مقالات المركز

كيف توظف دول شرق أوروبا رواية التهديد الروسي لتعزيز الوجود الأطلسي؟

اتهامات البلطيق المتكررة.. تمهيد لتصعيد جوي بين روسيا والناتو


  • 22 سبتمبر 2025

شارك الموضوع
i مصدر الصورة: lrt.lt

أصدرت وزارة الدفاع الروسية بيانًا نفت فيه نفيًا قاطعًا الاتهامات الإستونية بأن مقاتلات روسية اخترقت مجالها الجوي، وأكدت موسكو في بيان وزارة الدفاع، الصادر صباح السبت 20 سبتمبر 2025، أن طائراتها التزمت بالمسار الجوي المقرر ولم تنحرف عنه، كما أكدت أن خط الرحلة مر فوق المياه الدولية في بحر البلطيق، وعلى مسافة تزيد على ثلاثة كيلومترات من جزيرة فايندلو (جزيرة تقع في أقصى شمال إستونيا).

تقول الرواية الإستونية إن 3 مقاتلات روسية من طراز “ميغ-31” دخلت المجال الجوي الإستوني قرب جزيرة فايندلو دون إذن، وبقيت داخله قرابة 12 دقيقة دون خطط طيران أو تواصل مع مراقبة الحركة الجوية في إستونيا، مع إغلاق أجهزة الإرسال.

يوم 12 سبتمبر (أيلول) 2025، تناولت في مقال سابق حادثًا مشابه، وهو اتهام وارسو لموسكو باختراق مسيراتها الأجواء البولندية، وكان النفي الرسمي الروسي هو سيد الموقف، ولا يزال. وفي حالة حادثة إستونيا أيضًا، واتهام تالين لموسكو، يبقى الإنكار الروسي الرسمي هو الرد الوحيد على هذا الاتهام.

لكن هذا النفي المتكرر لا يمكن النظر إليه على أنه مجرد رد تقني على شكوى عابرة، بل يتحول -في رأيي- إلى جزء من معادلة أوسع للصراع الروسي الأطلسي، في مسرحه الجديد المحتمل بشدة، وأقصد به مسرح البلطيق، فكل حادثة جوية أو بحرية تقع باتت تكتسب أهمية إستراتيجية تتجاوز الآن طابعها التكتيكي، الذي كنا نصنفها به سابقًا؛ لندرة الحدوث، وظروفه الزمانية.

وإذا قرأنا النفي الروسي بعين تحليلية، سنراه يركز على ثلاثة أبعاد رئيسة؛ أولًا: الالتزام بالقانون الدولي، عن طريق الإشارة إلى أن تحليق المقاتلات الروسية كان فوق المياه الدولية، حسبما جاء في بيان وزارة الدفاع المشار إليه، وهو ما أراه يعكس حرص موسكو مجددًا على عدم تقديم ذريعة، مادة قانونية، أو سياسية، تُستخدم ضدها.

ثانيًا: الصورة الإعلامية، حيث تسعى موسكو إلى إظهار أن الاتهامات البلطيقية ليست سوى جزء من حملة دعائية أطلسية. ثالثًا: يحاول الكرملين التحكم في مستوى التصعيد؛ فبيان وزارة الدفاع الروسية صيغ بلغة فنية تقنية هادئة، تظهر إدراك موسكو خطورة الاحتكاك المباشر في أجواء البلطيق، في الوقت الراهن. فمنذ بداية الحرب الأوكرانية، تحولت دويلات البلطيق إلى خط أمامي لحلف الناتو في مواجهة روسيا، وأي حادثة، وإن بدت محدودة، تستغلها تالين، أو فيلنيوس، أو ريغا، ذريعة لتبرير مطالباتها بزيادة الوجود الأطلسي على أراضيها.

وإذا نظرنا إلى التوازن العسكري في البلطيق، سنرى أنه يعكس ذلك؛ فعلى مستوى القوات الجوية تمتلك روسيا في مسرح كلينينغراد (هي الجيب الروسي المشرف على بحر البلطيق، والمجاور لبولندا وهذه الدويلات، ويرتبط بإقليم روسيا البري عبرها) والبلطيق -حسب البيانات المتاحة بالطبع- من 120 إلى 140 طائرة مقاتلة من طرازات سو- 27، وسو- 30، وسو- 35، إضافة إلى قاذفات سو- 34، وطائرات استطلاع.

في المقابل، يعتمد الناتو في هذه المنطقة على نحو من 90 إلى 110 طائرة موزعة بين بولندا ودول البلطيق الثلاث، مع تناوب دوري للطائرات الأمريكية هناك.

وفي مجال الدفاع الجوي، تُظهر روسيا تفوقًا نوعيًّا بفضل منظومات إس- 400، وإس- 300 المطورة، التي تغطي معظم المجال الجوي للبلطيق. أما الناتو فيعتمد في الأساس على منظومات باتريوت الموجودة في بولندا وألمانيا، مع قدرات دفاعية محدودة في دول البلطيق نفسها.

وعلى الصعيد البحري، يحتفظ أسطول بحر البلطيق الروسي الحربي بما يقارب خمسين قطعة بحرية، تشمل فرقطات وكورفيتات وغواصات ديزيل حديثة. في المقابل، يمتلك الناتو نحو أربعين قطعة بحرية، معظمها ألمانية وبولندية ودنماركية، مع وجود بحري متناوب للبحريتين الأمريكية والبريطانية.

بريًّا، تعتمد روسيا على وحدات مشاة ميكانيكية منشورة هناك، وصواريخ إسكندر المتمركزة في كلينينغراد بمدى يصل إلى 500 كيلومتر (يدور الحديث الآن عن إمكانية زيادة مداها ليصل إلى ألف كيلومتر)، في حين يدير الحلف أربع مجموعات قتال متعددة الجنسيات في إستونيا ولاتفيا وليتوانيا وبولندا، تضم -وفقًا لآخر المعلومات التي اطلعت عليها- من ستة إلى سبعة آلاف جندي معزز.

قصدت البحث عن هذه المعلومات وتقديمها حتى أعكس -من خلال المقارنة- كيف أن روسيا تحتفظ في هذه المنطقة بتفوق دفاعي نوعي، يمكن تعزيزه، خصوصًا في الصواريخ والدفاع الجوي، في حين يراهن الناتو -حسبما فهمت من هذه البيانات- على قدرته على المناورة السريعة عن طريق التعزيزات من القواعد الأوروبية والأمريكية؛ لذلك تبدو الحسابات الروسية واضحة في هذا النفي المتكرر، فهو يعكس إستراتيجية مزدوجة؛ فمن جهة، يبدي الكرملين حرصًا على تجنب منح الناتو أي ذريعة لفرض قيود إضافية، أو التلويح بإجراءات عسكرية جديدة. ومن جهة أخرى، هناك إصرار روسي على تأكيد حرية الحركة العسكرية فوق المياه الدولية، كجزء من أنشطة دورية روتينية؛ وهنا تبدو موسكو وكأنها توازن بين الردع والتهدئة؛ فهي تُظهر التزامًا بالقانون الدولي، لكنها لا تتراجع عن ممارساتها الميدانية التي تؤكد حضورها الإستراتيجي في هذه المنطقة، وعدم خشيتها من أي تصعيد محتمل إن دفعتها الأحداث إليه دفعًا.

وباختصار أقول إن حادثة الاختراق “غير المؤكد” -على الأقل حتى لحظة كتابة هذه السطور- ووقوعها بعد حادثة مسيرات بولندا الأسبوع الماضي، لا يمكن فصلها عن المشهد الأشمل المتوتر أصلًا، الذي يزداد توترًا يومًا بعد يوم في البلطيق.

تمثل الواقعة لإستونيا وحلفائها فرصة لإبراز “التهديد الروسي”، وتبرير زيادة الحشد الأطلسي في هذه المنطقة، في حين أنها مناسبة لروسيا -من واقع قراءتي لرد فعلها- لإظهار نفسها طرفًا ملتزمًا بالقانون الدولي، يتعرض في الوقت نفسه لحملة دعائية، خصوصًا أمام حلفاء الجنوب أو شركائه.

وبذلك يظل مسرح البلطيق من أكثر نقاط التماس حساسية بين روسيا وحلف الناتو، حيث يمكن لأي حادث، وإن بدا خطأً عملياتيًّا فنيًّا وتقنيًّا بحتًا، وغير مقصود، أن يحمل أبعادًا تتجاوز حدوده المباشرة، ويفتح بذلك الباب لموجات جديدة من التصعيد السياسي والعسكري في الفضاء الأوروأطلسي المفخخ.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع