم على تجنيد مقاتلين جدد، وهو ما يؤدي إلى تنشيط حركة الجهاد العالمي بطريقة لم تشهدها منذ تأسيس التنظيم.
ثمة عدة أهداف محورية يطمح تنظيم داعش إلى تحقيقها في ضوء تصاعد حدة الحرب الإسرائيلية على غزة ولبنان، من أبرزها ما يلي:
قد تجد داعش الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة ولبنان الورقة الأخيرة لعودة التنظيم إلى الواجهة مرة أخرى بعد سنوات من التراجع ونيل الخسائر، من خلال ما يلي:
في إطار محاولات إحياء التنظيم، ثمة عدة تحركات يمكن لداعش من خلالها، ومن خلال استغلال الحرب الدائرة بين إسرائيل من جهة ودول الإقليم من جهة أخرى، إعادة بسط نفوذه، وتحقيق أهداف التنظيم، وتتمثل تلك التحركات في:
السيناريو الأول: العودة إلى الساحات التقليدية في سوريا والعراق: يعزز حدوث هذا السيناريو نجاح داعش خلال الأشهر الأخيرة في استعادة جانب مهم من نشاطه وتحركاته على الساحة السورية، فضلًا عن تمكنه من توظيف المساحات الخطرة في الصحراء السورية لإعادة بناء وحدات التنظيم، ويأتي من ضمن مسوغات ترجيح هذا السيناريو تنامي الهجمات الإرهابية للتنظيم في سوريا والعراق، حيث بلغت مجموع العمليات المنفذة من قبل داعش في النصف الأول من عام 2024، ما يعادل ضعف عمليات عام 2023 بكامله.
ولعل فرار عدد من العناصر الأجنبية التابعة لـداعش في مطلع سبتمبر (أيلول) الماضي من سجن المطاحن في مدينة الرقة – الواقعة تحت سيطرة قسد – يشير إلى عودة واسعة النطاق لعمليات التنظيم في سوريا والعراق، خاصة مع استمرار الخسائر التي تتكبدها التنظيمات الشيعية في المنطقة في سياق الحرب الإسرائيلية الدائرة؛ ما يشكل فرصة مهمة لداعش لتوسيع نفوذه، وتجنيد مزيد من المقاتلين من السنة الرافضين لمسار الحرب من لبنان وسوريا والعراق، غير أن هذا السيناريو تقوضه عودة نشاط قوات التحالف الدولي إلى العراق وسوريا.
السيناريو الثاني: عمليات تكتيكية ضد إيران وإسرائيل: قد يوظف تنظيم داعش الحرب الإسرائيلية في غزة ولبنان في شن عمليات إرهابية على أهداف إسرائيلية وإيرانية، سواء في الداخل أو في الخارج، ويدلل على احتمال حدوث هذا السيناريو العملية النوعية التي أعلن التنظيم مسؤوليته عنها في يناير (كانون الثاني) الماضي، حيث استهدف داعش هجومين قرب مقبرة الشهداء بمحافظة كرمان الإيرانية بالتزامن مع إحياء الذكري الرابعة لاغتيال قائد فيلق القدس قاسم سليماني.
وعلى غرار ذلك، قد يتمكن التنظيم من استهداف الداخل الإسرائيلي في ظل سلسلة الاختراقات الواسعة النطاق التي تقوم بها قوى محور المقاومة، خاصة حزب الله اللبناني للمقار الحيوية للجيش الإسرائيلي، ولكن بالنظر إلى الهجمات التي استطاع التنظيم تنفيذها داخل إسرائيل خلال فترات تمدده وانحساره، فإنها لم تتعدَ كونها هجمات بسيطة قائمة على إستراتيجية الذئاب المنفردة، كتكتيكات إطلاق النار، والدهس، والطعن؛ ما قد يجعل داعش يتجه إلى استهداف أسهل ومؤثر على نحو أكبر؛ وهو مصالح إسرائيل في الخارج، خاصة في الدول الغربية، مثل المقار الدبلوماسية الإسرائيلية، كجزء من سياسة الانتقام التي يتبناها التنظيم بزعم نصرة المسلمين في العالم، مثلما تعرضت السفارة الإسرائيلية في السويد والدنمارك لهجومين إرهابيين على يد التنظيم في الأشهر القليلة الماضية.
السيناريو الثالث: التوسع في ساحات جديدة في إفريقيا وآسيا الوسطى: فرضت عمليات التحالف الدولي صعوبة أكبر على محاولات بسط داعش نفوذه في العراق وسوريا؛ ما يجبر التنظيم على استغلال أفرعه لإثبات قوته عبر التوجه تحو ساحات جديدة؛ في غرب إفريقيا، والصومال، وأفغانستان، ووسط آسيا وجنوب شرقها، إذ يرمي داعش إلى النشاط في أماكن يصعب العثور عليه فيها؛ ما يتطلب أساليب مختلفة لملاحقته. ويرجّح حدوث هذا السيناريو الصدى القوي الذي يجده تنظيم داعش خراسان على نحو خاص في آسيا الوسطى، حيث يبدو أن النجاح الأساسي الذي حققه التنظيم في التجنيد يرتبط بتغلغله في جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابقة، وخاصة طاجيكستان معقل عناصر داعش خراسان، إذ يطمح التنظيم إلى زرع خلايا وشبكات صغيرة، ولكنها عالية القدرة، يمكن أن تكون بمنزلة أساس لهجمات مستقبلية في تلك الساحات.
فضلًا عن هذا، فإن داعش خراسان، الذي يعادي حركة طالبان منذ وصولها إلى السلطة في أفغانستان، يستغل المنافسة القائمة بين الحركات الجهادية في كابول لبسط نفوذه من خلال عمليات متكررة، تهدف إلى تهديد بقاء طالبان في الحكم، وفرض موطئ قدم للتنظيم في البلاد التي تعد بوابة الإرهاب في منطقة جنوب آسيا. كما يفترض هذا السيناريو وصول إرهاب تنظيم داعش إلى القارة الإفريقية عبر الصومال، واستغلاله الصراع الدائر بين حكومة الصومال الفيدرالية والحكومة الانفصالية في إقليم أرض الصومال، وينافس حركة شباب المجاهدين في تكوين إمارة إسلامية في البلاد. ولم يكتفِ التنظيم بمنطقة القرن الإفريقي؛ بل ينتشر بضراوة في غرب إفريقيا، مستغلًا البيئة الأمنية المضطربة في تلك البلدان بعد سلسلة من الانقلابات العسكرية في السنوات القليلة الماضية.
تقدم الحرب الإسرائيلية على غزة ولبنان فرصة ذهبية لداعش لإعادة إحياء التنظيم، فمن جانب نجد أن إيران وحلفاءها في سوريا والعراق ولبنان -الذين عارضوا داعش منذ نشأتها- سيعطون الأولوية لمواجهة إسرائيل على محاربة التنظيم، مما يزيل عقبة رئيسة تقف في طريق توسع داعش وتمدد نفوذه، ومن جانب آخر فإن الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، تكرس مواردها لدعم إسرائيل في حربها بالمنطقة، وهو ما يضعف جهود التحالف الدولي في محاربة تنظيم داعش؛ ما يعني أننا الآن أمام أخطر محاولة من محاولات عودة داعش في ظل المنطقة المنقسمة من جرّاء الحرب الدائرة بين إسرائيل على غزة ولبنان وإيران وحلفائها الإقليميين، التي تواجه أحد المصيرين: إما فوز إسرائيل وسيطرتها على المنطقة؛ ما يفرض احتلالًا غربيًّا لسوريا والعراق، أو -على أقل تقدير- وجودًا عسكريًّا أمريكيًّا دائمًا في الإقليم، وإما نجاح إيران وحلفائها بالمنطقة في استنزاف إسرائيل، والنتيجة في كلتا الحالتين واحدة؛ وهي دخول المنطقة في حرب وفوضى ممتدة، وهي الصورة التي لطالما حلم بها داعش لترسيخ وجوده، وهي الملاذ الأخير لإحياء خلافة التنظيم المزعومة.
ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.